مواضيع

شكر المنعم على عظيم النعم

من كتاب نشيد الشهادة للأستاذ محمد سرحان

نص الوصية

إلهي! أشكرك على نعمك
إلهي! أشكرك على أن نقلتني من صلبٍ إلى صلب ومن قرنٍ إلى قرن، نقلتني من صلبٍ إلى صلب وسمحت لي بالظهور ومنحتني الوجود بحيث أتمكّن من إدراك أحد أبرز أوليائك المقرّبين والمتعلّقین بأوليائك المعصومين، عبدك الصّالح الخميني الكبير، وأن أصبح جنديًّا في ركابه. فإن لم أحظَ بتوفيق صحبة رسولك الأعظم محمّد المصطفى (ص) ولم يكن لي نصيبٌ من فترة مظلوميّة عليّ بن أبي طالب وأبنائه المعصومين والمظلومين (ع)، فقد جعلتني في نفس المسار الذي بذلوا لأجله أرواحهم التي هي روح العالم والخلقة.
اللهم إني أشكرك على أن جعلتني بعد عبدك الصالح الخميني العزيز، سائرًا في درب عبد صالح آخر من عبادك الصالحين، مظلوميته تفوق صلاحه، رجل هو حكيم الإسلام والتشيّع وإيران وعالم الإسلام السياسي اليوم، الخامنئي العزيز روحي لروحه الفداء.
إلهي! لك الشكر على أن جمعتني بأفضل عبادك وتكرّمت عليّ بتقبيل وجوههم الجنائنيّة واستنشاق عطرهم الإلهي، ألا وهم مجاهدو وشهداء هذا الدرب.
إلهي! أيّها القادر العزيز والرّحمن الرزّاق، أمرّغ جبهة الشّكر والاستحياء على عتبتك، أن جعلتني أسير على درب فاطمة الزكيّة وأبنائها في مذهب التشيّع -العطر الحقيقي للإسلام- وجعلتني أنال توفيق ذرف الدّموع على أبناء علي بن أبي طالب وفاطمة الزكيّة (ع)؛ أيّ نعمة عظيمة هذه التي هي أرفع نعمك وأثمنها، وهي نعماك للنّور والمعنويّة، وهياج يحمل في طيّاته أرفع درجات السُّكنى والطّمأنينة، وحُزنٌ يختزن الهدأة والرّوحانيّة.
إلهي! أشكرك على أن رزقتني والدين فقيرين، إلّا أنّهما كانا متديّنين وعاشقين لأهل البيت وسائرين دائمًا في درب الطّهر والنّقاء. أطلب منكَ متضرعًا أن تسكنهما في جنّتك ومع أوليائك وترزقني لقاءهما في عالم الآخرة.

يقول الإمام الحسن العسكري (ع): «لا يعرف النعمة إلا الشاكر ولا يشكر إلا العارج».
وفي لفتة عرفانية لطيفة يتوجه الشهيد بكل وجوده لشكر المنعم الكريم الذي لا تحصى نعمه، وأي نعمة أعظم من أن يخرج الإنسان من ظلام العدمِ إلى نور الوجود، بعد أن كان لا شيء، فأصبح شيئًا تتناقله أصلاب الرجال حتى يأذن الله له بالظهور في عالم الدنيا، ويصير مكلفًا ليرتقي في مدارج الكمال حتى يعود إلى ربهِ راضيًا مرضيًا.
هذه النعمة العظيمة وتواترها يعجز اللسان عن ذكر عددها أو استقصائها، ووجب على المؤمن الشكر، كما قال الامام علي بن الحسين زين العابدين (ع): «فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إياك يفتقر إلى شكر».
من عناوين الشكر التي يذكرها الشهيد في وصيته: الانتماء لخط الولاية الإلهية.
روح الانتماء للأساس العقائدي القائم على الولاية بارزةٌ بشكل كبير في هذا المقطع، حيث ينطلق الشهيد من شكر الله عز وجل على أن هداه لهذا المنهج القويم -والذي يمثل الإسلام المحمدي الأصيل- مؤكدًا على سلسلة الولاية الذهبية الممتدة من الله سبحانه وتعالى وهو صاحب الولاية المطلقة في الوجود، ثم يرتضي من يشاء من عباده ويجعله وليًا، وعلى رأسهم جميعًا صاحب الولاية الكبرى المجعولة من الله سبحانه وتعالى النبي الأكرم محمد (ص)، ثم سلسة الولاية النبوية للأوصياء (ع) من أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع) إلى أبنائه المعصومين (ع).
وعلى الرغم من أن الشهيد لم يدرك زمن المعصومين في مرحلة ظهورهم المقدس إلا أنه يتوجه بالشكر إلى المنعم أن جعله يدرك خاصة أولياء هؤلاء المعصومين ويكون قريبًا منهم، وهم يمثلون الامتداد الطبيعي للولاية، وعنى بذلك العبدين الصالحين الوليين للمعصومين الإمامين الخميني والخامنئي رضوان الله عليهم.
توجيه وتنبيه: «مظلوميته تفوق صلاحه، رجل هو حكيم الإسلام».
من خلال ملازمة الشهيد الطويلة لدرب الثورة والجهاد في سبيل الله مع السيد القائد الخامنئي ولمعاينته لكل المواقف الحكيمة التي اتخذها القائد خلال مسيرته معه، يشهد بأن هذا الولي هو حكيم الإسلام في هذا الزمان، وأن هذا الرجل يتبوأ موقع نائب الإمام الحجة‌ (عج)، وهو موقع مقدس له اعتباريته ومقامه الذي لم ينل حقه من التقدير وحفظ المقام والمعرفة من القريب فضلًا عن الغريب، ولم يعطَ حق قدره من الأتباع فضلًا عن الأعداء فهو يتعرض للمظلومية الكبيرة حيث لا يعرف مقامه وحقيقته إلا القلائل، كما يقول سيد المقاومة سماحة السيد حسن نصرالله دام عزه: «لو علم الناس من هو خامنئي لأتوه ولو حبوًا على الثلج».

الشهداء العطر الإلهي

تعبر كلمات الشهيد في وصيته عن تواضع كبير عندما يصل الأمر لحضرة الشهداء، وليس لياقة الشهداء لوسام الشهادة إلا لهذا التواضع للشهادة، لقد كان الحاج الشهيد حريصًا على تقبيل جباه المجاهدين في جبهات القتال، وبعد استشهادهم يقف بين يديهم كالعبد أمام سيده، رغم أنه كان قائدهم في المعارك لكنهم لما ارتقوا سلم الشهادة أصبحوا هم القادة والأسياد.
أليسوا كما في الرواية: «الشهداء أمراء الجنة»، ولذا يقول الحاج أنه عند تقبيل هؤلاء الشهداء المضمخين بالدماء لا نستنشق منهم سوى عطر الجنة ورائحته الزكية التي هي من الفيوضات الإلهية والنفحات الرحمانية التي لا يدركها إلا من كان في نفس الطريق.

في حب علي وآل علي

بمزيد من الخضوع والشكر لله على النعمة الكبرى وهي الانتماء لنهج الإسلام المحمدي الأصيل الذي بدأ بصاحب الرسالة محمد (ص)، ثم الله أعلم حيث يجعل رسالته جعلها في علي وبنيه، ومن يوفّق إلى اتباع هذه المنهج القويم فهو قد امتلك نعمة عظيمة، جديرٌ أن يمرغ جبهته شكرًا لله على هذه التوفيق، بدءًا من الاتباع للعقيدة الصحيحة، ووصولًا للطاعة والاتباع في السلوك العملي، ومنها أحد معاني الحب العظيمة والمودة الكبرى بذرف الدموع عليهم في كل ما يحزنهم وشوقًا إليهم، وهنا يصفها الحاج بأنها من أكمل النعم حيث تحمل الأنوار المعنوية الباعثة على السكينة في نفوس المؤمنين.

وبرًا بوالديه

يتوجه الحاج في نهاية هذا المقطع بالشكر لله كذلك على نعمة التولد من أبوين مؤمنين ينتمون لمذهب أهل البيت (ع)، ومحبين عاشقين لأئمة الهدى (ع)، ملتزمين بالشريعة ولهم الفضل بعد الله في كونه على هذا الدرب، فهم فقراء في المال ولكنهم أغنياء بالانتماء إلى الحق، ويختم الشهيد في هذا المقطع برجاء الله أن يوفقه إلى لقاء والديه في الآخرة، وأن يدخلهما في رحمته كما في الدعاء: «اللهم إن سبقت رحمتك لهما فشفعهما فيَ وإن سبقت رحمتك لي فشفعني فيهما».

التذلل وطلب العفو أمام الله

هؤلاء الربانيون تجدهم في منتهى الخضوع والتذلل حينما يقفون بين يدي الله ليس في حال الصلاة فقط، فكل حياتهم ووجودهم صلاة وتضرع لله سبحانه وتعالى، فكل خطوة يخطوها المؤمن في سبيل الله هي عبادة حقيقية، فهم ليوث النهار في ساحات الجهاد ورهبان الليل في صومعة العبادة، كله في سبيل الله، ومع ذلك عندما يلهج بالمناجاة مع ربه ويركع بخضوع العبودية والاستحياء من ربه يعترف بشدة التقصير في حق معبوده، هكذا عاش الشهيد في علاقته الخاصة مع ربه الجليل حيث يقول: «يا أيّها الرّب العزيز والخالق الحكيم الأحد الذي لا نظير له! أنا خالي الوفاض وحقيبة سفري فارغة، لقد جئتك دون زاد وكلّي أمل بضيافة عفوك وكرمك. لم أتّخذ زادًا لنفسي؛ فما حاجة الفقير للزّاد في حضرة الكريم؟!
فمتاعي مليء بالأمل بفضلك وكرمك؛ وقد جئتكَ بعينين مغلقتين، ثروتهما إلى جانب كلّ ما حملتاه من الوزر هي ذلك الذّخر العظيم المتمثّل بجوهرة الدّموع المسكوبة على الحسين ابن فاطمة (ع)، جوهرة ذرف الدّموع على أهل البيت (ع)، جوهرة ذرف الدّموع عند الدفاع عن المظلوم واليتيم والدّفاع عن المظلوم المحاصر في قبضة الظّالم.
إلهي! يداي خاويتان؛ فلا شيء لديهما تقدّمانه ولا طاقة لهما على الدّفاع، لكنّني ادّخرت في يديَّ شيئًا وأملي معقودٌ على هذا الشّيء، إنّهما كانتا دائمًا ممدودتين إليك، في تلك الأوقات التي كنت أرفعهما إليك، وعندما كنت أضعهما لأجلك على الأرض وعلى ركبتيّ، وعندما حملت السّلاح بيدي لأجل الدّفاع عن دينك؛ هذه هي ثروة يديَّ وأملي بأن تكون قد تقبّلتها».
يضيف لنا هذا المقطع من الوصية الخالدة للشهيد الحاج صورة مثالية لهذا النموذج الفذ الذي جمع بين العلم والعمل، وبين الخوف والرجاء، كيف ترجم الشهيد اعتقاداته وعبوديته القلبية إلى سلوك عملي يعكس حقيقة ما أراده الله منا.
فإذا أراد منا أن نكون عبيدًا مخلصين له في منتهى الذل والخضوع، ولا نعبد أحدًا إلا إياه، فهذا يعني في الجانب العملي أن لا نركع إلا لله، وأن نقبل الخضوع والذل إلا بين يديه، وأما المؤمن الحقيقي فهو الذي يكسر كل صنم يعبد من دون الله، وأحد عناوين العبودية لله والخوف والشعور بالنقص والتقصير أمام الرب وطلب العفو والرحمة، وكل عمل يقبله منا لا على استحقاق منا وإنما فضلًا منه سبحانه وتعالى، ومع الخوف هنا الرجاء والطمع برحمة الله وسعة كرمه فهو الذي يقبل اليسير ويعفو عن الكثير.
ومن طرق طلب العفو من الرب العظيم على طريقة أهل البيت (ع) هو توصية الشفعاء المرضيين عند الله ليكون الأدب في الطلب من العبد إلى ربه في منتهى الخضوع، لذا توسل الشهيد بتلك الدموع المذروفة على سيد الشهداء (ع) وأهل بيته الكرام، والتي ترجمت عمليًا كذلك بشكل يبيّن أهداف فلسفة البكاء على الحسين (ع)، إن الشهيد الحاج كان يبكي حينما يلقى اليتيم وحين يدافع عن أي مظلوم محصور بيد الظالم، فتكون تلك الدموع محركة للعمل والجهاد في سبيل الحق، كما قال سماحة السيد القائد: «عاشوراء شعيرة تخلق لدى الإنسان الحماس والحركة والنمو الفكري وليست شعائر فارغة، واقعة عاشوراء واقعة عرفانية».
وتطبيقٌ عملي للشهيد الحاج في مورد آخر في نطاق العبادة، كما أن يديه التي كانت ممدودة للدعاء ومثنية للصلاة في السجود والركوع، هي نفس اليد التي حملت السلاح للدفاع عن الدين، وهي كذلك حالة عبادية يتقرب بها إلى الله.

المصدر
كتاب نشيد - شرح وصية الشهيد القائد قاسم سليماني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟