مواضيع

المفاوضات نافذة للنفوذ

سياسة أمريكا بصفتها مظهراً للاستكبار ضد الجمهورية الإسلامية واضحة وبيّنة، لكنهم يسعون بطبيعة الحال إلى عدم إبرازها بشكل جليّ عبر الأساليب الإعلامية، لكنها تبدو لكل ناظر سياسة واضحة.

وتتلخص سياسة أمريكا ضد إيران، برغبتها في اجتثاث العامل الذي أدى إلى إفلات إيران بكل ثرواتها المادية والمعنوية من قبضة أمريكا، هذه هي سياسة أمريكا فاعرفوها، أما ذلك العامل فهو طموح هذا الشعب بالاستقلال، إنه الإسلام الذي لا يرتضي لهذا الشعب الرضوخ للظلم، إنها الرغبة في المجابهة لدى أبناء هذا الشعب، وعدم انقيادهم لمنطق القوة، وهي أحكام الإسلام التي تناهض الأعداء، أكثرها حثاً وتحفيزاً على الصمود والمقاومة، هذا هو هدفهم، وعلى الشباب أن يفكروا في هذا الموضوع بشكل سليم ويلتفتوا إليه، أمّا ما يشيعونه عن نقض حقوق الإنسان وما شابه ذلك، فهم بذاتهم يعلمون مجانبته للواقع، وهم لا يذكروه إلاّ على سبيل الضغط.

أمريكا تنتهج هذا المسلك منذ زمن بعيد ضد كل دولة تناصبها العداء، وهذا هو أحد أساليبها العدائية؛ أي تهرّج ضده، بأنه ناقض لحقوق الإنسان ومناهض للديمقراطية! وهم يدركون عدم صحّة ذلك، والعالم كله يعرف هذا، إذاً فهذا الأمر ليس ذا أهمية.

مطالبهم الحقيقية من الجمهورية الإسلامية ـ وهو ما أكّدوا عليه مراراً هي أن تتراجع عن مواقفها بشأن القضية الفلسطينية! وأن تعترف بإسرائيل، مثلما هو حال البلدان التي وضعت قضية فلسطين طيّ النسيان، وأن تغض النظر عن هذه القضية، وتذعن للوجود الأمريكي في مختلف بقاع العالم، وتقر التدخل الأمريكي في قضايا منطقة الخليج الفارسي، والأهم من كل ذلك القبول بالتغلغل الأمريكي في قضايا إيران.

هذه هي المطالب الحقيقية للحكومة الأمريكية، وهو ما يسعون إليه بشكل حقيقي وجاد، ولكنهم يظهرونه تحت غطاء عناوين واتهامات أخرى، وأساليب إعلامية معادية وما شاكل ذلك.

إنّهم يعلمون أنّ الجمهورية الإسلامية ومن خلال تمسكها بالإسلام لا ترضخ لمثل هذه الأساليب، ولا معنى لأن يكون المرء معتقداً بالإسلام ومتمسكاً ولو بشيء منه ومع هذا يرتضي لنفسه الخضوع لهذه الأساليب ويقبل بالظلم.

فكما أنّ الإسلام يستقبح الظلم فهو يستقبح الرضا، بنفس القدر، قال عزّوجلّ في قرآنه الكريم: ﴿لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ>[1]، ويقول الإمام السجاد في دعاء مكارم الأخلاق: «وَلا أُظْلَمَنَّ وَأَنْتَ مُطیقٌ لِلدَّفْعِ عَنّي، وَلا أَظْلِمَنَّ وَأَنْتَ الْقادِرُ عَلَی الْقَبْضِ مِنّي»[2].

وهل من الممكن أن يكون الإنسان مؤمناً بالإسلام ويرضخ للظلم من أيٍ كان، فما بالك إذا كان الظلم صادراً من العدو القديم للشعب الإيراني – أعني أمريكا – التي تسببت في كل هذا الأذى للشعب الإيراني؟ هذا لا يمكن، وهم يدركون هذا، ومن هنا صاروا يمقتون النظام الإسلامي ويضمرون له العداء ويعارضونه ويحاربونه؛ لمعرفتهم أنّ شعب إيران ونظامه الإسلامي غير مستعدين لقبول ما يفرضونه عليهما.[3]

و أمريكا لا تخفي عداءها. نعم، هم يوزّعون الوظائف، فأحدهم يبتسم، وأحدهم يعدّ قراراً ضد الجمهورية الإسلامية ويتابعه؛ هذا نوع من توزيع الوظائف والمهام. هم ينشدون شيئاً باسم التفاوض مع إيران، لكن المفاوضات ذريعة، المفاوضات وسيلة للنفوذ، المفاوضات وسيلة لفرض إرادات. لقد وافقنا على أن يتفاوضوا في الملف النووي فقط، ولأسباب معروفة ذكرناها مراراً، وقد تفاوضوا طبعاً.[4]

البعض يتساهلون في قضية المفاوضات، يتساهلون فكرياً، ولا يدركون القضية بصورة صحيحة. والبعض غير مبالين، هم غير مباليون المجتمع الذين لا يهتمون مهما حدث وحتى لو تدمرت مصالح البلاد وسحقت المصالح الوطنية – ولا شأن لنا الآن بهؤلاء، لكن البعض ليسوا لا أباليين، لكنهم متساهلون في تفكيرهم، ولا يدركون عمق الأمور. عندما يجري الحديث عن المفاوضات يقولون لماذا تعارضون المفاوضات مع أمريكا؟ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فاوض فلاناً، والإمام الحسين فاوض. هذا كلام يدل على تبسيط في التفكير وعدم غور إلى عمق المسألة. لا يمكن تحليل شؤون البلاد بهذه الطريقة، لا يمكن بهذه النظرة العامية التبسيطية تحقيق مصالح البلاد. أولاً عندما يتحدث الإمام علي مع الزبير أو الإمام الحسين مع ابن سعد، فإنه ينصحه وليست القضية قضية تفاوض بالمعنى العصري للكلمة. المفاوضات اليوم تعني المعاملة وإعطاء شيء وأخذ شيء آخر. فهل كان الإمام علي يتعامل مع الزبير ليعطيه شيئاً ويأخذ شيئاً؟ وهل كان الإمام الحسين يتعامل مع ابن سعد ليعطيه شيئاً ويأخذ شيئاً؟ هل كان هذا هو الهدف؟ هكذا تفهمون التاريخ؟ هكذا تحللون حياة الأئمة؟ سار الإمام الحسين وهتف ونصح، وقال: خف الله. والإمام علي نصح الزبير وذكّره بحدث في زمن الرسول الأكرم (ص) وقال لهك اِخش الله، وقد أثر ذلك فيه وانسحب الزبير من ساحة المعركة. لكن المفاوضات اليوم ليست بهذا المعنى. البعض لهم حقاً نظرات تسطيحية وتبسيطية وعامية ومن دون فهم لحقيقة الحال، لذلك تراهم يضربون الأمثال ويكتبون في الجرائد والمواقع ويتكلمون في الخطابات من أجل أن نتفاوض مع أمريكا وهي الشيطان الأكبر، ويقولون: لماذا تفاوض الإمام علي بن أبي طالب مع الزبير ولا تتفاوضون أنتم مع أمريكا؟ خطأ في فهم القضية إلى هذه الدرجة. لم يكن ثمة تفاوض بالمعنى الشائع اليوم.

ثانياً إننا لا نعارض التفاوض بمعناه الحديث اليوم، فلدينا حالياً مفاوضاتنا مع العالم كله. نتفاوض مع البلدان الأوربية ومع حكومات أمريكا اللاتينية. هذه كلها مفاوضات. ليست لدينا مشكلة مع المفاوضات. حين نقول لا نتفاوض مع أمريكا فليس معنى ذلك إننا نعارض أساس التفاوض، لا، بل نعارض التفاوض مع أمريكا. ولهذا سببه، ويمكن للإنسان الواعي الذكي أن يدرك ذلك ويفهم لماذا، وإلّا حين نتفاوض مع الآخرين فليسوا أصدقاءنا الودودين الصميميين – وبعضهم عدو وبعضهم غير مبالين، نتفاوض معهم ولا مشكلة لنا في ذلك – لكن تفاوض أمريكا مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية يعني النفوذ والتغلغل. هذا هو تعريفهم للمفاوضات، وهم يريدون فتح الطريق أمام فرض الأمور والإكراه. الغول الإعلامي الهائل في العالم اليوم بيد أمريكا، والتيار الصهيوني المعادي للإنسانية والمعادي للفضيلة بشدة اليوم متحالف مع أمريكا، وكلاهما في صفّ واحد وثياب واحدة وأيديهما متعاضدة. والتفاوض معهم يعني فتح الطريق ليستطيعوا التغلغل والنفوذ في البلاد على الصعد الاقتصادية والثقافية والسياسية والأمنية.

و في هذه المفاوضات الخاصة بقضايا الطاقة النووية أين ما سنحت لهم الفرصة وفسح لهم المجال – وبالطبع فإن الطرف الإيراني والحمد لله كان يقظاً فطناً، لكنهم وجدوا بعض الفرص في بعض المواطن بالتالي – مارسوا النفوذ وقاموا بخطوة تضرّ المصالح الوطنية. هذا هو الممنوع. التفاوض مع أمريكا ممنوع بسبب أضراره الكثيرة وعدم وجود منفعة فيه. هذا يختلف عن التفاوض مع الحكومة الفلانية التي ليس لها مثل هذه الإمكانيات ولا مثل هذه الدوافع. هاتان الحالتان مختلفتان، لكن البعض لا يفهم.[5]

لذلك فإن أكبر تركيزهم في عدائهم هو على نظام الجمهورية الإسلامية، وهم يفعلون كل ما يستطيعون، وحديثهم عن المفاوضات والحوار هو من أجل التغلغل والنفوذ.[6]

مشكلة البلاد الحالية للأسف بسبب وجود بعض الأشخاص غير المبالين وآخرين بسطاء، وهم قلائل طبعاً، وليسوا بشيء مقابل الحشود الهائلة من الثوريين الواعين ذوي البصائر في البلاد، لكنهم ناشطون، فهم يكتبون ويتحدثون ويكررون ويكررون! والعدو يساعدهم. فصل مهم من نشاط أعداء الجمهورية الإسلامية اليوم – ولدينا طبعاً اطلاعنا عليهم ونحن متفطنون إلى ما يفعلون – هو أن يغيّروا حسابات المسؤولين في إيران، ويعبثوا بأفكار الناس، ويلقنوا ما يريدون لأذهان شبابنا. يريدون تغيير الأفكار الثورية والأفكار الدينية والأفكار المتعلقة بمصالح البلاد. المستهدف الرئيس هم الشباب. وفي مثل هذه الأوضاع ينبغي أن يتحلى شباب البلاد بدرجة عالية من اليقظة. وهم يقظون والحمد لله، جامعاتنا يقظة وقواتنا المسلحة يقظة ومؤسساتنا العسكرية – الجيش والحرس والتعبئة وقوات الشرطة – تعمل ومستعدة تماماً والحمد لله، وأنا لا أشعر بالقلق أبداً من هذه الناحية. خطابي لكم أنتم شباب الثورة الذين تعملون وتساهمون في واحدة من قضايا البلاد المهمة أي أمن البحار، هو أن تدركوا وتعلموا أهمية ما تقومون به اليوم. كما وقف في المباهلة الإيمان كله أمام الكفر، اليوم أيضاً يقف الإيمان كله في نظام الجمهورية الإسلامية مقابل الكفر، وكما استطاع نقاء الرسول الأكرم (ص) ومعنويته واقتداره وأهل بيته أن يدحر الأعداء من الساحة، سيدحر شعب إيران باقتداره ومعنويته وبفضل الله وحوله وقوّته، العدو من الساحة.[7]


[1]. البقرة: 279

[2]. الصحيفة السجادية، الدعاء العشرون

[3]. بيانات سماحته أمام طلبة الجامعات بتاريخ 6-10-1997م

[4]. بيانات سماحته أمام مختلف شرائح الشعب الإيراني بتاريخ 9-9-2015م

[5]. بيانات سماحته أمام قادة القوة البحرية لحرس الثورة الإسلامية وعوائلهم بتاريخ 7-10-2015م

[6]. نفس المصدر

[7]. نفس المصدر

المصدر
كتاب النفوذ في فكر الإمام الخامنئي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟