مواضيع

تعليمات إلهية لموسى (ع) وهارون (ع) تتعلق بإيصال الرسالة

بعد أن اتضحت الصورة وأصبحت الرؤية واضحة، وأصبح كل شيء مهيئاً، وجعلت كل الوسائل اللازمة تحت تصرف موسى الكليم (عليه السلام)، أمر الله   (جل جلاله) نبيه الكريم موسى الكليم وأخاه ووزيره وشريكه في الرسالة هارون (عليه السلام) أن يذهبا برسالته الواضحة البينة التي أوحاها إليهما إلى فرعون الطاغية وملئه المستكبرين وقومه، وقد زودهما وأيدهما بما يثبت عن يقينٍ صدق نبوتهما ورسالتهما من رب العالمين سبحانه وتعالى، ويثبت الحق وحسنه وينفي الباطل ويكشف عن سوئه وقبحه من الآيات الكريمات والبينات النيرات الواضحات والمعجزات الباهرات القاهرات والبراهين القاطعة، وفي مقدمتها معجزتا العصا التي تتحول إلى ثعبان حقيقي ضخم، واليد السمراء التي تتحول إلى بيضاء جميلة من غير سوء وتشع نوراً بهياً يملأ المكان كالشمس الساطعة، قوله تعالى: <اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي>[1] وصيغة الجمع في لفظه <آيَاتِي>[2] تدل على أن كل آية من الآيتين السابقتين تنضوي على آيات أخرى، فتحول العصا إلى ثعبان آية، وعودتها إلى حالتها الأولى آية أخرى، وكذلك تحول اليد السمراء إلى بيضاء تشع نوراً آية، وعودتها إلى حالتها الأولى آية أخرى.

كما تدل صيغة الجمع على وعد إلهي جميل لموسى الكليم وهارون (عليهم السلام) بالتأييد لهما بآيات أخرى غير الآيتين، إشارة إلى بقية الآيات التسع، وهي آيات العذاب «الطوفان والجراد والقُمل والضفادع والدم والقحط ونقص الثمرات»، يقول الفخر الرازي: «لأنهما لو ذهبا إليه بدون آية معهما لم يلزمه الإيمان، وذلك من أقوى الدلائل على فساد التقليد»[3].

ووجود هذه الآيات والمعجزات يدل على وجود الرقابة والمتابعة الإلهية، والحضور الإلهي في ساحة المواجهة والصراع، والتأييد والدعم الإلهي والمساندة غير المحدودة لموسى الكليم وهارون (عليهما السلام) وللمؤمنين معهما، ومن ذلك: ضمان حسن العاقبة والنصر على الأعداء والظفر بهم والتمكن منهم، بشرط اتباع التعليمات الإلهية والالتزام بالشروط.

ومن أجل رفع معنويات موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) وحثهما على بذل أقصى الوسع من الجهد والطاقة والمساعي في تنفيذ الأوامر الإلهية والتعليمات والوصول إلى تحقيق الأهداف والغايات، فقد أكد لهما بأنه معهما يسمع ويرى، وأمرهما بالثبات والصمود والتحمل ونهاهم عن اليأس والقنوط، وحذرهما من الضعف والوهن أمام التحديات والصعوبات والعقبات والمشاكل التي من الممكن أن تواجههما وتقف في طريقهما، وأمام أيّ قوة أو قدرة استكبارية تقف في وجههما وتعترض طريقهما، طريق الحق والخير والفضيلة والحرية والتقدم والرخاء والازدهار، وتريد أن تمنعهما من الدعوة إلى الإيمان والتوحيد، وتحيل بينهما وبين حمل الرسالة وأداء الأمانة والتذكير بأمر الله سبحانه وتعالى ونهيه وبنداء الفطرة والضمير والوجدان، وهذا التحذير منطقي للغاية ومقبول عند كل من يؤمن بأن الله (عز وجل) قريب مجيب، وأنه القادر على كل شيء يريد والقاهر فوق عباده والغالب على أمره، ولأن أي تهاون أو ضعف سيؤدي إلى فشل المهمة ويذهب بكل الجهود والمساعي أدراج الرياح، يتنافى مع روح الإيمان.

كما حذر الله (عز وجل) موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) من التهاون والتقصير والتخاذل في الدعوة إلى الإيمان والتوحيد والدين الإلهي الحق وفي تبليغ الرسالة والنهوض بمسؤولية تحرير بني إسرائيل، تحت تأثير التعلق بعالم الدنيا والمادة أو الخوف والطمع ونحو ذلك.

فلفظ الذكر يقع على جميع العبادات والطاعات، والدعوة إلى الإيمان والتوحيد واتباع الدين الإلهي الحق والاستقامة على الصراط المستقيم والنهج القويم والطريقة الوسطى وتبليغ الرسالة الإلهية ونصرة المؤمنين والمستضعفين والقيام بخدمتهم والسعي في قضاء حوائجهم من أَجَلِّ العبادات والطاعات وأعظمها، وهذا التحذير منطقي للغاية ومقبول عند كل مؤمن يؤمن بأن الدنيا إلى فناء وزوال والآخرة باقية بلا زوال أو فناء، وأن ما عند الله تبارك وتعالى من النعيم المقيم والرحمة الواسعة والزلفى والرضوان، خير وأبقى.

ولأن التهاون والتقصير والتخاذل يتنافى مع روح الإيمان وحقيقته وكماله، ولا يليق بالمؤمنين فضلاً عن الأنبياء الكرام والمرسلين (عليهم السلام) الذين هم أمناء على الوحي بالرسالة ومصالح الأمة، قوله تعالى: <وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي>[4].

وقيل: إن الله   (جل جلاله) قد حذر موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) من الكسل والفتور عن ذكره سبحانه وتعالى بتسبيح وتحميد وتهليل وتكبير ونحو ذلك، وعدم التقصير فيه، أي: حثهما على المداومة على ذكر الله ذي الجلال والإكرام والتزامه والاستمرار فيه.

فلا يزال الله سبحانه وتعالى على ذكر منهما حيثما كانا، وحيثما تقلّبا، وعلى كل حال وفي مختلف الظروف والأوقات كما وعداه بذلك في قولهما: <وَاذْكُرْ رَبكَ إِذَا نَسِيتَ>[5]، أي: قد يحصل منك النسيان في كل شيء، ولكن لا يحصل منك النسيان لذكر الله ذي الجلال والإكرام؛ لأن بذكره تحيى القلوب والأرواح، وبه تقوم إنسانية الإنسان وتحفظ وتنمو وتتكامل وتصان حرمته وكرامته، وبه يزول عن الإنسان النسيان، وبه يوفق إلى معرفة الحق والعدل والخير والفضيلة والصواب، وفيه معونة إلى الذاكر على جميع الأمور، يسهلها ويخفّف حملها.

وكل من ينسى الله سبحانه وتعالى يموت قلبه وضميره ووجدانه، وتظلم روحه، ويضل فكره، وينسلخ من إنسانيته وتضيع كرامته، ويكثر نسيانه وغفلته مما فيه كماله وخيره وصلاحه ومصلحته وسعادته الحقيقية الكاملة في الدارين الدنيا والآخرة، ويكثر خطؤه وزَللـه في أقواله وأفعاله ومواقفه وعلاقاته.

ولأن ذكر الله ذي الجلال والإكرام يوثق العلاقة بين الإنسان وربه ويعززها ويرسخها، ويكسب الإنسان المؤمن الذاكر صفات الله ذي الجلال والإكرام وأخلاقه، ويحثه على لزوم طاعته فيما يأمر به وينهى عنه وسلوك طريق رضوانه، ويسمو بنفسه ويرفعها في مدارج الكمال إلى منازل القرب والزلفى، ويسكنه في حظيرة القدس والنور والطهارة، ويمنحه الصدق واليقين والوفاء والإخلاص في العمل، والقوة والثبات في المواقف والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الحق والاستقامة والعمل الصالح، والتحمل والصمود في القبول بالذل والهوان والخضوع المذل لإرادة الطواغيت الضالين والفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين الظلمة والمترفين المستغلين، والانحراف وراء سيل المجرمين من الانتهازيين الأنانيين والنفعيين الفاسدين ونحوهم، تحت تأثير الخوف أو الطمع أو الترهيب أو الترغيب أو نحو ذلك.

وعليه: فإن ذكر الله ذي الجلال والإكرام فيه التوفيق والتسديد والتأييد، وأحسن المعونة وأفضلها على جميع الأمور، وللقيام بالمهام الصعبة والنهوض بالمسؤوليات الضخمة الثقيلة الدينية والدنيوية، وأدائها على أحسن وأكمل وجه وأتمه، ويسهلها ويخفف حملها على الإنسان، يقول الفخر الرازي: «والحكمة فيه (يعني الذكر) أن من ذكر جلال الله استحقر غيره فلا يخاف أحداً، ولأن من ذكر جلال الله تقوى روحه بذلك الذكر، فلا يضعف في المقصود، ولأن ذاكر الله لا بد أن يكون ذاكراً لإحسانه وذاكر إحسانه لا يفتر في أداء أوامره»[6].

فكأن الله   (جل جلاله) قال لموسى الكليم وهارون (عليهما السلام) حين خاطبهما بقوله: <وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي>[7] أن اتخذا ذكري براقاً تعرجان به في مدارج معالي الكمال وتحلقان به في سماء عالم النور والطهارة والملكوت والمعرفة، وتستمدان به مني النور والتأييد والتوفيق والتسديد، والثبات والقوة والصمود والقدرة على التحمل، ولقضاء الحوائج في جميع الأمور بأن لا أمر من الأمور يحدث أو يجري إلا بـأمري وإرادتي ومشيئتي وتدبيري وحدي، لا يشاركني في ذلك أحد غيري.

وقيل <لَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي>[8]، أي: عند فرعون الطاغية المتجبر، فعرّفاه حقيقة نفسه بأنه عبد مخلوق لرب العالمين، وأنه فقير في نفسه، ضعيف عاجز محتاج، وأن رب العالمين عزيز جبار، غني في نفسه، غير محتاج إلى غيره، وأن لا طاقة له على مجابهته، وعرفاه بآلائي ونعمائي وأنواع إحساني وثوابي وعقابي، وأني لا أرضى منه الكفر والضلال والظلم والطغيان والعدوان والاستكبار على الحق والإفساد في الأرض بغير الحق والإضلال للعباد، ونحو ذلك.


المصادر والمراجع

  • [1]. طه: 42
  • [2]. نفس المصدر
  • [3]. تفسير الفخر الرازي، جزء 8، صفحة 51
  • [4]. طه: 42
  • [5]. الكهف: 24
  • [6]. تفسير الفخر الرازي، جزء 8، صفحة 52
  • [7]. طه: 42
  • [8]. نفس المصدر
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الثاني | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟