مواضيع

خوف موسى (ع) من انخداع الناس

<فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ>

ولأن سحر السحرة كان في الواقع عظيماً، وتأثيره في المشاهدين كان بالغاً وعميقاً، فقد أحس موسى الكليم (عليه السلام) بخوف خفيف غير ظاهر يسري في داخل نفسه، ولم يظهر له أي أثر على ظاهر البشرة وملامح وجهه الشريف، فضلاً عن تصرفاته وعمله وأفعاله، وكان ذلك الخوف في نفسه من أن يلتبس الأمر على الناس فينخدعوا بما شاهدوا من عظيم السحر، والظاهر المموه، فلا يميزوا بينه وبين آية الله سبحانه وتعالى ومعجزته للتشابه الظاهر بينهما، ويرسخ تأثير السحر في أعماق أنفسهم فيصعب بعد ذلك إزالته منها، فيصيبهم الشك في أمرهم فلا يؤمنوا ولا يستجيبوا للحق كما ينبغي، أو أن يترك بعضهم الميدان وينسحبوا تحت تأثير الخوف والرعب الذي أحدثه السحر في أنفسهم قبل أن يتهيأ له الظرف ويتمكن من إظهار معجزته فلا يتضح لهم الحق، ونحو ذلك، ولم يكن خوفه أبداً على نفسه أو أنه أولى اهتماماً كبيراً لعمل السحرة، أو أنه خاف من أن يغلب السحرة بسحرهم ما جاء به من الحق من عند ربه جل   (جل جلاله)، فقد كان واثقاً وجازماً بالنصر والغلبة من هذه الجهة، يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): «لم يوجس موسى خيفة على نفسه بل أشفق من غلبة الجهال ودول الضلال»[1].

وكان فرعون في الحقيقة يراهن على أن تنخدع الجماهير بما يأتي به السحرة من السحر العظيم، لا أنه كان طالب حقيقة، أو كان شاكاً أو جاهلاً بحقيقة ما جاء به موسى الكليم (عليه السلام) من عند ربه، فقد أراه الله (عز وجل) آياته ومعجزاته وحقيقتها وعرفها بما هي عليه من الحقيقة والدلالة، ولكنه وقف موقف الحكام والسياسيين المكابرين، الذين يعرفون ما يأتي به المعارضون لهم من المطالب والحقائق كما هي، ولكنهم يكابرون ويعاندون ويسعون إلى لبس تلك المطالب والحقائق وخلطها ومغالبة معارضيهم بالباطل، وتضليل الرأي العام بشأنها، وتحريض الناس عليهم بغير حق، من أجل أهداف سياسية بحتة، تتعلق ببقائهم في السلطة أو الوصول إليها ونحو ذلك من المصالح، فإذا تحقق له ذلك، بطلت حجة موسى الكليم (عليه السلام) وفشل سياسياً، مما يهيء الأجواء وتتاح الفرصة لفرعون بمواجهة موسى الكليم (عليه السلام) أمنياً وعسكرياً ويسمح له بتصفيته والذين آمنوا مادياً، والتخلص منهم إلى الأبد بدون أن يحصل على أي تعاطف شعبي، أو تحدث ردود فعل شعبية واسعة تهدد أمن واستقرار نظامه ودولته.

وذلك التخوف من موسى الكليم (عليه السلام) يكشف الطبيعة البشرية للأنبياء الكرام (عليه السلام) فهم يخافون ويحزنون كغيرهم من البشر عندما يشاهد أو يعرض لهم ما يوجب الخوف أو الحزن، إلا أن ذلك لا يخرجهم أبداً عن الطاعة إلى المعصية، ولا يحملهم على التقصير والتردد أو الضعف في تحمل المسؤوليات، وبذلك يستحقون الثواب العظيم والمنزلة الرفيعة عند الله تبارك وتعالى بما صبروا وتحملوا وعملوا، كما يكشف عن عظيم رحمتهم وتعاطفهم مع الناس وشديد حرصهم على هدايتهم وتكميلهم وإسعادهم في الدارين الدنيا والآخرة، والتضحية من أجلهم بالنفس والنفيس.


المصادر والمراجع

  • [1]. نهج البلاغة، الخطبة 4
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الثاني | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟