مواضيع

بحث حول النفاق في صدر الإسلام

من كتاب شقشقة المظلوم للشيخ زهير عاشور

تمهيد

«لقد اهتّم القرآن بأمر المنافقين اهتماماً بالغاً، وقد كرّ عليهم كرّاتٍ عنيفة، وذلك: بذكر مساوي أخلاقهم وأكاذيبهم وخداعهم ودسائسهم والفتن التي أقاموها على النبي (ص) وعلى المسلمين. وقد تكرر ذكرهم في السور القرآنية: كسورة البقرة، وآل عمران، والنساء والمائدة، والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب والفتح والحديد والحشر والمنافقون والتحريم»[1].

تعريف النفاق

«النفاق: هو استظهار الإيمان واستبطان الكفر والتّستر عليه، فالمنافق هو الإنسان الذي يستبطن الكفر ويستره ويستظهر الإيمان، وهو مصطلح إسلامي لم تعرفه العرب قبل الإسلام بالمعنى المخصوص به، وإن كان أصله في اللغة معروفاً»[2].

ففي المفردات: النفاق هو الدخول في الشرع من بابٍ والخروج عنه من باب وعلى ذلك نبّه بقوله <إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ>[3]، أي الخارجون من الشرع.[4]

المنافقون والوعيد الإلهي

وقد أوعدهم الله في كلامه أشد الوعيد:

  • ففي الدنيا بالطبع على قلوبهم وجعل الغشاوة على سمعهم وأبصارهم، وإذهاب نورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون!
  • وفي الآخرة يجعلهم في الدرك الأسفل من النار.[5]يقول تعالى <إِنَّ الْمُنافِقينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ولَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصيراً>[6].

المنافقون أشد أعداء الدين!

إنّ هذا الوعيد الرباني والتهديد السماوي بحق المنافقين سببه: «شدّة المصائب والبلايا والمحن التي أصابت الإسلام والمسلمين من كيدهم ومكرهم وأنواع دسائسهم؛ فلم ينل المشركون واليهود والنصارى من دين الله كما ناله من المنافقين!»[7].

فقد كانوا الأشد خطراً والأكثر فتكاً والأمضى سيفاً والأدمى جراحاً على الإسلام والمسلمين، ويكفي للإشارة إلى شدّة عداوتهم وضرورة الحذر منهم قوله تعالى <هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ>[8]، وكأنّه لا عدو إلا هم ولا عداوة إلا التي تصدر منهم!

المنافقون وصورٌ من كيدهم وإفسادهم!

«لقد ظهرت آثار دسائسهم ومكائدهم وأراجيفهم في أوائل سِنيّ هجرة النبي (ص) إلى المدينة حيث انسلّوا يوم أحد من الجند الإسلامي وقد كانوا يمثلون الثلث تقريباً، وعقدوا الحلف مع اليهود واستنهضوهم على المسملين، وبنو مسجد ضرار، وأشاعوا حديث الإفك إلى غير ذلك مما تشير إليه الآيات القرآنية.

حتى بلغ أمرهم في الإفساد وتقليب الأمور على النبي (ص) إلى حيث هددهم الله تعالى بمثل قوله <لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ والَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فيها إِلاَّ قَليلا>[9]»[10].

متى بدأت حركة النّفاق؟!

يوجد رأيان في المقام بالنسبة لـ«بدأ حركة النفاق»:

الرأي الأول: يرى بأنّ حركة النفاق بدأت بدخول الإسلام المدينة المنورة وأنّها استمرت إلى قرب وفاة النبي (ص) وبوفاته تنتهي حركة النفاق، فهذا الرأي لا يرى لحركة النّفاق أي وجود قبل دخول الإسلام المدينة المنورة ولا أي استمرار لها بعد وفاة النبي (ص).

الرأي الثاني: يرى بأنّ حركة النفاق بدأت ببدأ الإسلام وحصلت قبل الهجرة عندما كان المسلمون في مكّة، وأنّها استمرت حتى إلى بعد وفاة النبي محمد (ص).

والصحيح أن حركة النفاق بدأت ببدأ الدعوة وأن النفاق قد دبّ في أتباع الإسلام بمكة وقبل الهجرة وهذا ما تثبته الحوادث التاريخية الحاصلة في زمن النبي (ص) وكذا عند التأمل والإمعان في الحوادث الواقعة بعد رحيله!

مضافاً إلى ملاحظة طبيعة المجتمع وقوانينه وسنته الفعالة: التي تقضي بكون حركة النفاق حادثة قبل الهجرة الشريفة وأنّها مستمرة إلى ما بعد رحيله كما سيتضح ذلك قريباً.

استدلال القائلين بأن حركة النفاق قد بدأت بعد الهجرة

وقد أقام أصحاب الرأي الأول -القائلين بأن حركة النفاق قد بدأت بدخول الرسول الأكرم (ص) المدينة المنورة، وأنها استمرت إلى قرب وفاته- دليلاً على ذلك، حاصله: أنّ النبي (ص) والمسلمين بمكة وقبل الهجرة لم يكونوا من القوّة ونفوذ الأمر وسعة الطَول، بحيث يهابهم الناس ويتقهم، أو يرجوا منهم خيراً حتى يظهروا لهم الإيمان ظاهراً، ويتقربوا منهم بالإسلام حيث كان المسلمون مضطهدين ومعذبين بأيدي صناديد قريش ومشركي مكة المعادين لهم المعاندين للحق!

فلا يتصور -في مثل هذه الفترة الزمانية- وجود منافقين بين المسلمين، وذلك لعدم وجود المقتضي لذلك -وهو الخوف- وانتفاء الداعي والمبرر للنفاق!

نعم، بعد أن هاجر النبي (ص) إلى المدينة المنورة، وبعد أن كسب أنصاراً من الأوس والخزرج، وبعد أن استوثق من أقوياء رجالهم: أن يدفعوا عنه كما يدفعون عن أنفسهم وأهليهم.

ومع ملاحظة دخول الإسلام في بيوت عامتهم، فكان مستظهراً بهم على العدّةِ القليلة التي لم تؤمن به وبقيت على الشرك.

فمع ملاحظة كل هذه الأمور: يُتصور بروز حركة النفاق ووجود المنافقين بين صفوف المسلمين في مثل هذه الفترة الزمانية وبعد الهجرة النّبوية؛ حيث لم يسع البعض أن يعلنوا مخالفتهم للإسلام ويظهروا شركهم؛ لأن مثل هذا الأمر سيسبب لهم الضرر ولحوق الشر بهم!

فتوقّوا مثل هذا الشر بإظهار الإسلام فآمنوا به ظاهراً وهم على كفرهم باطناً، فدسّوا الدسائس ومكروا ما مكروا[11].

والحاصل: «إن هذا الرأي يعتمد على «عامل الخوف» من شوكة الإسلام والمسلمين وسطوتهم فقط، كدافع يدفع «الكافر حقيقة» أن ينافق، فيستظهر الإيمان بدخول الإسلام ويستبطن الكفر!

وهذا الحصر يؤدي بالضرورة إلى القول: بأن النّفاق لا يكون في الوسط الإسلامي إلا حيث تكون للإسلام شوكة وحاكمية وغلبة»[12].

استدلال القائلين بأن حركة النفاق قد بدأت قبل الهجرة

وأما أصحاب الرأي الثاني -القائلين بأن حركة النفاق قد بدأت قبل الهجرة- فهم يجيبون على أصحاب الرأي الأول: بأنّ دواعي النفاق وأسبابه لا تنحصر بالأمر الذي ذكروه واستدلوا به على قولهم، حيث أنه متى ما انتفى هذا الداعي والسبب فإنه سوف ينتفي النفاق! بل هناك دواعي وأسباب متعددة للنفاق -وما ذكروه وهو عامل الخوف هو أحدها- توجب حصول هذه الحركة في المجتمع، وبيان هذا الإجمال سيتضح عندما نبين دواعي النفاق المتعددة بشكل تفصيلي.

الدواعي والأسباب المختلفة للنفاق

توجد عّدة دواعي وأسباب لوجود حركة النفاق واتّصاف البعض بهذه الرذيلة الشنيعة، ونحن نذكر في المقام بعضاً منها:[13]

أولاً: الخوف من الموت: فهناك من ادّعى الإسلام والإيمان خوفاً من الموت، كما هو حال كفّار مكة ومَن والاها، وخاصّة صناديد قريش؛ فإنّهم ما كانوا ليؤمنوا بالنبي (ص) لولا سواد جنودٍ غشيتهم، وبرق سيوف سُلّطت على رؤوسهم يوم الفتح!! فهل يُقال -والظرف هذا الظرف-: بأنّه حدث في قلوبهم الإيمان، وفي نفوسهم الإخلاص واليقين، فآمنوا بالله تعالى طوعاً عن آخرهم، ولم يدب فيهم دبيب النفاق أصلاً؟!

ثانياً: الارتياب في الدين وكتم ذلك: وهناك من دخل الإسلام ثم ارتاب في دينه وارتدّ، ولم يُبرز هذا الأمر بل كتم ارتداده وبقي على تظاهره بالإسلام كما تلمح له بعض الآيات، كقوله تعالى <ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا>[14]، وكقوله تعالى <يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرين‏>[15]. وقد يحصل الارتياب خلال طريق المعاناة: نتيجة هزّات عُظمى وصدمات كبرى أو شبهات مضلّة.

ثالثاً: التخريب من الداخل: فهناك من يستظهر الإيمان ويستر الكفر من أجل أن يتمكن من تقليب الأمور وإفساد المجتمع الديني من الداخل، وتضعيفه بأيدٍ خفيّة غادرة، فالكيد بالدين من الداخل أوجع وأمضى من الكيد به من الخارج في كثير من الأحيان!

ومَن يقوم بهذا العمل: لا يصيبه أذىً من الكفار والأعداء الخارجيين غالباً! بل في كثير من الأحيان: يكون هناك تعاون وتنسيق خفي وسري بينهما، حيث يتفقان على هدف مشترك: وهو القضاء على الدّين!

وهذا الطابور الخامس والعدو الداخلي، قد أثبتت التجارب أنّه من أخطر الأعداء وأصعبها في المقاومة، وأكثرها إيجاعاً وإفساداً! «ولهذا الصنف أنواع؛ فمنهم من يطمع الوصول إلى موقع معنوي في قلوب الحكام أو في قلوب المسلمين من أجل التخريب من الداخل! ومصداق ذلك: الذين دسّهم أهل الكتب في الصف الإسلامي، مثل: كعب الأحبار اليهودي وتميم الداري النصراني»[16].

رابعاً: النفاق من أجل الزعامة الدينية: وهناك من يُظهر الإيمان ويخفي الكفر من أجل البلوغ لأطماعه وأمانيه، وهي التقدم والرئاسة والاستعلاء والسيطرة؛ إشباعاً للنزعة السلطوية في النفس!

وهؤلاء لا يقومون بتغليب الأمور وتربص الدوائر على الإسلام والمسلمين وإفساد المجتمع الديني، بل يسعون لتقويته وتغذيته بالمال والجاه؛ وذلك لكي تنتظم الأمور وتتهيأ الأرضية لهم كي يستفيدوا من الدين ويستدروا به منافعهم الشخصية، وذلك بعد أن يتسنموا سدّة الرئاسة أو يكونوا من الوجهاء في الدين!!

وهذا الصنف من المنافقين -وقد سمعوا النبي محمد (ص) يذكر في دعوته لقومه: أن لو آمنوا به واتبعوه كانوا ملوك الأرض- لا يعبؤون بمخالفة القوى المخالفة القاهرة الطاحنة، بل هم على أتم الاستعداد لتحمل المخاطر، والصبر على البلايا وتجرّع الغصص وملاقاة المحن؛ رجاء أن يوفقوا يوماً للحصول على مرامهم: وهو التّحكم على الناس واستقلالهم بإدارة رحى المجتمع!

ومن مميزات هذا الصنف من المنافقين: أنّهم يحرصون في العادة -على مصالح الإسلام ما دامت تتوافق مع مصالحهم المنشودة-.

نعم، قد يبرز منهم شيء من المخالفة والمضادة للدين: عندما يكون الدين صادّاً لأمانيهم ومانعاً لأطماعهم وتقدمهم وتسلّطهم! فيقومون بالمكر والخداع والقيام بأمور تنتهي إلى أغراضهم الفاسدة: باختلاق الأكاذيب والافتراء على الشرع والدين![17]

والحاصل: «أن عامل (الطمع) -الطمع في مستقبل الإسلام- كان دافعاً قويّاً لمثل هؤلاء المنافقين، وهذا العامل -الطمع- لم يكن وليد المدينة المنورة، بل كان مع الإسلام منذ أول أيامه في مكة المكرمة؛ إذ كان في العرب رجالٌ أهل خبرة ومعرفة بحقائق السنن الاجتماعية، وسنن الصراع وقراءة المستقبل! فكانوا يعرفون أن دعوة هذا النبي (ص) المستضعف في مكة آنئذٍ، هي التي تنتصر وأنّ كلمة هذا النبي (ص) ستكون هي الكلمة العليا»[18].

«وكما كان في العرب أذكياء توسّموا -منذ البدء- أن هذا الدين سيكون له شأن عظيم في المستقبل، كذلك كان هناك في العرب رجال لهم علاقات وطيدة باليهود والنصارى الذين كانوا يتوارثون أخبار الملاحم والفتن وأنباء المستقبل، ويُخبرون النّاس أن عصرهم آنئذٍ عصر ظهور النبي الخاتم (ص)! بل كانوا يعرفون النبي (ص) بصفاته البدنية والمعنوية معرفة يقينية <الَّذينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُم‏>[19]، وكانوا يحدّثون الناس: بأنّه هو الرسول الخاتم الفاتح (ص)! فلما آن أوان ظهوره، أخبروا بعض العرب بذلك، وأكدّوا لهم: أنّ المستقبل لهذا النبي (ص) ولدعوته الجديدة!

لقد كان النظر إلى (مستقبل هذا الدين) دافعاً قوياً إلى الانضواء تحت رايته والانتماء إليه! وكان أكثر العرب -في قضايا العقائد ومستقبل الأحداث- يعتمدون رأي أهل الكتاب»[20].

خامساً: النفعيون وأصحاب المطامع: «وهناك من يطمع في الوصول إلى أهداف وغايات أخرى أقل أهمية من الحصول على الرئاسة والزعامة، كالحصول على مغانم أو تنمية مصالحه وتوسعتها في ظل نماء مصالح الإسلام! أو انتصاراً لحميّة أو غير ذلك»[21].

والحاصل من كل ما تقدم: «أن حركة النفاق لم تبدأت بدخول الرسول الأكرم (ص) المدينة المنورة بل بدأت بدخول الصف الإسلامي منذ أوائل حياته في مكة المكرمة.

نعم، لم تتخذ حركة النفاق شكل الظاهرة الاجتماعية الخطيرة إلا في المدينة المنورّة بعد قيام الدولة الإسلامية»[22].

نهاية حركة النفاق!

هناك نظرة مشهورة خاطئة تدعي أنّ حركة النفاق قد استمرت إلى قرب وفاة النبي الأكرم (ص) وانتهت بوفاته! وهذه الدعوى لا يصدقها التاريخ الحق، حيث أنّه لابُدّ أن نفرّق بين أمرين:

  • أحدهما: انقطاع الأخبار عن حركة المنافقين الظاهر في مواجهة الإسلام والمسلمين، وعدم ظهور ما كان يظهر منهم من أعمال مضادّة وآثار معاكسة ومكائد ودسائس مشؤومة، وهذا أمرٌ قد حصل بعد موت النبي (ص) مباشرةً وانعقاد السقيفة وانتشار الخبر عن نتائجها، حيث اختفت هذه الحركة الهائلة عن ظاهر الحياة السياسة والاجتماعية فجأة!
  • والآخر: هو انتهاء هذه الحركة بالفعل وانحلالها وزوالها من خريطة العمل السياسي والاجتماعي[23]، وهذا أمرٌ لم يحصل قطعاً؛ والدليل عليه: أنّه بمجرد أن وصل الحق إلى أهل البيت(عليهم السلام) وجاءت الخلافة لأمير المؤمنين (ع) حتى عادت حركة النفاق بالتحرّك والبروز وتقليب الأمور على الإسلام والمسلمين، كما حصل في الجمل وصفّين والنهروان وغيرها من المواقف.

حركة النفاق بعد رحيل الرسول الأكرم (ص)

من الملاحظ أنّ حركة النفاق قد توقّفت وانقطع خبرها برحلة الرسول (ص) وانعقاد الخلافة، وانمحى أثر المنافقين بعد ذلك، فلم يظهر منهم ما كان يظهر من المكائد والدسائس المشؤومة! فما هو السر في ذلك؟

توجد عدة احتمالات:

الاحتمال الأول: أنّ جميع أفراد حركة النفاق أو رموزها الفعالة، وأعضائها النشيطين قد أُبيدوا وقُتلوا قبل رحلة النبي (ص)، الأمر الذي يعني أنه قد تم القضاء على هذه الحركة قضاءاً مبرماً، أو أنها شُلّت نتيجة ذلك شللاً تاماً! وتاريخ السيرة النّبوية لا يصدق هذا الاحتمال، بل يرفضه رفضاً تاماً.[24]

الاحتمال الثاني: أنّ المنافقين وُفّقوا للإسلام وأخلصوا الإيمان عن آخرهم برحلة النبي (ص)؛ حيث تأثرت قلوبهم من موته ما لم تتأثر بحياته[25]؛ فنابوا إلى الله جميعاً وأخلصوا الإيمان عن آخرهم، وحسن بذلك إسلامهم ّ. وهذا الاحتمال باطلٌ؛ فهو أمرٌ لا يقبله العقل السليم، ولا تساعد عليه النقول التاريخية؛ فإذا لم تتأثر قلوبهم ونفوسهم بالنبي (ص) وهو حيٌ بين ظهرانيهم، يسمعون كلامه ويرون كمال خصاله وأفعاله، فكيف يمكن أن تتأثر قلوبهم ونفوسهم بسبب وفاته بحيث يؤدي ذلك إلى أن يوفّقوا للإسلام ويتركوا النفاق والالحاد!

مضافاً إلى وجود مجموعة من الشواهد التاريخية والتي تبرز وتكشف شيئاً من حياة هؤلاء وأقوالهم وأفعالهم: حيث تدّل على عدم إسلامهم الواقعي، وبقاؤهم على ما كانوا عليه من الكفر الباطني!

الاحتمال الثالث: أن حركة النفاق نفسها تسلّمت زمام الأمور بعد رحلة النبي (ص) أو أنها -على الأقل- كانت قد صالحت أولياء الحكومة بعد رحلة النبي (ص) على ترك المضادة والمشاغبة، مصالحة سرية قبل الرحلة أو بعدها، بشرط أن يسمح لها تحقيق ما فيه أمنيتها!

أو أن حركة المسلمين وحركة النفاق بعد رحلة النبي (ص) وبعد السقيفة كانتا قد وقعتا في مجرى واحد واتجاه واحد، وتصالحنا مصالحة عفوية، بلا تكلّف عهد وعقد! فارتفع التضاد والتزاحم والمضارة والمعارضة بينهما[26].

وهذا الاحتمال هو الحق الذي لا مرية فيه؛ فإنّ الذين تصدّوا الحكومة واغتصبوا الخلافة من أهلها يوم السقيفة: هم رأس النّفاق وحزب الشيطان؛ فالمنافقون -الذين كانوا يقبلون الأمور على الإسلام والمسلمين- هم الآن على سدّة الحكومة والخلافة، أو هم المعاونون لهم وأصحاب النفوذ في دولتهم!

ومن الحقائق التاريخية: أن الذين وصلوا إلى الخلافة «حزب السلطة» قد كانوا في تحالفات مع كفّار قريش «الحزب الأموي» واليهود والنصارى! مضافاً لاستغلالهم ضعف عقول الناس وعدم وعيهم لمجريات الأمور!

والحاصل: أنّ حركة النفاق لها فصائل متعددة متنوعة في الأدوار متحدة في الهدف وهي: حزب السلطة والحزب الأموي ومنافقوا أهل الكتاب ومنافقوا أهل المدينة والمنافقون النفعيون، وهذه الأحزاب على اختلافها الظاهري، إلا أنّ كل حزب يقوم بدور معين ويتكفل بإنجاز مهمة خاصة!

وقد كان الهدف المشترك عند الكل: هو القضاء على الإسلام وجعله جسداً بلا روح وقشراً بلا لب، وتغيير أحكامه وتبديلها!

وأكبر عمل شنيع قاموا به في هذا السبيل: أن أقصوا الإمام علي (ع) وأهل بيته من سدّة الصدارة وإدارة شؤون الأمّة!

وهذه الأحزاب الشيطانية: كانت تسير في عملٍ منظّم وسرّي، فلم تكن الأمور تجري بنحو الصدفة والاتفاق، كما يحلو للبعض تصوير ذلك![27]

إنّ النظر إلى الخطبة الشقشقية والتأمل في توصيف الإمام علي (ع) لمجريات الأحداث وما فيها من انقلابات وما أنتجته من مخاضات وآفات، يؤكّد حقانية ما تقدم: أنّ حركة النفاق قد دخلت الإسلام من بدايته وهو وليد في مكّة، وأنّها استمرت إلى ما بعد وفاته، بل هي باقية ما بقي الإنسان!

وإلا فما معنى أن يُرشّح الثاني الأول للخلافة في السقيفة ومن ثم يُرجع الأول الخلافة للثاني بعد ذلك؟

لا جواب مقنع إلا ما قاله الإمام (ع): «فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا!!» وهكذا «الحزب» يهيأ الأرضية للثالث، ولكن هذه المرة بطريقة أكثر ضبابية وأشدّ ظلمة، وكما يقول الإمام علي (ع): «حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا فِي [سِتَّةٍ] جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ فَيَا لَلَّهِ ولِلشُّورَى‏»!

فهي شورى ظاهراً، إلا أن الثالث متعين حتماً!! وما إن وصلت الخلافة لأمير المؤمنين علي (ع) حتى عادت حركة النفاق تظهر على السطح صراحاً جهاراً، وكما حارب الرسول (ص) بالأمس على التنزيل، فإن الإمام علي (ع) يحارب اليوم نفس أعداء الأمس ولكن على التأويل .. «فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ ومَرَقَتْ أُخْرَى و[فَسَقَ‏] قَسَطَ آخَرُونَ»!!

والحاصل: أنّ السلطة وزعامة الأمة بعد وفاة الرسول الأعظم (ص) وباستثناء فترة حكم الإمام علي (ع) قد تسلمها واستولى عليها المنافقون:

فأولاً تسلم الخلافة ثلاثة من أعضاء «حزب السلطة».

ومن ثم أوصلوا الخلافة -بتخطيط محكم مشؤوم- إلى الحزب الأموي وليصبح معاوية بن أبي سفيان خليفة للمسلمين! فـ«كفّار» الأمس و«منافقوا» اليوم هم على رأس الأمة الإسلامية!

نعم، إنّهم «أعداء الإسلام» و«قتلة المسلمين»، هم أنفسهم ولا سواهم! وهل تغيروا؟!

نعم، تغيروا على مستوى الظاهر؛ فبالأمس كانوا يرتدون «ثياب الكفر» ولكنّهم اليوم يرتدون «ثياب النفاق»! وبذلك خدعوا، وتمكنوا، وحكموا، ومن ثم دمّروا الإسلام من الداخل!


[1] تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي، ج:19، ص:287، بتصرف

[2] مع الركب الحسيني، ج:1، ص:37

[3] التوبة: 67

[4] المفردات، ص:656

[5] تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي، ج:19، ص:288، بتصرف

[6] النساء: 145

[7] تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي، ج:19، ص:288، بتصرف

[8] المنافقون: 4

[9] الأحزاب: 60

[10] تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي، ج:19، ص:288، بتصرف

[11] تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي، ج:19، ص:288-289، بتصرف

[12] مع الركب الحسيني، ج:1، ص:38

[13] تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي، ج:19، ص:289-290

[14] المنافقون: 3

[15] المائدة: 54

[16] مع الركب الحسيني ج:1، ص:43

[17] تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي، ج:19، ص:289

[18] مع الركب الحسيني، ج:1 ص:38، بتصرف

[19] البقرة: 146، الأنعام: 20

[20] مع الركب الحسيني، ج:1، ص:39

[21] مع الركب الحسيني، ج:1، ص:43-33، بتصرف

[22] مع الركب الحسيني، ج:1، ص:44

[23] مع الركب الحسيني، ج:1، ص:44-45، بتصرف

[24] مع الركب الحسيني، ص:1، ج:45، بتصرف

[25] تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي، ج:19، ص:22، بتصرف

[26] مع الركب الحسيني ج:1، ص:46 – تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي، ج:19، ص:29

[27] للمزيد من التفاصيل راجع: كتاب مع الركب الحسيني، ج:1، ص:35-137، المقالة الأولى: النفاق .. قراءة في الهوية والنتائج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟