مواضيع

الشقشقة الثالثة: حزب النفاق وإقصاء الإمام علي (ع)

من كتاب شقشقة المظلوم للشيخ زهير عاشور

يقول أمير المؤمنين (ع): «حَتَّى مَضَى الْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلَانٍ [ابْنِ الْخَطَّابِ‏] بَعْدَهُ ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الْأَعْشَى‏: شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا *** ويَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ

فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا»[1]

حركة النفاق ومنهج عملها!

إنّ العدو الداخلي لا يُعلن عن كيده جهاراً، ولا يرمي بأوراقه نهاراً، ولا يكشف عن أهدافه صراحاً، بل هو يعمل في الخفاء، ويكيد من غير ضوضاء، ويسعى للوصول إلى أهدافه: بتؤدة المكر وأناة الخديعة!

وهو يعمل ليلاً ونهاراً، لا يكلّ ولا يملّ، ولا يصيبه ضجرٌ ولا سأم! وهو يبرز للناس بوجهٍ مشرق وبمظهرٍ تقبله عامة البشر، في الوقت الذي يخفي وجهه الحقيقي كما أخفى أنيابه القاتلة السامة!

يقول أمير المؤمنين (ع) وهو يصف عمل المنافقين: «يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً ويَفْتَنُّونَ افْتِنَاناً … قُلُوبُهُمْ دَوِيَّةٌ وَصِفَاحُهُمْ نَقِيَّةٌ يَمْشُونَ الْخَفَاءَ ويَدِبُّونَ … قَدْ أَعَدُّوا لِكُلِّ حَقٍّ بَاطِلًا ولِكُلِّ قَائِمٍ مَائِلًا ولِكُلِّ حَيٍّ قَاتِلًا ولِكُلِّ بَابٍ مِفْتَاحاً ولِكُلِّ لَيْلٍ مِصْبَاحاً … يَقُولُونَ فَيُشَبِّهُونَ ويَصِفُونَ فَيُمَوِّهُونَ»[2].

المنافق .. العدو الداخلي!

إنّه المنافق العدو الداخلي، وإنّها حركة النفاق التي لا يبصرها عامة الناس حيث تنخر في المجتمع رويداً رويداً، وتقوّض بنيانه يوماً فيوماً، بهدوءٍ ومن غير حلبة ولا ضوضاء ولا صُراخ، حتى ينهار المحتوى الداخلي للبنيان، ويفرغ من أي باطن ومعنويات!

وعندها يبقى الدين: صورة بلا معنى! وقشراً بلا لب، وظاهراً بلا باطن! ويتشوه وجه الدين الحسن، وتتبدل أحكامه الإلهية بأحكام جاهلية! ويبعد أهل الدين وحماته الحقيقيين، ويأتى بالأشرار ومن عاداه وحاربه حتى يتحكموا على رقاب الناس بالمكر والخديعة!

يقول أمير المؤمنين (ع) وهو يصف المنافقين: «وَأُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ والزَّالُّونَ الْمُزِلُّونَ يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً ويَفْتَنُّونَ افْتِنَاناً ويَعْمِدُونَكُمْ بِكُلِّ عِمَادٍ ويَرْصُدُونَكُمْ بِكُلِّ مِرْصَادٍ قُلُوبُهُمْ دَوِيَّةٌ وصِفَاحُهُمْ نَقِيَّةٌ يَمْشُونَ الْخَفَاءَ ويَدِبُّونَ الضَّرَاءَ وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ وقَوْلُهُمْ شِفَاءٌ وفِعْلُهُمُ الدَّاءُ الْعَيَاءُ»[3]

هم العدو .. فاحذرهم!

وحركة النفاق في أعظم م يهدم البناء ويصرع الأديان ويسبب الدمار لأهل الإسلام! حتى إنّ الإسلام قد حصر العداوة فيهم: وكأنّه لا عدو إلا هم، ولا عداوة إلا التي تصدر منهم <هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُون‏>[4] وكما يقول أمير المؤمنين (ع) وهو يبين عظم خطرهم: «حَسَدَةُ الرَّخَاءِ ومُؤَكِّدُو الْبَلَاءِ ومُقْنِطُو الرَّجَاءِ لَهُمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ صَرِيعٌ وإِلَى كُلِّ قَلْبٍ شَفِيعٌ ولِكُلِّ شَجْوٍ دُمُوعٌ»[5].

استمرار حركة النفاق إلى يومنا هذا!

والإسلام كان وما زال فريسة لهذه الحركة المنافقة التي تنخر في الدين وتزلزل نفوس المتدينين وتسبب التأخر للمسلمين!

والمنافق يتعاضد مع الكافر ويتحالف مع اليهودي والنصراني، إلا أنّه لا يمكنه أن يتعايش مع المسلم الحقيقي والمؤمن الواقعي!

بل لا يوجد عدو للمنافق إلا المُؤمن الحقّ، ولا توجد حرب تشغل المنافقين إلا الحرب ضد أهل الإسلام المحمدي الأصيل! كما تكالب العالم بأجمعه بعد رحيل رسول الله (ص) -من منافق وكافر ويهودي ونصراني- على أمير المؤمنين (ع)، فإنّنا نجد اليوم كيف قد اجتمع أهل الكفر واليهود والنصارى واضعين أيديهم مع رأس النفاق اليوم -مدّعي خدمة الحرمين- ضد راية الحقّ الخفاقة والدولة الإيمانية التي ترفرف باسم الإسلام المحمدي الأصيل!

وكما يقول أمير المؤمنين (ع): «فَهُمْ لُمَةُ الشَّيْطَانِ وحُمَةُ النِّيرَانِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُون»[6]

لشدّ ما تشطرا ضرعيها!

عجباً للأول الذي كان يتظاهر بالقدسية والزهد في الخلافة صبحاً وعشياً، وإبداء عدم الرغبة فيها واستعداده أمام الناس للتخلي عنها، وإكثاره من طلب الإقالة منها .. اقيلوني فلست بخيركم!

نعم، بمثل هذه التصرفات الخاصة والأقوال المنافقة: ينخدع الكثير من بسطاء العقول وأصحاب الألباب الساذجة! فيكبر أمثال هؤلاء -حذّاق الخداع ومتمرسي الكذب والنفاق- في نفوسهم، ويأخذ قولهم بمجامع قلوبهم، والحال كما يقول أمير المؤمنين (ع): «وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ وقَوْلُهُمْ شِفَاءٌ وفِعْلُهُمُ الدَّاءُ الْعَيَاءُ»[7]

ما كان صادقاً في دعواه!

ولو كان الأول صادقاً فيما يقول، ومحقاً فيما يدعي، لما عقدها للثاني بعد وفاته، لأنّه لو كان طالباً بحق للإقالة بسبب ثقل الخلافة وعظم مسؤوليتها، وخوفه من التعثر فيها والتردي في مهالكها بسبب عدم القيام باللازم من واجباتها، لكان من المنطقي أن يسعى للتخلص منها بسرعة؛ حتى لا يتكلف مسؤوليتها ولا تلحقه بعد ذلك تباعتها، وإذا لم يكن بمقدوره أن يتخلى منها حال حياته، فمن الحجى أن لا يكلف نفسه تبعاتها بعد مماته، فلا يعقدها لغيره بعد وفاته!

أمّا وقد عقدها للثاني بعد وفاته، فهو متحمل لمضار الخلافة وتبعاتها في حال حياته وبعد مماته! وهذا يكشف حقيقة دعاواه الزائفة، من طلب للإقالة ودعواه الزهد في الخلافة، حيث لم يكن قوله إلا كذباً ونفاقاً وخداعاً!!

يقول أمير المؤمنين (ع) وهو يشكو الظلم الذي حلّ به وبأهل بيته: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ ومَنْ أَعَانَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي وصَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِيَ وأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْراً هُوَ لِي ثُمَّ قَالُوا أَلَا إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وفِي الْحَقِّ أَنْ تَتْرُكَه‏»[8].

الدنيا .. تفضح أبنائها!

نعم، إنّها الدنيا التي غرتهم وخدعتهم بعد أن تزينت لهم بلباس الخلافة ودعتهم إلى نفسها، فانخدعوا لها واغتروا بحطامها: حيث أعمتهم وأصمتهم وسلبت عقولهم ورشدهم!

ولكن، ما أسرع انفضاح خططهم وانكشاف ألاعيبهم واتضاح زيف خداعهم: فـ«الثاني» يبايع «الأول» في السقيفة ويكون السبّاق في ذلك، ومتحدياً كل من يعارض ذلك، حتى يرد «الأول» الخلافة لـ«الثاني» بعد وفاته!

هكذا تقاسموا الأدوار، وتشاطروا الضرع، وأبعدوا أهل الحق، وكما يقول أمير المؤمنين (ع): «يَتَقَارَضُونَ الثَّنَاءَ ويَتَرَاقَبُونَ الْجَزَاءَ»[9].


[1] نهج البلاغة، صبحي صالح، ص:48

الخطبة (3) ومن خطبة له (ع) وهي المعروفة بالشقشقية وتشتمل على الشكوى من أمر الخلافة ثم ترجيح صبره عنها ثم مبايعة الناس له!

[2] نهج البلاغة، صبحي صالح، ص:307

الخطبة (194) ومن خطبة له (ع) يصف فيها المنافقين‏

[3] المصدر نفسه

[4] المنافقون: 4

[5] نهج البلاغة، صبحي صالح، ص:307

الخطبة (194) ومن خطبة له (ع) يصف فيها المنافقين‏

[6] المصدر نفسه

[7] المصدر نفسه

[8] نهج البلاغة، صبحي صالح، ص:246، الخطبة (172)

[9] نهج البلاغة، صبحي صالح، ص:307

الخطبة (194) ومن خطبة له (ع) يصف فيها المنافقين‏

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟