مواضيع

تمام النعمة الإلهية على بني إسرائيل

<وَلَقَدْ بَوأْنَا بَنِی إِسْرَائِیلَ مُبَوأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطیِبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِن رَبکَ یَقْضِی بَیْنَهُمْ یَوْمَ الْقِیَامَةِ فِیمَا کَانُوا فِیهِ یَخْتَلِفُونَ>

لقد كانت المعادلة الربانية في حسم الصراع المحتدم بين الطرفين، بين فرعون الطاغية وحزبه المجرمين وقومه الفاسقين بما هم عليه من الكفر والضلال والمعصية والظلم والفساد والعناد والاستكبار على الحق وأهله، وبين موسى الكليم (عليه السلام) وقومه من بني إسرائيل المؤمنين المستضعفين المظلومين المهانين من قبل فرعون الطاغية وحزبه المجرمين، الذين آمنوا بالدين الإلهي الحق واتبعوا ولي الله الأعظم والرسول الكريم موسى بن عمران الكليم (عليه السلام)، وسعوا في تزكية أنفسهم وتطهير قلوبهم وإصلاح شؤونهم، وصبروا على الحق وثبتوا في وجه الظلم والطغيان، وقاوموا ولم يخضعوا لإرادة فرعون وحزبه المجرمين، وقدموا ما يلزم من التضحيات الجسيمة في سبيل الحق والعدل والحرية والحقوق والقيم والمبادئ السامية، أن أهلك الله (عز وجل) فرعون الطاغية وحزبه المجرمين بأن أغرقهم في البحر أجمعين، ونجا موسى الكليم (عليه السلام) وجميع الذين كانوا معه من المؤمنين من بني إسرائيل المستضعفين الصابرين المحتسبين المتوكلين على الله سبحانه وتعالى الواثقين به وبوعده الصادق لهم بالنصر لهم على عدوهم في الدنيا وبالأجر العظيم في الآخرة، وبخلاصهم من أذى فرعون الطاغية وأذى حزبه المجرمين وقومه الفاسقين ومن شرورهم أجمعين، وباستخلافهم في الأرض بدلاً عنهم، وأن يوضع السلطة والثروة ومقدرات الدول والبلاد في أيديهم ويمكنهم منها غاية التمكين وتمامه، وأن يسكنهم مساكن آل فرعون ويورثهم أرضهم وديارهم بالحق.

ويعد هذا الاستخلاف من تمام النعمة الإلهية على بني إسرائيل، فقد بعث فيهم رسولاً كريماً منهم، يهديهم إلى الدين الإلهي الحق وإلى الصراط المستقيم، ويقودهم قيادةً رشيدةً رحيمةً توحد صفوفهم وتجمع شملهم وترأب صدعهم وتواسيهم في الأحوال جميعاً، وتشاركهم في الأفراح والأحزان وتوجههم لما فيه الخير والصلاح والصواب والرشد في السلوك والمواقف والعلاقات ونحو ذلك.

ثم أنعم عليهم بهلاك عدوهم وتخليصهم من أذاه وشروره. ثم أتم النعمة عليهم باستخلافهم في الأرض وإنزالهم منزلاً صالحاً كريماً مرضياً محموداً، وتمكينهم من السلطة والثروة والمقدرات في مصر وبلاد الشام، ومنها أرض المعاد أرض فلسطين المقدسة بخيراتها وبركاتها المادية والمعنوية، ووضع أزمة الأمور وقدرات الدولة جميعها في أيديهم وسهلها عليهم، وأسكنهم في مساكن آل فرعون في مصر، وأورثهم أرضهم وديارهم وثرواتهم بالحق، وجعلهم في عيشة طيبة كريمة راضية هنيئة، تتوفر لهم فيها جميع المستلزمات المطلوبة للحياة الإنسانية الكريمة المرضية، وتلبي لهم فيها جميع احتياجاتهم الأساسية، حيث يسودها الأمن والأمان وحرية الاعتقاد والعبادة والضمير والرخاء والازدهار الفكري والروحي والمادي، ويعيشون في الأرض الطيبة المباركة بما تتمتع به من طيب الهواء «جودة المناخ» وخصوبة التربة وكثرة الماء العذب الصالح للشرب والري وغيره، والغلات الكثيرة، والثروات الطائلة، المال والمعادن والموقع الاستراتيجي المهم جداً.

وتحت مظلة قيادة مؤمنة صالحة تتصف بالحكمة والرشد والرحمة والشجاعة والإقدام والثبات والأمانة ونحو ذلك، توحد كلمتهم وتنظم صفوفهم وتجمع شملهم وترأب صدعهم وترد قاصيهم على دانيهم.

وقد توفرت لهم فيها المساكن الصالحة للسكن والعيش الطيب والحياة الكريمة، والمشارب الطيبة السائغة والمواد الغذائية اللذيذة المختلفة المفيدة جداً للصحة والعافية، والمصانع الضخمة والتجارة الرائجة النشيطة الداخلية والخارجية، وكانت التجارة الداخلية هي الأكثر أهمية والأكثر نشاطاً عندهم، ونحو ذلك من أسباب الرفاهية والازدهار والعيش الكريم، وذلك من الغايات الدنيوية التي يطمع فيها الإنسان في كل المجتمعات في العالم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا.

وقيل: وصف بـ<مُبَوَّأَ صِدْقٍ>[1] إشارة لما فيه من القدسية والطهارة والطيب والصلاح والمنافع المناسبة لغرض الحياة والدعوة والرسالة، إذ أن من عادة العرب أنهم إذا مدحوا شيئاً لوجود لوازم معناه وآثاره المطلوبة منه، أضافوه إلى الصدق كأنه لم يكذب في شيء من معناه وآثاره التي يعدها بلسان دلالته لطالبه، فيقال: رجل صدق ولسان صدق ونحوه.

وقيل: وصف بذلك؛ لأنه فضله على غيره من المنازل كفضل الصدق على الكذب.

وقيل: وصف بذلك إشارة إلى وفاء الله سبحانه وتعالى بوعده الصادق لبني إسرائيل.

وذلك كله بعدما كانوا يعيشون في الفرقة والاختلاف والتشتيت والذل والهوان والقهر والحرمان من تلك النعم والاستضعاف والإذلال والاضطهاد والاسترقاق والاستعباد والتمييز ضدهم، وصنوف الفتن والمحن والابتلاء والأذى لمدة طويلة وحقب متعاقبة امتدت لقرون من الزمن على أيدي الفراعنة وقومهم الأقباط في ظل النظام الفرعوني الجائر عن الحق والعدل والإنصاف والفضيلة والقائم على التفاوت الطبقي الموروث الذي يقسم المجتمع إلى سادة وهم الأقباط وعبيد وهم بنو إسرائيل.

وكان التمييز بين العاقبتين، عاقبة السوء المذمومة لفرعون الطاغية وحزبه المجرمين وقومه الفاسقين، وعاقبة الحسنى الممدوحة لبني إسرائيل المؤمنين المستضعفين الصابرين المحتسبين المتوكلين على الله (عز وجل) والموفضين إليه أمورهم كلها؛ ليظهر لأصحاب العقول المستنيرة والقلوب الحية الفرق بين مصير فريقين جاءهم رسول كريم صادق أمين بالمعجزات الباهرات القاهرات والبينات الواضحات النيرات والبراهين الساطعة القاطعة، فآمن به فريق ففازوا ونجوا وسعدوا في الدارين الدنيا والآخرة؛ ليكون في ذلك ترغيب في الإيمان وتحذير من العناد والاستكبار، وبشارة للمؤمنين وإنذار للمشركين والمنافقين والعاصين، وهو درس بليغ وعبرة واصلة لأصحاب العقول المستنيرة والقلوب الحية.


المصادر والمراجع

  • [1]. يونس: 93
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الأول | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟