مواضيع

عدم الاستقلال طريق لنفوذ العدو

أيها الأعزاء، وأيها الإخوة والأخوات.. إنّ انعدام الاستقلال في أي بلد يؤدّي دائماً إلى مثل هذه الأمور، فيسلب الشعوب هويّتها الوطنية ومفاخرها وماضيها التاريخي، وينهب ثرواتها المادية، وينتزع منها لغتها وهويتها الثقافية! وهذا يحدث عندما تسيطر إحدى القوى على أحد البلدان.

لقد كان هذا هو الحال في عهد الاستعمار، وفي العهد التالي له والذي يعرف بعهد الاستثمار، والذي كان له وضع آخر، وطبعاً فإن الاستعمار لم يحتل بلادنا أبداً؛ أي أنّ الأجانب لم يستطيعوا المجيء إلى هنا وتشكيل حكومة انجليزية مثلاً، فالشعب الإيراني لم يسمح لهم بذلك، ولكنهم لم يكفوا عن بسط نفوذهم داخل إيران قدر المستطاع كلّما سنحت لهم الفرصة بذلك.

وبودّي أن أقدّم لكم أربعة نماذج من تاريخنا القريب؛ أي تاريخ المئة عام الأخيرة؛ وهذه النماذج الأربعة تكشف عما يتعرّض له بلد وشعب عندما تتحكّم سلطة أجنبية في أجهزته السياسية والثقافية.

النموذج الأول: نموذج المشروطة، إنكم تعلمون بأن عهد استبداد الحكومة القاجارية كان قد بلغ بالشعب شفير الهلاك، فثارت الجماهير المتحرّقة والمتحمّسة وفي الطليعة علماء الدين؛ ولقد كان قادة المشروطة[1] رجالاً من أمثال المرجع المرحوم آية الله الآخوند الخراساني في النجف، وثلاثة من العلماء الكبار في طهران، هم: المرحوم الشيخ فضل الله النوري، والمرحوم السيد عبد الله البهبهاني، والمرحوم السيد محمد الطباطبائي، وكان هؤلاء يستمدّون دعمهم من الحوزة العلمية في النجف؛ فماذا كانوا يريدون؟ لقد كانوا يطالبون بإقرار العدالة في إيران ورفع الاستبداد عنها، فلما شاهدت الحكومة البريطانية غليان الجماهير الشعبية، وكان لها نفوذ شديد آنذاك في إيران، بثّت عناصرها بين المثقفين الذين كان ثمّة عدد منهم في عداد هؤلاء النفر المتحمّسين، فلا ينبغي غمط حقّهم، ولكن عدداً منهم كانوا من الخونة والعملاء! لقد كانوا عناصر للإنجليز، فرسم لهم الإنجليز الخطوط العريضة.

إنّ المشروطة لم تكن سوى شكل وتجسيد للحكومة الإنجليزية؛ فبدلاً من أن يتجه هؤلاء المثقفون صوب إيجاد جهاز للعدالة ذي قالب وشكل إيراني يعمل على تحقيق العدالة في البلاد، فإنهم جاؤوا بالمشروطة! فماذا كانت النتيجة؟ لقد كانت النتيجة هي أنّ تلك النهضة الشعبية الكبرى، التي قادها العلماء والتي قامت باسم الدين والمطالبة بالدين، انتهت بعد فترة قصيرة إلى إعدام الشيخ فضل الله النوري شنقاً في طهران ـ وقبر هذا الشهيد العظيم موجود الآن هنا في الحرم ـ ثم ما لبثوا أن اغتالوا السيد عبد الله البهبهاني في منزله، وبعد ذلك فرضوا العزلة والوحدة على حياة السيد محمد الطباطبائي حتى فارق هذه الدنيا في صمت. وبذلك أعادوا المشروطة إلى ذلك الشكل الذي كانوا يريدون! هذه المشروطة التي انتهت أخيراً بحكومة على رأسها رضا خان!

النموذج الثاني: هو حكومة رضا خان نفسها؛ فالإنجليز كانوا قد عقدوا اتفاقاً مع الحكومة القاجارية يخوّل لهم حق التصرّف في كافة الأمور المالية والعسكرية في إيران، فجاء العالِم الواعي المرحوم السيد حسن المدرس وعارض هذا الاتفاق وحال دون التصديق على هذه اللائحة من قِبَل مجلس الشورى الوطني آنذاك؛ فلما وجد الإنجليز أنهم لن يجنوا نفعاً من ذلك فإنهم فكّروا في طريقة أخرى وتوصّلوا إلى أنه لابدّ من إيجاد دكتاتور على سدّة الحكم في إيران حتى يقوم بقمع وقلع المدرس وأمثاله! وعليه أن يتصرّف مع الشعب بعنف وجبروت؛ بغية تنفيذ المطامع الإنجليزية، ولهذا فقد جاؤوا برضا خان إلى الحكم، وهو حدث مليء بالعِبَر في تاريخنا، وينبغي لشباب هذا البلد أن يطّلعوا على حقيقته؛ فقد تمّ التغلّب على حالة الفوضى التي كانت تسود البلاد قبيل مجيء رضا خان وذلك بإعمال قبضته الفولاذية ومساندة الحكومة الإنجليزية له، ثم فرضوا على البلاد نظاماً قسرياً واستبدادياً أخذ بزمام السلطة لمدة خمس وخمسين سنة متواصلة، وكان النفوذ الإنجليزي المتغلغل في الأجهزة السياسية والثقافية يضع الشعب عرضة للضغوط.

النموذج الثالث: هو نموذج شهر (شهريور) عام 1320هـ ش ـ 1943م الذي تمّ فيه عزل رضا خان عن الحكم بواسطة حماته القدامى وإبعاده عن البلاد، ثم جاؤوا بمحمد رضا وقد استسلم تماماً للإنجليز! فكان يحقق لهم كل ما يرغبون فيه، وبذلك لم تعد هناك حاجة للاستعمار! فعندما يكون هناك عنصر إيراني خائن مستعد لتسنّم السلطة مقابل الدعم الأجنبي وتنفيذ رغبات أولئك الأجانب في إيران فلا ضرورة حينذاك ليتعبوا أنفسهم ويستعمروا البلاد.

النموذج الرابع: وذلك في شهر (مرداد) 1332هـ.ش – 1955م بعد إسقاط حكومة (مصدّق)[2] – وكانوا قد فرضوا العزلة على المرحوم آية الله الكاشاني[3] من قَبل متوسّلين بما لديهم من خدائع ـ ثم عادوا للسيطرة من جديد، ودخلوا إيران، واستطاعوا تدبير انقلاب (28 مرداد)[4] عن طريق ما لهم من نفوذ وأيادي وأنشطة، فأعادوا محمد رضا إلى إيران بعد هروبه منها، وبذلك استمرت حكومة بهلوي الدكتاتورية السوداء لمدّة خمسة وعشرين عاماً أخرى. فهذه مراحل تاريخية أربع مملوءة بالعبر والدروس.

أيّها الإخوة والأخوات الأعزاء، إنّ الاستبداد في بلادنا كان على الدوام معتمداً على مساندة القوى السلطوية الأجنبية؛ فاستبداد الحكم البهلوي ودكتاتوريته وطغيانه، ومن قبله الحكم القاجاري بأسلوب آخر، إنّما قام بسبب اعتماده على القوى الأجنبية؛ فرضا خان كان معتمداً على الإنجليز، ومحمد رضا كان في البداية معتمداً على الإنجليز ومن ثم اعتمد على أمريكا، فكان يضمن للأمريكان مصالحهم ونفوذهم، وهم يقومون بحمايته، وكانوا يفعلون بهذا البلد ما يشاؤون، فأخضعوا الشعب لوطأة الاضطهاد خمسين عاماً؛ وأوقفوا عجلة تطوره العلمي والصناعي والثقافي والأخلاقي في مرحلة كانت المثلى من بين المراحل، وأكثرها نضجاً لبلوغ هذا التطور على الصعيد الدولي، وأبقوا على هذا الشعب وهذا البلد متخلّفاً، وكان جلّ همّهم في حياة الدعة والرفاهية وجمع الثروات وتقديم الخدمة لأسيادهم الأجانب، وهؤلاء إنّما استتبّ لهم الأمر بشكل تام في إيران عبر اعتمادهم على القوى الأجنبية، ولم يكن شأن أيّ كان اجتثاثهم وتحطيم هذا البناء الأعوج الضار المليء باللعنة والبغضاء والشؤم؛ فأطلّ الإمام العظيم حاملاً راية الهدى الإسلامية، ولذا فإن مبادئ الإمام هي مبادئ الإسلام، وعدالته عدالة إسلامية، وحاكمية الشعب التي جاء بها هي حاكمية الشعب الإسلامية.[5]

فعندما يسمح شعب لقوة أجنبية بالنفوذ داخل أجهزته السياسية أو الثقافية، فسيكون هذا مصيره، ولو لم تقم الثورة الإسلامية، ولو لم يقم هذا الشعب بهذه الحركة التاريخية العظيمة بقيادة الإمام الراحل، فهل تعلمون ماذا سيكون وضع الشعب الإيراني الآن؟ إنهم لم يدعوا الشعب يقف عملياً على أي بُعد من أبعاد التطوّر العلمي في الغرب؛ فلا اختراع، ولا اكتشاف، ولا بناء، وهو الذي فَقَد كل مصادره الحيوية.

لقد باعوا نفطه لهؤلاء الأعداء بثمن أقل من مياه الأنهار! فكان النفط لهم، ومصافي تكريره من عندهم، وكانت الاتفاقيات الطويلة الأمد تعقد لصالحهم! كما أنّ أعداء هذا البلد كانوا قد دبّروا خطّة أيضاً لنهب ما تبقّى من مناجم ومصادر طبيعية، والاستحواذ على العقول المفكّرة، والإبقاء على المؤسسات العلمية ضحلة المستوى.

لقد عانى الشعب مرارة العيش في مرحلة النفوذ الأمريكي والإنجليزي في إيران؛ فالإنجليز جلبوا التخلّف خلال المئة عام الأولى، ثم جاء الأمريكيون فكرّسوا التخلّف في البلاد بما كانوا يمارسونه من نفوذ، ومازلنا نشاهد حتى اليوم في كل مرحلة جديدة من مسيرتنا آثاراً من تقصيرهم وخياناتهم وسوء سلوكهم وتصرّفهم.

إنّ أحد أبرز إنجازات الثورة الإسلامية هو رفع يد أمريكا عن هذا البلد، وإنّ أحد مفاخر الثورة الإسلامية هو التغلّب على نفوذ أمريكا وقطع يدها واقتلاع جذورها وإزالة عراقيلها من طريق هذا البلد، وبالطبع فإن بعض من تسنّموا السلطة في البداية في إيران، وكانت قلوبهم تنبض بحب أمريكا، لم يكونوا راغبين في تحقيق هذا الإنجاز. ولقد شاهدت ذلك بعيني عن قرب في مجلس الدفاع الأعلى عام 1358هـ.ش – 1981م؛ فلقد كانوا يعدّون لائحة يتم على أساسها الإبقاء على وفود المستشارين العسكريين الأمريكيين – هؤلاء الذين ارتكبوا كل هذه الجرائم والخيانات في جيش الجمهورية الإسلامية، ولكن بعنوان آخر! فقمت بالحيلولة دون ذلك، وقلت لهم: ما هذا الذي تصنعون؟! ودار بعض النقاش، ثم تركوا الموضوع دون أن يكتمل، ولم يوفّقهم الله تعالى بعد ذلك للقيام بهذا الإجراء إلى أن ذهبوا، ومرّة أخرى، ولم يكن قد مضى من عمر الثورة الإسلامية عام واحد، وضع نفس هؤلاء السادة في الجزائر مشروع المحادثات مع الأمريكيين الأعداء الدمويين لهذا الشعب ـ ولكن الإمام مانع في ذلك ولم يسمح به.

إنّ المرء يحق له أن يسيء الظن عندما يسمع اسم (الإصلاح) و(الحرية) من فم مثل هؤلاء الأشخاص، إنهم كانوا يريدون الإتيان بالأمريكيين من النافذة بعد أن خرجوا من الباب متوسّلين بشتّى الحيل بعد ثورة متألّقة من هذا النوع، والذي كان حدّها المَسْنون موجّهاً ضد السيطرة الأمريكية، ثم يأتي هؤلاء الآن ليتحدثوا عن (الحرية) وينادوا (بالإصلاح) مستمدّين الدعم من حثالة وعملاء النظام البائد! إنّ لكل إنسان عاقل أن يشعر بالقلق وسوء الظن، لقد كان الاستقلال بيت القصيد في منظومة الثورة الإسلامية؛ أي قطع دابر النفوذ الأجنبي في هذا البلد، وعدم السماح لأمريكا وانجلترا وآخرين بممارسة نفوذهم في قضايانا السياسية والثقافية على الإطلاق.[6]


[1]. الحركة المشروطة في إيران التي تزعّمها اثنان من كبار علماء الدين في إيران هما السيّد محمّد الطباطبائي، والسيد عبد الله البهبهاني. عملت الحركة على إقامة حكم ملكي دستوري مشروط ببرلمان، ونجحت في (5/8/ 1906م)، في إجبار مظفَّر الدين شاه على إعلان الدستور، والاحتفاظ بمكانة عليا تضمن للفقهاء الإشراف على قوانين المجلس. ولكن انقسام الحركة الدستورية إلى فريقين، يطالب أحدهما بحكم ديموقراطي مطلق، وآخر يطالب بحكم يلتزم بالشريعة الإسلامية، أدى إلى إعدام الشيخ فضل الله النوري أكبر دعاة «المشروطة المشروعة» في طهران على يد فريق «المشروطة المطلقة»، ما جعل حالة من التشكيك في الحركة الدستورية تسود في أوساط العلماء، فاتهموها بالعمالة لبريطانيا. وقد حاولت الحركة الاعتماد على المرجعية الدينية في النجف الأشرف لتتخذ موقفاً حاسماً ضد السلطة القاجارية التي كانت تعارض أهداف الحركة في إنشاء مجلس شورى، والحركة الدستورية، فكان على رأس أنصار المشروطة الشيخ كاظم الخراساني والشيخ حسن الخليلي والشيخ عبد الله المازندراني والشيخ محمّد حسين النائيني وغيرهم. وفي 24جمادى الثانية 1327 هـ /13حزيران 1909م. حققت المشروطة انتصاراً ساحقاً بسقوط الشاه على أيدي أنصار المشروطة وخروج الروس من إيران.

[2]. محمد مصدق (1882-1967)، رئيس وزراء إيراني أسبق شغل المنصب بين عامي 1951 و1953. في زمان الشاه محمد رضا بهلوي. طرح شعار الاستقلال والحرية وأمم النفط أبان تسلمه الرئاسة، كما قام بخلع الشاه إلا أنه سرعان ما أعيد الشاه بعملية أمريكية بريطانية مشتركة سميت بعملية أجاكس، اُعتقل محمد مصدق بعدها وسجن لمدة ثلاث سنوات وأطلق سراحه بعدها إلا أنه استمر رهن الإقامة الجبرية حتى وفاته في العام 1967م.

[3]. السيد أبو القاسم بن السيد مصطفى الحسيني الكاشاني: ولد سنة 1330هـ‍ وتوفى سنة 1381هـ‍، نال مرتبة الاجتهاد في الخامسة والعشرين من عمره، شارك في ثورة العشرين وكان عضواً في المجلس العلمي الذي شكّله الإمام الشيرازي لقيادة الثورة، كما اهتم وبمساعدة العلماء الآخرين من تأسيس حزب سياسـي منظَّم ليسهل من عملية التعبئة الجماهيرية، ضد الإنجليز، فله باع طويل في نصرة الثورة، وبعد انتكاسة الثورة طارده الإنجليز فهرب إلى إيران، وكان أيضاً مشاوراً للآخوند الخراساني في نهضة المشروطة، وكانت له مواقف مشرفة في إيران من قضية تأميم النفط. يعدُ من تلاميذ الشيخ محمد تقي الشيرازي والشيخ محمد كاظم الخراساني والميرزا حسين الخليلي.

[4].  انقلاب الثامن والعشرين من مرداد (19 اغسطس آب 1953) الذي دبرته المخابرات الأمريكية (CIA) بالتعاون مع البريطانيين وأتباع الملكية ضد حكومة الدكتور مصدق الوطنية وإرجاع الشاه إلى السلطة.

[5]. بيانات سماحته في ذكرى رحيل الإمام الخميني بتاريخ 4-6-2002م

[6]. بيانات سماحته أمام أهالي قم بتاريخ 5-10-2000م

المصدر
كتاب النفوذ في فكر الإمام الخامنئي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟