مواضيع

الشقشقة الرابعة: الظالم الثاني والحوزة الخشناء

من كتاب شقشقة المظلوم للشيخ زهير عاشور

يقول أمير المؤمنين (ع): «فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا ويَخْشُنُ مَسُّهَا ويَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا والِاعْتِذَارُ مِنْهَا فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وإِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وشِمَاسٍ وتَلَوُّنٍ واعْتِرَاضٍ فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وشِدَّةِ الْمِحْنَة»[1]

هكذا يكون خليفة الرسول (ص)!

خليفة الرسول (ص) هو الأقرب إليه في علمه وحلمه وزهده ومنطقه وجمال خلقه وكمال فضائله؛ فقد كان رسول الله (ص) ليّن الطبع رقيق القلب هشاً بشاً، تعلو البسمة محيّاه، وتحيى القلوب عند لُقياه، وتنجذب الأفئدة لعظم أخلاقه وجميل خصاله، كما يقول الباري جل جلاله: <وإِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظيم‏>[2].

ما كان فظّاً ولا غليظاً، ولا توجد في طباعه جفوة، ولا تسرّع إلى غضب ولا خشونة في تعامل <ولَوْ كُنْتَ فَظًّا غَليظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك‏>[3].

وهكذا ينبغي أن يكون خليفة رسول الله (ص).

الطبع الجافي والقلب القاسي!

وقد ابتليت الأمّة بعد الأول بخليفة لا يتمتع بأدنى المواصفات التي تليق بمنصب خلافة المسلمين، والجلوس على كرسي رسول رب العالمين؛ فقد كانت الطباع التي يحملها، والاخلاق التي يتصف بها تمثل أقبح الصفات وأخس الطباع!

فقد كان جافياً غليظ الكلام، فظّاً ينفّر عنه الأنام، تتوجس من أسلوبه كل الناس!

كان غليظ المواجهة بالكلام: يجرح به ويدمي القلوب والأرواح؛ فقد كان ضربه باللسان أعظم من وخز السنان! وكان جافياً لا يمكن التعايش معه والاستئناس بمجلسه والقعود عنده؛ لما في مجالسته من اتمال الأذى والتهجس من سطوته والطيش في فعله!!

كما يقول أمير المؤمنين (ع) وهو يصف طباع هذا الرجل الفظ: «فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا ويَخْشُنُ مَسُّهَا»[4]، وهذا وصفه على صعيد الأخلاق والطباع والحكمة العملية!!

كثير الأخطاء وكثير الاعتذار!

وأما على صعيد العلم والفكر والوعي والحكمة النظرية، فلم يكن يملك منه شيءاً، وقد كان متسرّعاً في إصدار الأحكام الخاطئة، ثم يُنبَّه على خطئه، فيرجع عما قال ويعتذر!

وهذا كان دأبه وهكذا جرت سيرته: كثير الأخطاء وكثير الاعتذار! وما أكثر أخطائه التي لو لا تدخل أمير المؤمنين (ع) فيها لأدت إلى سفك دم أو تضييع حق أو تعذيب نفس!

فالعجب لخليفة رسول الله (ص) والنّساء أفقه منه كما اعترف هو بذلك!!

وكما يقول أمير المؤمنين (ع) وهو يبين جهل الرجل: «وَيَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا والِاعْتِذَارُ مِنْهَا»[5]!!

لا الشد ينفع ولا الإسلاس يفلح!

والمصيبة العظمى: أن التعامل مع مثل هذا الرجل والأمل في إصلاحه والعمل على تقويمه يعتبر من الأمر المحال؛ لأنّك إن قمت بتنبيهه وبيان خطئه في كل واقعة وأشرت عليه بمواضع اشتباهه وذللت حكمه فإنه سوف يعتبرك عدواً، وستؤول الأمور إلى حصول المشاقة والصدام؛ فطبعه هو هكذا إن أشرت أليه ونصحته!

وإن اخترت السكوت على أخطائه ولم تنبهه بمواقع زللــه: أدّى ذلك للإخلال بالواجب وتضييع الحقوق، ووقوع الظلم على الكثير من خلق الله تعالى!! فما العمل؟!

هل هو الاعتراض أو السكوت؟1

إنه أمر محير «فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وإِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ»[6]، فإن شددت عليه وأصررت على الحق أدّى ذلك للخرم والتمزق والضغينة والشقاق بين المسلمين! وإن أسلست له ولم تصرّ على بيان الحق أدّى ذلك للتقحّم في الهلكات وتضييع الأحكام وانتهاك الحرمات ووقوع الظلم على العباد!!

ضلّ وأضلّ وأشقى الأمّة!

فجّلت المصيبة، وازداد الفتق الذي لا يمكن رتقه، والاعوجاج الذي لا يرجى استقامته! ومُني النّاس وابتلوا بخبط هذا الرجل واضطراب حركاته غير المدروسة وغير الحكيمة النابعة من جهله وعدم وعيه وبعده عن الرشد في الفكر!

وعجر الناس عن التعايش معه بما يحمل من هذه الطباع الخشنة الغلظة! وضاع الناس بسبب ضياعه وتيهه وضلاله في الطرقات؛ حيث كان يقود الأمة بجهله وضحالة فكره، وما يميله عليه طبعه «فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وشِمَاسٍ وتَلَوُّنٍ واعْتِرَاضٍ»[7].

عشر سنواتٍ مُظلمة!

فصبر الأمير (ع) عليه كما صبر على الأوّل، حيث لم يكن يملك شيئاً في الصبر، نعم كان بلاءً عظيماً ومحننة شديدة: طالت فيه خلافة عشر سنين فلم يبق من الأحكام شيئاً إلا ودس فيها سمّه الزعاف، وكثرت اجتهاداته في قبال نصوص الإله ورسول العباد، فغيّر الكثير الكثير حتى أنّت منه شريعة السماء!

طالت المدة واشتدّت المحنة في فترة خلافته التي تعد من أظلم العقود وأخطر السنين التي مرّت على الأمّة الإسلامية حتى أنّه أبعد خُلّص الصحابة وقرّب اليهود ومكّنهم في مسجد الرسول (ص) ليبثّوا في الدين أكاذيبهم وإسرائيلياتهم، بعد أن منع كتابة وانتشار أحاديث الرسول (ص)!

والأفجع في كل فعاله أنه مكّن بني أمية وأطلق العناء للطليق ابن الطلقاء معاوية بن أبي سفيان ليضمن دوام خط النفاق وليطمئن وهو في قبره بأن راية الضلال لن تخبو وراية الإسلام لن تعلو!!

يقول أمير المؤمنين (ع): «فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وشِدَّةِ الْمِحْنَة»[8]

الثاني وخيوط المؤامرات!

فـ«الثاني» هو الذي أطلق يد معاوية في الشام؛ فالخليفة الصارم في المدينة قد أغمض عينه عمداً عن الشام لفتى قريش وكسرى العرب!

فلذا كان «الثاني» هو الممهد للحكم الأموي بل هو المؤسس له!

وفي فترة حكمه زاد في شدّة الحصار المضروب على السنة النبوية؛ فأمر بحرق ما أتوه من بيانات نبوية وفرض الإقامة الجبرية على رواة الأحاديث في المدينة ومنع الجيوش عن التحديث عن رسول البرية!

وهو في نفس الوقت قد قرّب منافقي اليهود والنصارى وفتح لهم الأبواب ليمارسوا القّص على الناس بما يعارض عقائد الإسلام!

وقرّب منه كعب الأحبار -أكبر زعماء اليهود- يأنس به ويستشيره ويتأثّر بفكره، ويعود إليه في القضايا التي لا تروقه أجوبة العلماء من الصحابة فيها فيسأله عنها! وكان أكثر ولاته من بني أمية في الوقت الذي منع فيه الهاشميين من أن يستلموا أي منصب! فضلاً عن مبدئه في العطاء وما جرّ على الأمة من مآسي وأهوال![9]


[1] نهج البلاغة، صبحي صالح، ص:48

الخطبة (3) ومن خطبة له (ع) وهي المعروفة بالشقشقية وتشتمل على الشكوى من أمر الخلافة ثم ترجيح صبره عنها ثم مبايعة الناس له!

[2] القلم: 4

[3] آل عمران: 159

[4] المصدر السابق

[5] المصدر نفسه

[6] المصدر نفسه

[7] المصدر نفسه

[8] المصدر نفسه

[9] مع الركب الحسيني ج1، ص:25-81

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟