مواضيع

السياسة الطاغوتية الفرعونية

<قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ>

وقد وجه السحرة بإظهار الإيمان بتوحيد الربوبية وبالنبوة والتصديق برسالة موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) صفعة سياسية وفكرية عقائدية قوية إلى فرعون ونظامه وهزوا أركانه وأطاحوا بقواعده، فقد ركز الإعلام الفرعوني كثيراً ولمدة طويلة على هذه المبارزة التاريخية الفاصلة، وجمع لها كل قواه، وها هو يرى بأم عينيه رأس الحربة والصف الأول في المواجهة وهم السحرة يتكسر وينهار، ويتحولون فجأة أجمعون إلى صف العدو ويناصرونه عليه، وأيقن بأنه ما لم يتدارك الأمر فسوف يخرج من سيطرته ويقتدي سائر الناس بالسحرة ويتحولون إلى الإيمان بدين موسى وهارون (عليه السلام) ويصدقون برسالتهما، ويتمردون على النظام الفرعوني ويعارضونه، وعليه: جمع ما تبقى من كيانه المعنوي وهيبته وسلطانه وأظهر استغرابه واستنكاره لما كان من السحرة من إظهار الإيمان بالتوحيد وبنبوة موسى وهارون (عليه السلام) والتصديق برسالتهما، وذلك لما يعتقده في نفسه، وبما كان قد عهده من أدب السحرة معه، وتملقهم إليه وتذللهم بين يديه، وانقيادهم التام لإرادته ورغباته، فلا يتقدمون عليه في أمر، ولا يتأخرون عما أمرهم به، ولا يخالفونه فيما ينهاهم عنه، فهو إلههم وربهم الأعلى، بحسب ثقافة النظام وتربيته، فقال: <آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ>[1] أي: كيف صدقتم قوله واتبعتم دينه وأقدمتم على الإيمان به من دون مراجعة لي وإذن مني إليكم في ذلك، والاستفهام منه: مسوق للإنكار وتقرير الجرم والتهديد بشديد العذاب، فهو لا يرى إلا نفسه، وأن له ملك مصر ومن عليها وله فيها جنود مجندة، فله ما يريد ويحكم ما يراه، فالحق تابع له، والحقيقة مطيعة لهواه، وليس لأحد أن يقرر شيئاً خلافاً لإرادته، وبدون إذنه وإجازته، فله السلطة التامة المطلقة على أجساد الناس وأرواحهم، وليس لهم أن يستقلوا في شيء عنه.

فهو لا يعترف بحق السحرة وغيرهم في حرية الاعتقاد والضمير وتقرير المصير، ولم يعط وزناً لقيمة الحقائق في نفسها، ولا يعترف بتبعية الرأي والموقف إلى الدليل، وسعى في قلب انتصار موسى وهارون (عليه السلام) إلى هزيمة، وهزيمته إلى انتصار، وفرض حكم القوة والأمر الواقع، بغض النظر عن قربه أو بعده عن الحقائق والحقوق والعقل والمنطق والمصالح الحيوية للناس، وبحكم الأمر الواقع فإنه الإله المعبود، والرب المدبر لشؤون الناس والمالك لرقابهم ومصائرهم، فليس لهم أن يقرروا شيئاً لأنفسهم على خلاف إرادته وبدون إذنه والرجوع إليه، أي: بشكل مستقل عنه، لا سيما في المسائل الجوهرية والقضايا العامة الحيوية، فإذا أراد أحد أن يقرر شيئاً فيها فعليه أن يستأذنه، وهذا ما يؤكد عليه عملياً كل الفراعنة المتجبرين في طول التاريخ وعرض الجغرافيا.

وعليه: فسّر موقف السحرة بدوافع سياسية خبيثة، وهي المؤامرة والتواطؤ مع موسى الكليم (عليه السلام) على الخيانة والانقلاب ضد النظام الملكي الفرعوني، والدولة والسنن القومية والتراث الوطني ومصالح الشعب والأمة، ليس لأنه حصل لديهم إيمان حقيقي لوجود معجزة تقف وراءها قوة مطلقة فوق الطبيعة وفوق البشر، فليسوا إلا جزء من مؤامرة، وهم مجرد تابعين لموسى الكليم (عليه السلام) فهو أسحرهم وأعلى منهم درجة في صياغة السحر وفنه، وهو زعيمهم الذي علمهم السحر ودربهم على فنونه، وقد تواطئوا معه ودخلوا في المؤامرة على النظام والدولة والشعب، وقد أرادوا جميعاً خداع الناس والمكر بهم وتضليلهم بهدف السيطرة على الحكم والثروة ومقدرات الدولة، والذهاب بالسنة القومية وتضييع التراث الوطني، وطرد الأقباط جميعاً من أرضهم ووطنهم من أجل الاسئثار بالحكم والثروة والأرض.

وهذه المقولة أراد بها فرعون إدخال الشبهة على الناس حتى لا يؤمنوا بنبوة موسى وهارون (عليه السلام) ويصدقوا رسالتهما وليبقوا على الولاء له ولنظامه وحكومته، ومن شأنها أن تهيج الرأي العام ضد رسالة موسى الكليم (عليه السلام) وتحرض الجماهير على محاربته، وهي مقولة باطلة لا يمكن أن يقبل بها عقل أو منطق؛ لأن موسى الكليم (عليه السلام) لم يلتقِ بحسب الوقائع بالسحرة قبل موعد المبارزة وفي غير ساحتها، ولم تكن له أية معرفة سابقة بهم، فقد كان محصوراً بين أسوار القصر الملكي الفرعوني منذ كان رضيعاً، وتحت عيون شرطته ورجاله، ثم خرج من مصر مطارداً من النظام السياسي والدولة الفرعونية بعد أن قتل بالخطإِ أحد الأقباط، وبقي بعيداً عن وطنه لمدة (8 – 10) سنوات في ضيافة نبي الله شعيب (عليه السلام) في مدين، ثم عاد إلى مصر ودخل القصر الملكي الفرعوني حاملاً الرسالة من رب العالمين إلى فرعون وقومه بالإضافة إلى بني إسرائيل، ولم يجتمع من قبل ذلك بأحد في مصر، لا السحرة ولا غيرهم، ولو كانت لموسى الكليم (عليه السلام) صلة سابقة بالسحرة، لعلم بها فرعون وملؤه من خلال شرطته وجواسيسه، ولا يمكن أن يخفى ذلك عليه، لما يتمتع به من مركزية في السلطة، ولما يمثله السحرة من أهمية ولما يقومون به من أدوار.

وأن فرعون الذي اختار مبارزة موسى الكليم (عليه السلام) بالسحر، وهو الذي اختار السحرة وجمعهم من جميع مدن مصر وأنحائها، وذلك بواسطة ضباط جيشه وجنوده المخلصين له، والمؤمنين بألوهيته وربوبيته ونظامه والمروجين لها، وقد وعدهم بالأجر العظيم والمنزلة الرفيعة في النظام، إن هم تمكنوا من غلبة موسى الكليم (عليه السلام) والانتصار عليه، وقد حرصوا كل الحرص وبذلوا كل ما في وسعهم وطاقتهم، وكادوا أشد الكيد من أجل غلبة موسى الكليم (عليه السلام) وجاءوا بسحر عظيم أذهل الجميع، وهذا ما يعلمه فرعون علم اليقين ولا يشك فيه أبداً.

ولكن الأمر لا يخضع لمنطق العقل والقيم والمبادئ، وإنما يخضع لمنطق السياسة الخبيثة التي لا تؤمن بالعقل والمنطق والقيم والمبادئ، وإنما تؤمن فقط بالغلبة والمصالح، وتهتم بأساليب ووسائل وأدوات قلب الطاولة على الخصم وإحراجه ومحاصرته والقضاء عليه، أو إرغامه وإخضاعه لإرادة صاحب القوة والسلطة والحاكم بفرض الأمر الواقع، وقد دأب الطغاة والفراعنة على الكذب وإلصاق التهم الجاهزة والمفبركة بالخصوم والمعارضين لأنظمتهم، عندما يشعرون بالخطر على سلطتهم ومراكزهم، وعليه: فقد لجأ فرعون إلى الصراخ والتهديد والوعيد، وأصدر حكمه السياسي البحت، فقال: <فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ>[2] أي: أقسم بأنه سيبالغ في تعذيبهم والتنكيل بهم، فيقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف: اليد اليمنى والرجل اليسرى أو العكس، وهو حكم المحارب الساعي بالفساد، ليحمل بذلك رسالة إلى الرأي العام وتضليله، بأن السحرة مجرمون خطرون جداً على الأمن وسلامة المجتمع، وليسوا مجرد مخالفين عاديين للنظام والقانون، ثم يتركهم ينزفون حتى يموتوا ببطء، فذلك أمثل في الهيئة وأشد عذاباً، فهو يجمع بين الإيذاء الجسمي والنفسي، فيقوم بعد قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف بصلبهم على جذوع النخل؛ لأنها من الأشجار العالية، ليراهم القريب والبعيد وهم معلقون مصلوبون، وأن يكون الصلب صلباً شديداً بدون رحمة، بحيث تدخل نتوء النخل في أجسادهم من شدة الصلب، وقد اختار جذوع النخل لصلب السحرة لعلمه بخشونتها وأذاها، وكانت عمليات الصلب في ذلك الزمان، تتم بأن يشدوا جسد المصلوب على الصليب بالحبال حتى يموت، وقد أراد فرعون الطاغية إنزال المزيد من العذاب الشديد: الجسمي والنفسي بالسحرة، وإيذاءهم أبلغ ما يكون الإيذاء، والطريقة التي اختارها هي الأبلغ في القتل الفجيع:

أ.   جسمياً: حيث النزف والموت ببطء، مع ألم الشد وحرارة الشمس.

ب. معنوياً: حيث الهيئة الشنيعة (نقصان من البدن من الجانبين للقطع من خلاف) فيشهرون ويخزون في أعين الناس برأيه، وهو في الحقيقة إنما أخزى نفسه ورفع شأنهم.

ثم كشف عن القاعدة السياسية التي استند إليها في إصدار هذه الأحكام القاسية، والتي يقوم عليها في الحقيقة نظام حكمه، فقال: <وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ>[3] أي: لتعلمون أينا أشد عذاباً لكم وأبقى في السلطة والحياة، أنا فرعون الماسك بالحكم وزمام الأمور في الدولة، أم رب موسى وهارون؟ وعنده أنه هو المتمكن والقادر على تعذيبهم والنيل منهم وقتلهم والتمثيل بهم، وأن يفعل بهم ما يشاء، ولا يوجد أحد يستطيع أن يمنعه من ذلك أو يحد من سلطته وإرادته أو يحميهم من سطوته وقدرته وجبروته، والمهم في المقام ليس النظر والبحث عمن يمتلك المنطق السليم والحقائق الدامغة لتقرير الرأي والموقف، وإنما النظر والبحث عمن يمتلك القوة والسلطة وفرض حكم الأمر الواقع على الناس والخضوع له، وذلك يكشف منه عن صلابته وعن غاية جهله وغروره؛ لأنه بارز جبار السماوات والأرضين، وأعلن الحرب عليه، وفي رأيه وقناعته العملية أن الوصول إلى السلطة والبقاء فيها لا يعتمد على المنطق والحقائق، وإنما يعتمد على امتلاك أسباب القوة وفرض حكم الأمر الواقع، وهي فلسفة الحكم والسياسة لدى فرعون ونظامه السياسي القائم آنذاك، وهي عينها الفلسفة والمنطق اللذان تعتمدهما جميع الأنظمة الدكتاتورية والحكومات المستبدة في طوال التاريخ وعرض الجغرافيا.

وهنا ينبغي تنبيه الثوار والمناضلين الشرفاء، إلى منطق الفراعنة والحكام المستبدين الخبثاء، وأساليبهم في قلب الحقائق وخلط الأوراق من أجل تضليل الرأي العام وإضعاف معنويات المناضلين والثوار لا سيما في حالة غياب الوعي والرؤية الواضحة وضعف البصيرة، فقد تعرض فرعون ونظامه الفاسد إلى هزيمة ساحقة هزت أركانه، على يد موسى وهارون (عليه السلام) إلا أن فرعون لم يستسلم، وأصر على المضي قدماً في المواجهة بعيداً عن منطق العقل والحقائق الفعلية القائمة على الأرض، واستخدم خبرته وخبثه، وسعى لتحويل هزيمته إلى انتصار، والإبقاء على سياسة حكم الأمر الواقع وبفرض منطق السلطة والقوة، بدل منطق العقل والحكمة، فقام بتهديد السحرة الذين خضعوا لمنطق العقل وسلّموا للحقائق المشهودة بالقتل الفجيع، ونفّذ فيهم التهديد لكي يكونوا عبرة لغيرهم فلا يفكرون مثل تفكيرهم ويتصرفون مثل تصرفهم، ولا شك فإن هذه الأساليب الإرهابية والتضليلية القذرة تترك تأثيرات كبيرة في الناس الذين لا يرون إلّا الظاهر ولا ينفذون إلى الأعماق ليروا الحقائق كما هي عليه، ولا يمتلكون منطقاً إنسانياً سليماً ولا وعياً بالحقائق الكونية والسنن التاريخية ذات الصلة الوثيقة والقيمة العظيمة لإنسانية الإنسان وحقيقته وكرامته وحياته الطيبة، إلا أنها تنقلب إلى محفز قوي على الثورة ضد الأنظمه الفاسدة والحكومات الجائرة، والتضحية بالنفس والنفيس من أجل الإصلاح والتطوير لدى أصحاب المنطق السليم والبصائر النافذة والضمائر الحية اليقظة، على قاعدة: «حين يكون الظلم قانون، فالمقاومة واجب».

وعليه: ينبغي على الثوار والمناضلين أن يحافظوا على انتصاراتهم ويحرصوا عليها من الضياع، فلا يتأثرون بتهديدات الفراعنة والطغاة ودعاياتهم، فيخسروا انتصاراتهم تحت تأثير الدعايات والتضليل، ويظنوا بأنهم خسروا المعركة لمجرد أن المناضلين استشهدوا أو شرّدوا أو ادخلوا إلى السجون، فقد تكون هذه النتائج دليل الانتصار وليس الهزيمة، فقد استشهد السحرة واستشهد الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه، ولكن الحق انتصر على الباطل وانهزم فرعون ونظامه وانهزم النظام الأموي، وكانت شهادة السحرة وشهادة الإمام الحسين (عليه السلام) التفجير الذي أطاح بالنظامين الفرعوني والأموي، ولكن الذين ينظرون فقط إلى الظاهر لا يفقهون ولا يدركون الحقائق كما هي، ويتوهمون خلاف ذلك، يقول الشيخ محمد جواد مغنية: «كانت المبارزة بين موسى والسحرة في الظاهر، وبين حزب الله وحزب الشيطان في واقعها، ومن الشوط الأول أيقن كل من شاهد المبارزة حتى فرعون والسحرة أنفسهم أيقنوا جميعاً بأن حزب الله هم الغالبون، وأعلن السحرة يقينهم هذا عن علم لا يقبل الشك، وأنهم كانوا على ضلال في تحديهم لموسى»[4].


المصادر والمراجع

  • [1]. طه: 71
  • [2]. نفس المصدر
  • [3]. نفس المصدر
  • [4]. تفسير الكاشف، محمد جواد مغنية، جزء 5، صفحة 230
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الثاني | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟