جواب موسى (ع) على سؤال فرعون
<قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ>
وقد قبل موسى الكليم (عليه السلام) مناظرة فرعون واشتغل بتعريف رب العالمين، وإقامة الدليل الساطع القاطع على وجوده وتوحيده، فأجاب على سؤال فرعون بإعطاء تعريف مختصر وقصير، ولكنه جامع مانع، وفي غاية الحسم والوضوح، ويضع النقاط على الحروف، فقال: <رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ>[1]، أي: ربنا الذي نعتقد بربوبيته، هو رب العالمين الذي وهب الوجود وأفاضه على كل وجود، من الذرة الصغيرة إلى المجرة الكبيرة، ومن الكائنات الحية ذات الخلية الواحدة إلى الفيل والحوت الديناصور ونحو ذلك، وأعطى كل شيء خلقه، صورته وشكله المناسب له واللائق به، وزوده بكل ما يحتاجه في حياته وتحقيق غاية وجوده، مثل: كبر الجسم وصغره، وطوله وقصره، وطبيعة كل جزء من أجزائه أو عضو من أعضائه، وجميع خصاله وصفاته، وجعلها كلها بمقدار في منتهى الدقة والحساب، وأحكم خلقها وتصويرها وتقديرها، وأودع فيها من القوى والقابليات والاستعدادات والآلات ما يحفظ كيانها وبقاءها إلى حين أجلها المسمى أو المقدر لها، ويضمن سلامتها وتكاثرها ونحو ذلك، يقول آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: «إننا إذا دققنا قليلاً في النباتات والحيوانات التي تعيش في كل منطقة، سواء الطيور أو الحيوانات البحرية أو البرية أو الحشرات والزواحف، فسنرى أن لكل منها انسجاماً تاماً مع محيطها الذي تعيش فيه، وكل ما تحتاجه فهو موجود تحت تصرفها، فإن هيكل الطيور قد هيئها للطيران من ناحية شكلها وحواسها المختلفة، وكذلك تكوين وبناء الحيوانات التي تعيش في أعماق البحار»[2].
ثم جعل في تقدير خلقها وما تم تجهيزها به من القوى والقابليات والاستعدادات والآلات، الأساس الذي تقوم عليه في تماسكها وتكاثرها وأداء وظيفتها وهدايتها وتسييرها إلى كمالها اللائق بها والمقدر لها وتحقيق غاية وجودها ضمن النظام الكوني والحيوي العام الشامل المحكم، الذي يقوم على أساس التعاضد والتكامل بين أجزائه، فكل شيء يهتدي إلى كماله الخاص به المقدر له ويسير نحو غاية وجوده بما جهز به من القوى والقابليات والمواهب والاستعدادات والآلات المتوفرة له والكامنة فيه، والمعطي والهادي هو الله تبارك وتعالى.
فالحيوانات والطيور والحشرات وغيرها، تعرف بناء بيتها المناسب لحياتها، وكيف تتكاثر وتحافظ على بقائها، وكيف تربي أولادها وتحافظ عليهم وتدافع عنهم وتبعدهم عن متناول الأعداء، بل تعرف أعداءها وأعداءهم بالفطرة، وتدربهم على كافة المهارات الخاصة التي يحتاجونها لبقائهم وحماية أنفسهم ونحو ذلك.
وتكوين البذرة وشكلها ومقادير خلقها والقوى الكامنة فيها أساساً لوصولها إلى كمالها وتحقيق غاية وجودها، بأن تتحول إلى شجرة مثمرة ومفيدة كغذاء ودواء للإنسان أو الحيوان أو غير ذلك من الوظائف والغايات للشجرة في نفسها أو ما يحتاجه الإنسان أو الحيوان منها في حياته.
والنطفة تتحول بما ركب فيها من القوى والقابليات والاستعدادات والآلات المتوفرة لها والكامنة فيها إلى كائن حي كامل الخلقة، مثل: الإنسان والقرد والخيل والجمل والفيل وغيرهم، والأعضاء مثل: اليد والرجل والعنق والعين والأنف والأذن واللسان وغيرها، كل منها خلق وصور بشكل وبطريقة وبمقادير وأجزاء في منتهى الدقة والحساب بحيث تؤدي جميع وظائفها في يسر وعلى أحسن وأكمل وأفضل وجه، وتساهم في المحافظة على وجود الكائن الحي وتمكنه من القيام بوظائفه والوصول إلى كماله اللائق به والمقدر له وتحقيق غاية وجوده في النظام الكوني والحيوي المحكم والدقيق غاية الإحكام والدقة.
والشمس والقمر والماء والنار والهواء والتراب والمعادن وغيرها، كل منها خلق بشكل وبطريقة وبأجزاء وبمقادير في غاية الإحكام والدقة، تتيح لها القيام بدورها ووظيفتها في النظام الكوني والحيوي على أحسن وأكمل وأفضل وجه.
وغير ذلك، أي: إن الله (عز وجل) قد جعل الرابطة وثيقة وقائمة تكويناً بين ما يتم تجهيز الأشياء به في أصل الخلقة من القوى والقابليات والمواهب والاستعدادات والآلات، وبين الآثار التي تنتهي بها إلى كمالها اللائق بها والمقدر لها وتحقيق غاية وجودها، ولم يستعن الله (عز وجل) في شيء من ذلك بغيره؛ لأنه الغني بالذات، والعالم بالذات، والقادر بالذات قدرة مطلقة، فلا يجهل بشيء، ولا يخفى عليه شيء، ولا يعجزه فعل شيء أو خلق شيء، وهو الغني عن كل شيء، ولا يحتاج إلى غيره في شيء، يقول العلامة الطباطبائي: «النظام الخاص بكل شيء والنظام العام الجامع لجميع الأنظمة الجزئية من حيث ارتباط أجزائها وانتقال الأشياء من جزء منها إلى جزء، مصداق هدايته تعالى»[3].
ولأن الإنسان كائن عاقل يمتلك حرية الإرادة والاختيار، فإن له حقوقاً وعليه واجبات ومسؤوليات جسيمة ليست لغيره ولا على غيره، وله مناهج تربوية وحضارية وتنموية خاصة به تناسبه من أجل تكميله، أي: من أجل الوصول به إلى كماله الخاص، المعرفي والروحي والتربوي والحضاري اللائق به والمقدر له وتحقيق غاية وجوده، وله نوعين من الهداية الإلهية الربانية:
أ. الهداية التكوينية العامة: وهي الهداية التي نشاهدها في جميع الموجودات، أي: يشترك فيها الإنسان مع غيره من الموجودات، وبها يدفع الضرر عن نفسه، ويسعى لما خلق له من منافع وأغراض، ويصل إلى تحقيق غاية وجوده كغيره من الموجودات وفق النظام والسنن الكونية والحيوية العامة.
ب. الهداية التشريعية الخاصة: وهي الهداية التي يختص بها الإنسان بين جميع الموجودات بما هو كائن عاقل يمتلك حرية الإرادة والاختيار، وتختص بتوجيه مسيرته التاريخية التكاملية، وركنيها: العقل، وحرية الإرادة والاختيار، ويحتاج فيها الإنسان إلى معرفة الحق والباطل، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة، والصلاح والفساد، والصواب والخطأ، والتمييز بينها، ليتميز بمعرفتها والعمل بمقتضاها المحسن من المسيء، والصالح من الطالح، ومن يستحق الثواب ومن يستحق العقاب على أعماله الاختيارية في الدارين الدنيا والآخرة.
وهذه الهداية تقتضي بعث الأنبياء الكرام (عليهم السلام)، وإنزال الكتب السماوية؛ لهداية الناس وتعليمهم، وفرض التشريعات الإلهية والمحاسبة على الأعمال الباطنية والظاهرية، أي: العقيدة، والأخلاق، والسلوك، ولهذا قيل: الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يصنع ماهيته بنفسه عن طريق ما يختاره لنفسه بنفسه من المناهج الإلهية والوضعية، وما يقوم به من الأعمال الصالحة والسيئة.
وليس من الحكمة في شيء، أن يحتاج الإنسان وهو أكرم المخلوقات وأفضلها إلى الهداية التشريعية التي تمثل الجانب الأهم في الهداية، و تتوقف عليها ماهيته وحقيقته، ويقوم عليها جوهر وجوده، ويتوقف عليها كماله الخاص المقدر له وتحقيق غاية وجوده، أي: كرامته في الحياة وتحصيل السعادة الحقيقية الكاملة في الدارين الدنيا والآخرة، ثم تتوجه العناية الإلهية الكاملة إلى الهداية التكوينية التي نشاهدها ونعلم وجودها بالحسن والضرورة، وتوليها الأهمية الكبيرة، وتهمل الهداية التشريعية الأكثر أهمية في وجود الإنسان، وتمثل أساس تميّزه بين الموجودات، وتتوقف عليها ماهيته وكماله، أي: تمثل الجوهر في خلق الإنسان وكينونته.
وما سبق يدل: على أن الربوبية الحقيقة تقوم على أساس واقعي منطقي متين، تدركه العقول وتقر به، وليست مجرد اِدعاء فارغ لا يقوم على أساس ولا يخضع لمنطق يدعيه كل من هب ودب بدون حجة أو دليل أو برهان أو أساس واقعي ومنطقي مبين، بل الوقائع والمنطق والحقوق تدل على خلافه، لا سيما إذا أخذنا ما يترتب على الإقرار بالربوبية على المربوب من حقوق وواجبات، يقول العلامة الطباطبائي: «فقد تبين أن الكلام، أعني قوله: <الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ>[4] مشتمل على البرهان على كونه رب كل شيء ولا رب غيره، فإن خلقه الأشياء وإيجاده لها، يستلزم ملكه لوجوداتها – لقيامها به – وملك تدبير أمرها»[5]، وعليه: فإن ربوبية فرعون الطاغية، ربوبية وهمية مزعومة زائفة لا تستند إلى واقع ولا منطق يؤيدها، وتخالف الفطرة والطبع السليم والوجدان والكرامة الإنسانية والتساوي بين الناس في الحقوق والواجبات، وليس لأحد أن يفرض إرادته على الآخرين بغير رضاهم واختيارهم وعلى خلاف مصلحتهم وكرامتهم.
ولأن فرعون الطاغية يعلم، وكل الناس يعلمون بالوجدان وما كشفت عنه العلوم المختلفة، الرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء والفلك وغيرها، بأن الموجودات كلها مخلوقة وفق نظام كوني دقيق ومحكم وقوانين وسنن صارمة، وأن الأشياء والأجزاء في النظام الكوني والحيوي تتعاضد ويكمل بعضها بعضاً، وأن كل شيء قد تمت تسويته بمقادير في منتهى الدقة والحساب، بحيث يستفيد من القوى والقابليات والاستعدادات والآلات المتوفرة له والكامنة فيه؛ للمحافظة على بقائه وأداء دوره ووظيفته في النظام الكوني والحيوي، ويعمل وفق قوانين صارمة ويسير بخطى ثابتة واثقة نحو كماله اللائق به والمقدر له ولتحقيق غاية وجوده، وهذا يدل بوضوح تام ويقين كامل على أن للعالم خالقاً ومدبراً يتمتع بالعلم المطلق والحكمة البالغة التامة والقدرة المطلقة، وأنه غني بذاته ووجوده مطلق غير محدود ولا متناهٍ في الزمان والمكان.
وفرعون يعلم من نفسه ويعلم الناس جميعاً عنه، أنه لم يخلق الوجود، ضعيف وعاجز، وأنه يخضع في حركاته وسكناته وجميع أفعاله إلى النظام العام الكوني والحيوي ولقوانينه الصارمة، ولا يستطيع أن يغير في ذلك شيئاً، وهذا يدل قطعاً على أنه مربوب وليس رباً، ومحكوم وليس حاكماً، وأن مثله في ذلك مثل غيره من الناس، لا يختلف عنهم ولا يتميز عليهم في ذلك بشيء، فهو وهُمْ في ذلك على قدم المساواة.
ولا ينبغي له ولا يصح منه أن يتقدم عليهم، ويتحكم فيهم، ويخضعهم لإرادته في التشريع والتدبير بغير رضاهم وعلى خلاف إرادتهم ومصلحتهم، وصاحب الحق الوحيد في التشريع والتدبير هو ربهم بحق وحقيقة، وهو رب العالمين.
وهذه حقيقة وجودية تامة في غاية الوضوح والتجلي والظهور لكل عاقل منصف وصاحب بصيرة وذي منطق سليم، وإنكارها لا يكون إلا عن عناد ومكابرة، لأنه إنكار لأعظم الأشياء وضوحاً وظهوراً للعقل والوجدان، حتى قيل بحق: «فلو قدر أن الإنسان أنكر من الأمور المعلومة ما أنكر، كان إنكاره لرب العالمين أكبر من ذلك»[6].
ومن نتائج التأسيس السابق: بطلان النظام الفرعوني وكل نظام ملكي أو جمهوري مفروض بالقوة والعنف والإرهاب وبحكم الأمر الواقع، ولا ينسجم مع الإرادة الربانية في التشريع والهداية، ولا ينبع من إرادة الشعب واختياره ورضاه، ولا يصب في مصلحته الحقيقية في دورة الحياة الكاملة وفي الدارين الدنيا والآخرة.
وقيل: إن فرعون الطاغية كان يعتقد بأن خالق العالم موجود أعلى، وهو واجب الوجود، وهو أعظم من أن يحيط به عقل بشر، ولا يمكن أن يتوجه إليه عامة الناس بالعبادة والطاعة بشكل مباشر، أو يتقربون إليه بالقرابين، وعليه: لا يتخذ إلهاً أو رباً لعامة الناس، وإنما هو رب الأرباب وإله الآلهة، والواجب على عامة الناس التوجه إلى بعض المقربين من خلقه، مثل: الملائكة والملوك والعظماء والكواكب والأصنام؛ من أجل التقرب إليه، لأنهم مظاهر عظمته، ويعتقد فرعون والقائلون بألوهيته وربوبيته بأنه واحد من هؤلاء الآلهة والأرباب، وفوقه إله يعبده، وأن سؤاله لموسى الكليم (عليه السلام) <فَمَن رَّبُّكُمَا>[7]، إنما أراد به من يكون من هذه الأرباب المتفرقة؟، إذ يفترض أنه واحد منها ولكنه غيره، ويستبعد أن يكون هو خالق العالم؛ لأنه يعتقد بأنه أعظم من أن تحيط به عقول البشر، أو يمكن التوجه إليه مباشرة بالطاعة والعبادة وبدون واسطة، وأن جواب موسى الكليم (عليه السلام) على سؤاله، فيه بيان بأن المقصود من رب العالمين هو خالق العالم نفسه، وأن المطلوب هو التوجه إليه مباشرة بالطاعة والعبادة، وفي ذلك إبطال لعقيدة فرعون وعقيدة الوثنيين، وأن لرب العالمين سفراء إلى الناس يقومون على هدايتهم وإرشادهم لما فيه كمالهم وخيرهم وصلاحهم ومصلحتهم وسعادتهم في الدارين الدنيا والآخرة، وهم الأنبياء الكرام والأوصياء الطاهرون (عليهم السلام)، وأن حياة أخرى بعد هذه الحياة يبعث إليها الناس بعد الموت من أجل الحساب والجزاء على أعمالهم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
وتدل استجابة موسى الكليم (عليه السلام) لطلب فرعون بالمناظرة على أمور عديدة مهمة، منها:
– فساد التقليد ووجوب تحصيل العلم اليقين في أصول العقيدة بالحجة والدليل والبرهان الصحيح.
– فساد رأي المدرسة التعليمية عند المسيحيين والحشوية عند المسلمين، الذين يقولون باستفادة معرفة الله ذي الجلال والإكرام سبحانه وتعالى من أقوال الرسول والكتاب؛ لأن معرفة الله سبحانه وتعالى سابقة على معرفة الرسول ولازمة لها؛ فلا يعرف الرسول ولا يصدق ولا يؤخذ منه قبل معرفة الله سبحانه وتعالى، وقيام الدليل الصحيح الناهض على إثبات نبوته ورسالته من عنده، ومن ذلك الإعجاز الذي لا يمكن أن يثبت قبل الفراغ من معرفة الله سبحانه وتعالى.
– جواز حكاية ونقل وبيان كلام المبطلين وأقوالهم بغية نقضها والرد عليها، وجواز استماع العلماء والدعاة بأدب جم وإصغاء كامل إلى كلام المبطلين؛ بهدف مناقشتهم والحوار معهم بالتي هي أحسن والرد على أقوالهم بحجج قوية ومنطق سليم مع مراعاة الأدب في الخطاب وبعيداً عن الإيذاء والغلطة والقسوة والايحاش.
تعليق واحد