حضور السحرة وحوار موسى (ع) معهم في الميدان
بعد أن رأى فرعون ما جاء به موسى الكليم (عليه السلام) من معجزات باهرات وآيات بينات واضحات، وعرف تأثيراتها العظيمة في النفس، وخطرها على نظامه وملكه، وقرر المواجهة بالمثل مع موسى الكليم (عليه السلام) وعقد معه اتفاقاً حول زمان ومكان المبارزة مع السحرة، انصرف إلى حاشيته وكبار عماله ومعاونيه، وتشاور معهم للتهيء بجد واجتهاد ووضع الخطط وإحكامها واتخاذ التدابير اللازمة لخوض المعركة التاريخية الفاصلة بالنسبة إلى مصر والنظام السياسي والاجتماعي والديني فيها، وتحديد مصير القائمين على الحكم ومستقبلهم، ولضمان تحقيق النصر فيها، وذلك: بجمع كل ما يقدرون عليه من أسباب المواجهة وما يكيدون به موسى الكليم (عليه السلام) ويفتنون الناس ويخدعونهم ويلبسون عليهم الحق بالباطل ويحولون بينهم وبين الإيمان بنبوة موسى الكليم (عليه السلام) والتصديق برسالته، ليحافظوا بذلك على نظامهم السياسي والاجتماعي والديني القائم، وعلى بقائهم في السلطة والتمتع بامتيازات الحكم، واتفقوا على إرسال الرسل إلى جميع المدائن في جميع أنحاء مصر للبحث عن السحرة الماهرين المتمكنين منه والمتدربين على مختلف فنونه والعارفين لكافة أسراره، والإتيان بهم إلى العاصمة السياسية ومقر الحكم في البلاد ومكان المبارزة التاريخية الفاصلة مع موسى الكليم (عليه السلام)، فأرسل فرعون ضباطاً وجنوداً من جيشه إلى كافة أنحاء البلاد لجلب السحرة المطلوبين للمبارزة، وكان السحر شائعاً في مصر آنذاك، وعلمه مرغوب فيه، ويحتل السحرة مكانة مرموقة في النظام السياسي والاجتماعي والديني، حيث كان السحر يخدم أهدافاً عديدة: دينية وسياسية واجتماعية، ويمثل السحرة طبقة مهمة وفاعلة في الحياة العامة، وقد نجح المبعوثون من فرعون في جمع عدد ضخم من السحرة يقدر عددهم بـ: اثنين وسبعين ساحراً، وقيل: أربعمائة ساحر، وقيل: أكثر من ذلك بكثير.
كما لجأ فرعون ومعاونوه إلى التعبئة الإعلامية والسياسية ضد موسى الكليم وأخيه ووزيره وشريكه في الرسالة هارون (عليه السلام) وضد قومهم بني إسرائيل، والحث على الحضور إلى ميدان المبارزة في الوقت المعين والمكان المعلوم، من أجل مشاهدة المبارزة التاريخية المثيرة، وتشجيع السحرة ومناصرتهم، أي: عمل فرعون ومعاونوه على التحضير الشامل من جميع النواحي: العملية والسياسية والإعلامية لساعة المواجهة بين موسى الكليم (عليه السلام) والسحرة في يوم عيد مصر وزينتها، وذلك: لعلم فرعون وملئه بضرورة المواجهة وعدم الفكاك منها أو التهرب عنها، ولعلمهم بخطورتها التاريخية الفاصلة على النظام والقائمين على الحكم وتجديد مستقبلهم السياسي والوجودي الفرعوني القائم فيها.
ثم أتى الموعد المعين وحضر فرعون وملؤه من الأعيان والأشراف وكبار عماله ومعاونيه وأنصاره مع السحرة إلى مكان المبارزة المحدد في موكب فخم مهيب يستولي على القلوب، وحضر في المقابل موسى وهارون (عليه السلام) وحيدين في موكب بسيط متواضع جداً، واحتشدت الجماهير من الرجال والنساء والأطفال، من الأقباط وبني إسرائيل، ومن المقيمين والسواح وغيرهم في المكان المعين الذي جرى اختياره وفق الشروط المتوافق عليها بين الطرفين: موسى (عليه السلام) وفرعون، وكان الجمع حافلاً، والمشهد مثيراً للفكر والمشاعر وحماسياً جداً، فتوجه موسى الكليم (عليه السلام) لفرعون وملئه والسحرة وخص السحرة بالاهتمام أكثر لأنهم المعنيون المباشرون في المبارزة، فقال لهم واعظاً وناصحاً ومحذراً، وليهيئهم ويقيم عليهم الحجة قبل أن يباشروا أي عمل من أعمال السحر فيتحجروا ويتعصبوا لما عملوا، فقال: <وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا>[1] باللجوء إلى الكذاب والخداع والتمويه على الناس وتضليلهم بإظهار الأوهام والأباطيل في لباس الحق والحقائق في أعين الناس عن طريق السحر، وبادعاء الربوبية كذباً وتعدد الآلهة والأرباب بدون دليل أو برهان، وتناصرون ما عليه مجتمعكم من الباطل وتغالبون الحق بسحركم وما مكنكم الله تبارك وتعالى فيه وأعطاكم إياه من العلم والفن والمهارة، وتزعمون أن آيات الله (عز وجل) ومعجزاته سحر، وأن الدعوة إلى الحق والعدل والتوحيد مؤامرة سياسية خبيثة تهدف إلى قلب النظام السياسي القائم والسيطرة على الحكم والثروة ومقدرات الدولة والاستئثار بها مع بني إسرائيل والإضرار بمصالح الوطن والشعب وحرمان الأقباط وطردهم من وطنهم وأرضهم، ونحو ذلك من الافتراءات فإن ذلك كله: لا أساس له من الصحة، وعاقبته وخيمة جداً عليكم <فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ>[2] أي: يهلككم الله (عز وجل) ويستأصلكم عن آخركم بعذاب عظيم مؤلم يرسله عليكم من عنده، بسبب كفركم بالحق وعنادكم له، وبسبب أعمالكم السيئة جداً في الحياة، كما حدث ذلك للعديد من الأمم والأقوام قبلكم، مثل: قوم نوح وقوم عاد وقوم ثمود وقوم لوط وغيرهم، وأن فرعون وملأه وجنوده مهما بلغوا من القوة والثروة والسلطة في الأرض، فإنهم أضعف وأحقر وأعجز من أن يقفوا أمام جبار السماوات والأرض ورب العالمين والخلق أجمعين على الحقيقة وهم أضعف وأعجز وأحقر من أن يملكوا أنفسهم وغيرهم أو يستقلوا بنفع أو ضر لكم أو لغيركم.
ثم أشار موسى الكليم (عليه السلام) إلى قاعدة حضارية وسنة كونية وتاريخية عامة، وهي قول الله تعالى: <وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَىٰ>[3] أي: أن الكذب والافتراء لا يمكن أن يفلح ويؤسس تأسيساً صحيحاً لقيام دولة أو حضارة أو موقف تاريخي عام، فإن حبل الكذب على الناس قصير، ولابد أن تظهر الحقيقة وتكشف للناس، والحقيقة تدافع عن نفسها وهي ظاهرة بذاتها وطلابها من الحكماء وغيرهم كثيرون، وأن الأسباب الوهمية والوسائل الخادعة لا تهتدي إلى مسببات ونتائج حقة ثابتة لها صلاحيات البقاء والاستمرار، وعليه: فكل ما بني على الكذب والباطل والافتراء والخداع والتمويه خاسر ولابد أن ينهار وينتهي ويزول إلى الأبد، ولا يمكن أن يسوق الإنسان إلى العزة والكرامة والحياة المستقرة الهنيئة ويحقق له السعادة الحقيقية الكاملة بل يقوده إلى الخسران والذل والهوان والشقاء الحقيقي في الدارين الدنيا والآخرة، لا سيما إذا كان الكذب والافتراء على الله (جل جلاله) ومن أجل محاربته، فمن الحتمي وبحكم العقل والمنطق والسنن الكونية والتاريخية العامة وبحكم التجربة التاريخية والمعاصرة، لن يدع الله (عز وجل) يكذبون عليه أو ينسبون الأكاذيب إليه، ويسعون بكل قوة ووسيلة لإطفاء نور الحق وإظهار الباطل ونشر الظلم والفساد في الأرض بدون عقاب، بل سينتقم منهم، وعليه: سيخيب سعيكم، ولن تدركوا مرامكم وما تطلبون، ولن تبلغوا النتيجة التي تأملون من النصر والحصول على الثروة والجاه والمنزلة التي وعدكم بها فرعون وملؤه، ولن تسلموا أبداً من العذاب والشقاء في الدارين الدنيا والآخرة.
وبهذا: فقد قام موسى الكليم (عليه السلام) وعمل على تهيئة السحرة خاصة فكرياً ونفسياً لنتائج المبارزة بينه وبينهم، ووضع الجميع: الأطراف المتنازعة والمتفرجين في السياق المنطقي للفهم الصحيح لنتائج المبارزة التي يعلم بها عن يقين قبل أن تبدأ، فهو يعلم عن يقين: بأن ما عنده حقيقة فعلية يقف وراءها رب العالمين صاحب القدرة المطلقة، وما عند السحرة مجرد تمويه وتضليل وخداع ولا حقيقة له وراء ما يظهر في أعين الناس من الخداع والتمويه.
تعليق واحد