مواضيع

مخاوف موسى (ع) وهارون (ع)

<قَالَا رَبنَا إِننَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَىٰ>

بعد أن أمر الله   (جل جلاله) موسى الكليم (عليه السلام) وأخاه ووزيره وشريكه في الرسالة هارون (عليه السلام) بالذهاب إلى فرعون الطاغية لإبلاغه بالرسالة الربانية، وأعطى لهما التعليمات اللازمة بشكل واضح ومحدد ودقيق لا لبس فيه ولا غموض، أعربا له عن مخاوفهما: <قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى>[1]، أي: أقرا لله سبحانه وتعالى بالربوبية، وأنه وحده المالك لأمرهما والمدبر لهما، وأعربا له (عز وجل) عن اثنين من المخاوف، وهما:

أ.   <إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا>[2]، أي: يعجل ويبادر إلى عقوبتنا ولا يمهلنا أو يصبر علينا حتى نبلغه الرسالة ونقيم عليه الحجة بإظهار المعجزات التي أيدتنا بها، فإنه طاغية متجبر ولا رادع يردعه عن الشر والغدر والبطش وارتكاب جريمة قتلنا أو التنكيل بنا أو غير ذلك من الجرائم البشعة والجنايات الفظيعة والأعمال الشنيعة التي يرتكبها الفراعنة في العالم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا عادة وبسهولة تحت غرور السلطة والقوة والنفوذ، ومن أجل حماية عروشهم.

فهما لم يخافا في الحقيقة على نفسيهما في بطشه بهما، فالأنبياء الكرام والأوصياء المطهرون والأولياء الصالحون لا يخافون على أنفسهم من الأذى في جنب الله ذي الجلال والإكرام وفي سبيله، فقد نذروا أنفسهم خالصة لوجهه الكريم أكرم الوجوه، ولسان حالهم جميعاً كالإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء في اليوم العاشر من المحرم حين تكالب عليه القتلة من كل جانب، فقال:

إلهي تركت الخلق طرا في هواك     وأيــتمت العيال لكي أراك

فلـــو قـطعـتـنــــي بالحـــــب إربـــــا     لـما حان الفؤاد إلى سواك

ولكن كان خوفهما في الحقيقة من مبادرته لمعاقبتهما والبطش بهما قبل أن يتمكنا من تبليغ رسالة ربهما إليه وأداء الأمانة التي حملهما الله سبحانه وتعالى إياها وإقامة الحجة الإلهية عليه.

وهذا يعبر عن الصدق والإخلاص والوفاء والتفاني في ذات الله سبحانه وتعالى، وهي الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها المؤمنون الدعاة والمصلحون، أي: أن لا يخافوا على أنفسهم، وإنما يخافون على رسالتهم وقضيتهم ومطالبهم المشروعة اللازمة للحياة الكريمة الطيبة، وأنهم يفدون الرسالة والقضية والمطالب بأرواحهم ونحوها، ولا يدّخرون في سبيلها شيئاً.

ب. <أَوْ أَن يَطْغَى>[3]، أي: نخاف أن يطغى بملكه وسلطانه ونفوذه، ويأخذه الزهو والغرور بالذين هم حوله من الجند والأتباع والأنصار والأعوان وما تحت يديه من المال والثروة والعسكر والسلاح ونحو ذلك، وتأخذه العزة بالإثم، فيزداد كفراً وعتواً ونفوراً من الحق وعناداً واستكباراً، ويجترئ على ساحة قدسك بما لم يجترئ عليه قبل سماع دعوتنا إياه للإيمان بك والتسليم لربوبيتك، حيث تأتي دعوتنا لتوحيدك على خلاف ما يزعمه لنفسه من الألوهية والربوبية، ويتخوف من دعوتنا للتوحيد على نظامه ودولته وملكه، ولأنها تفسد صفو عيشه وملكه، وتجرئ الرعية عليه وتحرضهم على اختلاف الكلمة حوله ومخالفته فيما يدعوهم إليه وما يدبره ويرسمه في دولته ونحو ذلك.

وذلك متوقع منه لجهله بك وبالحقائق الإلهية والسنن الكونية والتاريخية، ولقسوة قلبه وتلوث فطرته وسوء طبعه وخلوه من حسن الأدب، أي: يسمع الدعوة ويرى المعجزات، ولكن يعاند ويكابر ولا يستجيب للحق ويسلم به، بل يتجاوز ذلك للإساءة إلى ساحة قدسك وجلالك سبحانك وتعاليت عما يصف الظالمون، فهو بحسب التجربة: جبار، عنيد، متكبر ومتغطرس على الحق، مدعي الألوهية والربوبية بغير حق، ولا دليل ولا برهان، بل على خلاف الحقيقة والدليل والبرهان، ولا يراعي لأحد حقاً ولا حرمة، ولا يراعي مع أحد أدباً وحشمة.

وقيل: أنهما خافا أن يطغى ويتجاوز الحد في الإسراف في القتل والبطش والتنكيل ببني إسرائيل المستضعفين، الذين هم قوم موسى وهارون (عليهما السلام)، وهذا تخوف واقعي ومشروع، ويدل على الرحمة والشفقة والحرص على سلامة ومصلحة الأتباع، وهو الأمر الذي يحرص عليه ويظهره جميع الأنبياء الكرام والأوصياء المطهرين (عليهم السلام) تجاه قومهم وأتباعهم، إذ أن التضحية في سبيل الله بالنفس والنفيس مطلوبة، وهي فضيلة عظيمة، ولكن في حينها ومكانها المناسبين، والتضحية بالنفس والنفيس بغير لزوم أو في غير الوقت والمكان المناسبين وبدون حساب مرفوض، وهو من الرذائل ومن الحمق والتهور وخلاف الحكمة والشجاعة.

فالأنبياء الكرام والأوصياء المطهرون المهديون والأولياء الصالحون (عليهم السلام) والقيادات الربانية الصالحة، تكون شديدة الرحمة على الأتباع، وحريصة على أن لا يصيبهم أذى أو مكروه بدون موجب أو لازم أو حاجة تستحق، فالثمن لا ينبغي أن يكون أكبر من المثمن، وكلما زاد الفارق زاد القبح والمنع.

فالأتباع أمانة عظيمة في أعناق القادة، والمحافظة على سلامتهم ومصلحتهم واستخدامهم في المكان والزمان المناسبين والمهام الصحيحة والنظيفة أخلاقياً والمشروعة عقلاً وشرعاً من المسؤوليات الكبيرة الرئيسية الملقاة على عواتق القيادات بمختلف درجاتها ومستوياتها، فلا يفرطوا في سلامتهم والمحافظة على أرواحهم ومصالحهم قيد شعرة، ولا يهملون أو يتساهلون أو يتسامحون في أخذ الحيطة واتخاذ الاجراءات والتحرزات اللازمة لسلامتهم وصيانة مصالحهم والمحافظة عليها، فلا تكون هناك تضحية غير لازمة أو في غير وقتها أو في غير مكانها أو تحدث بسبب التساهل والتسامح والإهمال في اتخاذ الاجراءات والاحتياطات اللازمة للمحافظة على أرواحهم وسلامتهم من الأذى، والمحافظة على أموالهم وكافة مصالحهم.

وما نجده لدى الطواغيت والفراعنة والحكام المستبدين والقيادات الحزبية أو القبلية أو العشائرية المتعجرفة ونحوها من التضحية بالأتباع والجنود في سبيل أمجاد أو نزوات شخصية أو في نزاعات عبثية أو لإرضاء قوى الاستكبار العالمي أو من أجل مصالح ضيقة ونحو ذلك، هي جرائم كبيرة وخيانات عظيمة للأمانة والمسؤولية والرعاية، ورذائل يندى لها جبين الإنسانية، يجب أن يحاسبوا عليها.

وقيل: خافا أن يبطش بهما بعد سماعه الرسالة مباشرة ولا يمهلهما، مما يهدد الرسالة بالخطر، لأن بقاء الرسالة وتحقيق أهدافها يتوقف على بقائهما؛ لأنهما حاملاها والأمناء عليها.

وهذا القول لا يخالف في الجوهر والنتيجة القول الأول، والاختلاف بين القولين في توقيت القتل، المبادرة إلى قتلهما قبل تبليغ الرسالة أو المعاجلة بقتلهما بعد سماع الرسالة انتقاماً منهما.


المصادر والمراجع

  • [1]. طه: 45
  • [2]. نفس المصدر
  • [3]. نفس المصدر
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الثاني | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟