مواضيع

الشقشقة الأولى: الظالم الأوّل والطخية العمياء

من كتاب شقشقة المظلوم للشيخ زهير عاشور

يقول أمير المؤمنين (ع): «أَمَا واللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ [ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ] وإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ ولَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ ويَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ ويَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ‏، فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وفِي الْعَيْنِ قَذًى وفِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً»[1]

سلبوه حقّه الإلهي!

إنّها الخلافة الإلهية التي فُصّلت بمقاس أمير المؤمنين (ع)، فلا تليق لغيره، ولا يصلح لها إلا هو. فهي هبة السماء، وعطيّة الإله للعباد، ونور أرسله الله لهداية سالكي طريق الرشاد وعليٌّ قُطب رحى هذه الأمّة، ومشيّد الدّين ومثبت أركانه، بفدائه وتضحياته، وشجاعته وسخائه، فدى الدين والإسلام منذ كان طفلاً صغيراً، حتى صار كهلاً كبيراً! إنّه الثقل الذي به عُرف الكتاب، وبه عُرف، فلم يلحقه سابق ولم يقدر على مجاراته لاحق ولكن لِمَ تقدّم عليه من تقدم؟!

يقول أمير المؤمنين (ع): «فَاعْلَمْ أَمَّا الِاسْتِبْدَادُ عَلَيْنَا بِهَذَا الْمَقَامِ ونَحْنُ الْأَعْلَوْنَ نَسَباً والْأَشَدُّونَ بِالرَّسُولِ (ص) نَوْطاً فَإِنَّهَا كَانَتْ أَثَرَةً شَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ وسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ والْحَكَمُ اللَّهُ والْمَعْوَدُ إِلَيْهِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ [الْقِيَامَةُ]»[2]

علي وما أدراك ما علي (ع)!!

إنّه عليٌّ (ع) في علمه وحلمه وكرمه وجوده وشجاعته وزهده، وورعه وتقواه!

إنّه عليٌّ (ع) قمّة كل كمال ورأس كل خير، نبع الكوثر وماء السلسبيل ومزاج تسنيم الذي يشرب منه المقربون!

إنّه عليٌّ (ع) الذي أرتقى في العلياء حتى عجزت الطيور عن التحليق في سماءه، وتسامى حتى يأس كل جناح من الطيار في فضاء كماله.

نعم، إنه علي الذي ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير.

أبناء الدنيا أعداء علي

ولكن أبناء الدنيا واللاهثين وراء حطامها، المغرورين بمتعها والمخدوعين بزينتها والطامعين في العلو والرفعة فيها حسدوه، وأبغضوه وعادوه؛ فسلبوه ما وهبه الله إياه، ونهبوا ما وضعه الله عليه، سلبوه الخلافة وأبعدوها عنه، وأبعدوه عنها، وهم يعلمون من هو، وأنّه الأحق بها، وأنّه لا حق لغيره فيها «أَرَى تُرَاثِي نَهْباً».

فهم علم بكل ذلك ولكن <وَجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وعُلُوًّا>[3]، فقد كان طلبهم للعلو وعيشهم في ظلمات الظلم، وسعيهم في الافساد وهتك المقدسات، كل ذلك كان سبباً يمنعهم من العمل بما يستيقنون، فبينهم وبين الموعضة حجاب من الغرّة! وكيف يُقدّمونَ عليّاً وفي ذلك زوال محبوبتهم الدنيا ومعشوقتهم الغرور؟!

حب الدنيا أعمى قلوبهم!

أبعدوا علياً (ع) عن علم وعمدٍ، لا عن جهل بمقامه وحقّه، ولا عن لبس في شأنه ومكانه، وإنما أبعدوه ليحققوا ما يصبون إليه، ويحصلوا على ما كانوا يخططون للوصول إليه؛ سعوا للدنيا من بداية إسلامه، وها هي الدنيا بلباس الخلافة قد جائتهم، وها هي الآن في متناول أيديهم، فكيف لهم أن يتركوها وأنّا لهم بفراقها؟!

لقد أنقضّوا على الخلافة وتقاسموا ضرع متعها، وتركوا صاحبها حبيس الدار، وتقدم المفضول على الفاضل -إن كان يملك أحدٌ منهم فضلاً-، ولعبوا بمقدرات الأمّة، وعاثوا فيها فساداً: يحدوهم الجهل، ويسوقهم الحقد على الإسلام ويقودهم العداء لأمير المؤمنين (ع).

بين الثورة والدار!

وما عسى الأمير أن يفعل بعد أن سلبوه حقّه وتعاضدوا على حربه، وتناهبوا أرثه؟!

فهل يقوم بالثورة والحرب ضد من سلبه حقه الإلهي فيناجزهم القتال، ولا يقبل بما آلت إليه الأحداث؟ أو أنّه يصبر ويتحمل مثل هذا الوضع المرير حيث أن الجلوس والصبر اليوم خير من الثورة والقيام، يقول أمير المؤمنين (ع) وهو يبين شدّة الأمر وصعوبة الخيارات «فَإِنْ أَقُلْ يَقُولُوا حَرَصَ عَلَى الْمُلْكِ وإِنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ هَيْهَاتَ بَعْدَ اللَّتَيَّا والَّتِي واللَّهِ لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ بِهِ لَاضْطَرَبْتُمْ اضْطِرَابَ الْأَرْشِيَةِ فِي الطَّوِيِّ الْبَعِيدَةِ»[4]

لم يحن وقت القيام!

هل يثور؟ وبمن يثور؟! إنّه لا يملك ناصر ولا معيناً! فهل يقوم بنفسه وبخاصة أهله وصحبه، فيذهب ويذهبون، فتخلوا الأرض منهم جميعاً! وهل من الصلاح أن يذهب شهيداً في مثل هذا الظرف الحساس، والإسلام في أمسّ الحاجة إليه، حيث إن الإسلام لم يُبيّن بتفاصيله،إلا له، فهو محتاج إلى بيانه، وشرحه وتفصيله وتفسيره، ولا يقوم بهذا المهمّه إلا هو!

وإذا ذهب ورحل شهيداً:فمن للإسلام والمسلمين؟ فهل من المناسب أن يقوم بالثورة اليوم والحال أن الإسلام مازال فتياً لم يشتد عوده، ورخواً لم يقو غُصنه، وقد قلّ أنصاره وكثر أعداؤه؟! وهل يفعل فعلاً تكون عاقبته نهايه الأسلام، وهو الذي أقامه وشيد بنيانه، وهل يحرّك ساكناً فيكون سبباً في زواله وهو الذي ثبت أركانه؟!

نعم، لا حكمه اليوم في الثورة والقيام، مع عدم وجود الأنصار والأعوان، وعدم أوان الأوان!! يقول أمير المؤمنين (ع): «ومُجْتَنِي الثَّمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا كَالزَّارِعِ بِغَيْرِ أَرْضِهِ»[5].

صبرٌ على الطخية العمياء!

لا ثورةٌ ولا قيام، فصبرٌ على عجاف السنين ومرارة الأيام وتحمّل للطخية العمياء والظلمة الدكناء التي لا يهتدي في غيابها إلا القليل ويتيه فيها الكثير الكثير! هكذا كانت فترة الغاصبين الثلاثة حيث أظلم الطريق على السالكين، وطالت فيها المحنة حتى هرم الكبير وشاب فيها الصغير، وتمرمر فيها المؤمنون وكدحوا حتى لاقوا ربهم محتسبين!

صبرٌ يكسف أهل النفاق!

صبر الأمير (ع) وما أعظم صبره وما أعجب تحمله! صبر وتحَّمل؛ لأن الصبر كان أولى وتحمَّل لما كان ذلك عين الحكمة والحجى، فبهذا الصبر الجميل وتجشّم العناء المرير أمكن كشف أقنعة أهل البغي والنفاق وثم التعرف على أهل الضلال والشقاء وعرف المخادعون والمتملقون وبانت معالم أهل الحق وتمايزهم عن أهل الباطل.

وإن احتاج ذلك مرور الأعوام والسنين؛ حيث كان النفاق خفيّاً ومكائد أهله غير جلية!

صبرٌ فيه قذى وشجى!

صبر الأمير (ع) ولكن بعينٍ قد ألم قذاها وبحلقٍ قد أوجع الشجى حياة مكابد غصصها من مصائب مهولة وخطوب فادحة مروعة!

وكيف لا تقذى ولا يشجى .. وهو يرى كيف تُدار الخلافة بالجهل والجهالات والإعراض عن القيم الإلهية والعمل بالقيم اللادينية، بأيدي رجالٍ قد مرضت قلوبها وتعفّنت فأزكمت الأنوف النّقية والقلوب الزكية!

كيف لا تقذى ولا يشجى .. وهو يرى تراثه الرباني وحقه الإلهي يتلاعب به أبناء الدنيا حيث ضلوا وأضلوا وزاغوا وانحرفوا!

كيف لا يقذى ولا يشجى .. وهو يرى كيف يسلكون بالناس إلى الجحيم ويسلبوهم سعادة الدارين، كل ذلك جراء أطماع حزب فاسق منافق قد استغل جهل الناس وتسلّق على أكتاف الفقراء والعباد فعاث في الأرض الفساد!

يقول أمير المؤمنين (ع): «فَلَمَّا مَضَى (ص) ع تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ فَوَاللَّهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ (ص) عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ ولَا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ فَمَا رَاعَنِي إِلَّا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلَانٍ يُبَايِعُونَهُ فَأَمْسَكْتُ [بِيَدِي‏] يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ ص فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ [وَ] أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الْأَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وزَهَقَ وَاطْمَأَنَّ الدِّينُ وتَنَهْنَه‏»[6]

السقيفة أساس كل ظلم وانحراف!

فبـ«السقيفة» تمّ إقصاء الوصي الشرعي عن مقامه، وهُحم على داره، واضرمت النّار بباب فاطمة (ع) وعُصٍرَت ما بين الحائط والباب .. فكانت فاتحة كل الجسارات على أهل البيت(ع)!

وبـ«السقيفة» ضيقوا على أهل البيت (ع) اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً فلم يطيقوا بكاءها على أبيها، وأخذوا منها فدكاً نحلة أبيها، كما منعوا بني هاشم الخمس إمعاناً في أذية بعلها وبنيها!

وبـ«السقيفة» مُنع بني هاشم من تولي أية مناصب حكومية!

وبـ«السقيفة» بُسطَت يد الأمويين في تولي المناصب الحكومية، حيث شكلت نسبتهم في حكومة أبي بكر حوالي الثلث!

وبـ«السقيفة» أنتعشت روح القبلية بعد أن أخمدها الإسلام بتعاليمه الرفيعة السامية!

وبـ«السقيفة» تمت محاصرة السنّة النبوية علناً بعدما أن كانوا ينهون عن ذلك سراً؛ حتى قالها الأول «فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً»[7]، كل ذلك تحت غطاء خشية انتشار الاختلاف في الأمة!

وبـ«السقيفة» نشأت حالة الشلل النفسي في الأمة؛ حيث اعتزل جُلّ الأنصار وبعض المهاجرين اعتراضاً على نتيجة السقيفة وندماً على التفريط بحق الإمام علي (ع)، ولم تكن عندهم الإرادة على النهوض عندما دعاهم للنصرة! وهذا الشلل النفسي تراكم في الأمة حتى انقلبت الرؤية وانتكسرا فرأوا الباطل حقاً والحق باطلاً!![8].


[1] نهج البلاغة، صبحي صالح، ص:48

[2] نهج البلاغة، صبحي صالح، ص:231

[3] النمل: 14

[4] نهج البلاغة، الخطبة (5)

[5] نهج البلاغة، صبحي صالح، ص:52

[6] نهج البلاغة، صبحي صالح، ص:451 «الكتاب 62 ومن كتاب له (ع) إلى أهل مصر مع مالك الأشتر [رحمه الله‏] لما ولاه إمارتها»

[7] روى الذّهبيّ أنّ أبا بكر جمع النّاس بعد وفاة نبيّهم، فقال: «إنّكم تحدّثون عن رسول اللّه (ص) أحاديث تختلفون فيها، والنّاس بعدكم أشدّ اختلافا، فلا تحدّثوا عن رسول اللّه شيئا فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب اللّه فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه»، تذكرة الحفاظ بترجمة أبي بكر 1/ 2-3.

[8] مع الركب الحسيني، ج:1، ص:92-101

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟