مواضيع

بعض الاجراءات العملية في برنامج المقاومة

<وَأَوْحَیْنَا إلى مُوسَى وَأَخِیهِ أَنْ تَبَوآ لِقَوْمِکُمَا بِمِصْرَ بُیُوتًا وَاجْعَلُوا بُیُوتَکُمْ قِبْلَةً وَأَقِیمُوا الصلاةَ وَبَشِرِ الْمُؤْمِنِین>

في ظل ما تقدم بيانه من التهديدات والوعيد الفرعوني لبني إسرائيل المستضعفين، حيث اشتد عليهم الأمر وعظمت المحنة، أمر الله  (جل جلاله) موسى الكليم وأخاه ووزيره هارون  (عليهما السلام) عن طريق الوحي باتخاذ بعض الاجراءات العملية الاحترازية والاستعدادات اللوجستية والتعليمات الأساسية؛ لمواجهة الموقف والتحديات والتغلب عليها.

ففي البداية أمر الله  (جل جلاله) بني إسرائيل بالصبر والثبات في المقاومة، وإعداد ما يلزم؛ لمواجهة الموقف والتحديات، ونهاهم عن الخضوع والخنوع والاستسلام لإرادة الاستكبار والطاغوت الفرعوني وملئه وحزبه الشياطين، وأمرهم بالتوكل على الله (عز وجل) والتفويض إليه في أمورهم كلها، والثقة بقوته المطلقة وحكمته البالغة وحسن تدبيره، وبوعده لهم بالنجاة من تهديدات فرعون وملئه، والخلاص من أذاهم، والنصر عليهم، والظفر بهم، والتمكن منهم، ووراثة ما يتركون من الأموال والثروات والضياع والأبنية والقصور ونحوها، والاستخلاف في الأرض بدلاً عنهم، واعتبر ذلك من لوازم صدق وكمال الإيمان.

ثم أصدر لهم بعض التعليمات والتوجيهات بشأن الاجراءات والاستعدادات العملية المقومة لوجودهم وبناء كيان الجماعة المؤمنة الموحدة المخلصة في المرحلة الجديدة، وهي:

أ.   ترك حياة البداوة والتنقل والعيش في الخيام، واتخاذ مساكن مبنية ثابتة – غير البيوت التي كانوا يسكنونها من قبل في منطقة جاسان قرب مدينة فرعون ومحل سكناه مع قومه -، يأوون إليها ويعتصمون بها ويحتمون من عدوهم فرعون وحربه وقومه، قوله: <أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا>[1]، وذلك في منطقة مناسبة، تصلح للعيش الكريم، وقابلة للعمارة والتطوير والازدهار، مثل: أن يتوفر فيها الماء الوفير، والقابلية للزراعة وسهولة التنقل والعمران والتجارة وإقامة الصناعات المتطورة المختلفة، ونحو ذلك. أي: نهاهم الله (عز وجل) في ذلك الوقت عن الخروج من مصر، وأمرهم بالإقامة فيها، ولكن في منطقة مستقلة وبعيدة نسبياً عن منطقة سكن فرعون وقومه الأقباط، ويعتقد البعض أن المنطقة التي اتخذها بنو إسرائيل للسكن الجديد في مصر بناء على هذا الأمر والتوجيه الإلهي الرباني الشريف، هي الإسكندرية. وقيل: مصر القديمة بجوار القاهرة الحالية.

ولا شك فإن الإقامة في منطقة محددة جغرافياً صالحة للعيش وقابلة للتنمية والتطوير ومستقلة إدارياً وسياسياً واقتصادياً عن الدولة والنظام الفرعوني من شأنه بحسب المعطيات والظروف في ذلك الوقت أن ينقل بني إسرائيل من التنقل والبداوة ومن الحياة الطفيلية في بيوت الأقباط والتبعية لهم وخدمتهم والاعتماد عليهم كلياً في الحياة والاكتفاء بما يقدموه لهم من الفتات إلى الاستقلال والاعتماد على النفس، فيكون لهم كيانهم الخاص المستقل، وتكون لهم برامجهم الخاصة الدينية والتعليمية والتربوية والتنموية ونحوها، وتكون لهم حياتهم الخاصة، ويستقلون بشأنهم وتحفظ أسرارهم، وتتراكم منجزاتهم ومكتسباتهم في الحياة التي تتعاقب الأجيال على وراثتها وتطويرها والزيادة عليها جيلاً بعد جيل، مما من شأنه أن ينمي الشعور بالخصوصية والانتماء إلى الأرض وما عليها ومن عليها، ويدفع إلى الاستماتة في الدفاع عنها وحمايتها من هجمات الأعداء، وبذل الوسع والطاقة في تنميتها وتطويرها بصدق وإخلاص، وهذا من شأنه أن يقوي الرابطة الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية، ويسهم في التقدم والتطور المعرفي والعلمي والتكنلوجي والصناعي والزراعي والتجاري والتربوي والعمراني والحضاري، وهذا شرط رئيس؛ لرقي الإنسان ووصوله إلى كماله المقدر له على الصعيد الفردي والمجتمعي.

ب. جعل البيوت متقاربة ويقابل بعضها بعضاً وفي منطقة واحدة أو حي واحد، وليس في مجموعة مناطق أو عدة أحياء صغيرة ومتفرقة، قوله: <وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَة>[2] أي: يقابل بعضها بعضاً، وهذا إجراء أمني مهم وأساس لانطلاقة حضارية ورسالية جديدة ومتميزة، تتم فيها إعادة بناء وتأهيل الجماعة المؤمنة فكرياً وروحياً وسلوكياً على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والإداري وغيره، حيث يصعب اختراق المنطقة ومهاجمتها من قبل جيوش الأعداء في ذلك الوقت، وتسهل حمايتها والدفاع عنها، وتشكل الأرضية؛ لتكوين قوة ضاربة يهابها الأعداء، ويخافون من مهاجمتها والاعتداء عليها، ويحسبون لذلك ألف حساب.

وأيضا يتيسر فيها الاجتماع لأجل الشعائر والطقوس الدينية وغيرها من الأغراض المدنية والأمنية والعسكرية ونحوها، ويسهل التواصل بين الأفراد والجماعات ما يقوي اللحمة والروابط بينهم، ويسهل التعبئة الانتاجية والعسكرية والروحية والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ودينه الحق، والتناصح والتضامن والتكافل الاجتماعي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتدارس مختلف الأمور والشؤون الخاصة والعامة، ووضع الاستراتيجيات والخطط والبرامج العملية في كافة المجالات التعليمة والتربوية والتنموية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدفاعية وغيرها، بشكل أفضل وأسهل في التطبيق والتنفيذ، أي: تحويل الجماعة إلى كيان حضاري فاعل، وتتهيأ الفرصة بشكل أفضل؛ لإقامة مجتمع إسلامي صالح ومترابط وقوي ومستقل عن النظام والدولة الفرعونية.

وقيل: إن المراد من البيوت في قوله: <أَن تَبَوَّءآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا>[3]، هي المساجد يتخذونها للعبادة، والمراد من قوله: <وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَة>[4] أي: اجعلوها متوجهةً إلى جهة أو نحو القبلة.

وقيل: كانت قبلتهم إلى نحو بيت المقدس، وقيل: كانت قبلتهم هي قبلة جدهم إبراهيم الخليل (عليه السلام) إلى نحو الكعبة الشريفة.

وأيٌّ كانت قبلتهم، فهم مأمورون بأن يتوجهوا في صلواتهم المفروضة عليهم نحو القبلة، ويلعب هذا التوجه الجماعي لهم نحو القبلة المشتركة دوراً حضارياً ومعنوياً مهماً للغاية، إذ يساهم في توحيدهم وإبرازهم كجماعة مؤمنة واحدة، مستقلة ومتميزة، مما يعزز لديهم الشعور بالخصوصية وقوة الانتماء والتميز والاستقلالية ووضوح الوجهة والرؤية والطريق.

فالمستفاد من الآيات الشريفة المباركة أن بني إسرائيل كانوا قبل ذلك الحين جماعة متشتتة ضعيفة خائفة مستضعفة ذليلة ومهانة، وليس لهم قيادة واحدة تجمعهم وتقويهم، ولا مأوى مشترك لهم ولا برامج عملية تعليمية وتربوية وتنموية، وكانت حياتهم طفيلية تعتمد اعتماداً كلياً على الأقباط «قوم فرعون» وما يقدمونه لهم من الفتات، مما يجعل وجودهم في خطر شديد دائم في ظل النظام الفرعوني الظالم، الذي يقوم على التمييز والتفاوت الطبقي والبطش والإرهاب والتنكيل بالمعارضين وإنزال أشد صنوف العذاب والعقوبات بهم، ولم تكن لهم الإرادة والشجاعة والفرصة للثورة والإصلاح وتحسين أوضاعهم.

ومما سبق يثبت أهمية القيادة الشجاعة الواعية، وامتلاك الجماعة لأسباب القوة والتميز والاستقلالية، وتحليها بالجرأة والشجاعة والاستعداد للتضحية والفداء؛ للمحافظة على وجودها وكرامتها ومصالحها في الحياة.

وقد ثبت بالتجربة التاريخية والمعاصرة، وأكد علماء النفس والاجتماع أهمية الرموز المقدسة المشتركة في تعزيز وتقوية الروابط وتنمية الشعور بالوحدة والتميز والاستقلال والانتماء، وتعزز من صلابة الجماعة وقوة مواقفها وصمودها وثباتها في وجه الخصوم والتحديات والعوائق والصعوبات والتغلب عليها والقدرة على تجاوزها والانتصار عليها والظفر بالمطلوب والوصول إلى المقصود، وتحقيق الأهداف والغايات المشروعة المرسومة.

وتكون هذه الرموز مفيدة ومؤثرة حتى لو كانت زائفة وباطلة من قبيل الأصنام، قول الله تعالى: <اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا>[5]، أي: اتخذتم من دون قناعة أو حجة عقلية أصناماً لعبادتها، واشتركتم في الاجتماع على عبادتها والاتفاق على طاعتها على أساس المجاملة والمصانعة بينكم وليس على أساس الحجة والقناعة، وجعلتموها رموزاً لوحدتكم الفكرية والدينية والقومية، وقامت بينكم المودة والمحبة وسرت بينكم على أساس رمزيتها لديكم وقدسيتها عندكم؛ لتتناصروا بينكم وتتعاونوا وتكونوا أمة متحدة؛ بهدف إصلاح حياتكم الدنيوية القائمة؛ ولتأمنوا مصالحكم الخاصة في الحياة، أي: الأهداف واقعية ومشروعة، والأساس واهٍ وضعيف وباطل وغير منطقي ولا معقول؛ وذلك لأنكم رأيتم بأن أمر العقيدة والدين والحقائق أهون من أن يخالف عليها الصاحب صاحبه والصديق صديقه والمواطن مواطنه، فلا يترك دين قومه وسيرتهم وطريقتهم في الحياة إذا تبين له أنها ليست بحق في نفسها، بل يبقى يستمر عليها حتى لو ثبت له بطلانها في نفسها بالدليل والبرهان؛ من أجل استبقاء ما بينه وبين قومه من المودة والروابط والمصالح؛ لأنه لا يعتقد بأن للعقيدة والدين والحقائق قيمة في نفسها، وإنما قيمتها فيما يترتب عليها من منافع ومصالح ونجاح في الحياة، وهو عين ما تعتقده المدرسة البرغماتية في الوقت الحاضر.

غير أن اتخاذ الرموز الجوفاء الباطلة مخالف للعقل والمنطق السليم والفطرة والطبع الإنساني السليم، وأن اتخاذها رموزاً وإن نجح في إيجاد وحدة اجتماعية قوية، وتحقيق تقدم مادي وعلمي وتكنولوجي واقتصادي وعمراني ونحو ذلك، إلا أنه يمثل في الحقيقة والواقع سبيلاً إلى التخلف الفكري والديني، والتدهور الروحي والأخلاقي، ويعود على الأمة والمسيرة البشرية بالسوء والضرر البليغ، وتسمح لأن تتورط الجماعة أو الشعب أو الأمة في جرائم وجنايات فردية وجماعية من كل نوع وبدون حدود، وتغير على الجماعات والشعوب والأمم الأخرى متى اقتضت مصلحتها الخاصة ذلك وكانت الفرصة مؤاتية لها وكانت تمتلك القدرة على ذلك؛ كأن تفرض السيطرة والهيمنة عليها واستضعافها والاستئثار بخيراتها وثروتها وإفقار أهلها، ونحو ذلك من الجرائم التي نجدها ماثلة أمامنا بوضوح تام لا لبس فيه في عالمنا المعاصر، وكانت لها مثيلاتها في تاريخ الأمم السابقة.

هذا فضلاً عن الشقاء الأخروي حين تظهر الحقائق كما هي عليه ويزول عمى القلوب، وتتحول تلك المودة التي تقوم على أساس الباطل إلى معاداة وخصومة ويلعن بعضهم بعضاً، ثم يكون مآلهم إلى نار جهنم وبئس المصير والورد المورود، أي: تكون تلك الرموز الزائفة التي تقوم على أساس الباطل سبباً لعذابهم وشقائهم وتباغضهم في الآخرة، بعد أن كانت سبباً لاتحادهم وتضامنهم في عالم الدنيا، مما يدل على سوء عاقبة هذه المودة التي تقوم على أساس الباطل، فيجدر بحسب العقل والمنطق والفطرة والطبع السليم تركها واجتنابها؛ لأن اللذات المحدودة العاجلة الفانية لا عبرة بها إذا كانت تعقبها ندامة ومصائب عظيمة آجلة، وأن التمسك بها يدل على الجهل والحماقة.

وعلى خلاف ذلك تأتي المودة والأخوة والاتحاد والتضامن التي تقوم على أساس رمزية التوحيد الإلهي، فإنها رمزية واقعية حقة ومنطقية، وتقوم على أساس واقعي حق ومنطقي، وتنسجم مع الفطرة الإنسانية والطبع السليم، وتتناغم معهما، وتسمو بعقل الإنسان وفكره وروحه، وتهذب مشاعره وسلوكه، وتعرج بالإنسان في معارج الكمال الإنساني الواسع الشامل، الذي لا ينتهي ولا يقف عند حد محدود في عروجه وصعوده؛ لأنه سير نحو المطلق الفعلي «واجب الوجود» على الصعيدين، الفردي التربوي والمجتمعي الحضاري، من خلال تجسيد صفات الكمال الإلهي المطلق، صفات الجمال وصفات الجلال، في واقع شخصية الفرد وصفاته «التخلق بأخلاق الله ذي الجلال والإكرام» وفي واقع المجتمع وخصائصه، في العلم والقدرة والفاعلية والخيرية والعطاء ونحو ذلك، فرمزية التوحيد الإلهي تجمع بين الحقانية الواقعية المنطقية، وبين الإيجابية الشاملة المتوازنة، وبين الاستمرارية والصعود والارتقاء بدون توقف عند حد معين نحو الكمال؛ لأنها سير نحو الكمال المطلق الواقعي الفعلي «واجب الوجود» الجامع لكل صفات الكمال في كل موجود.

ج. قوله تعالى: <وَأَقِيمُوا الصَّلَاة>[6]، أي: أقيموا الصلاة التي أمركم الله سبحانه وتعالى بها وفرضها عليكم، وواظبوا على فعلها والإتيان بها على الوجه وبالصورة والشروط التي أمركم بإقامتها عليها. وهي ترمز إلى صدق الإيمان والإخلاص في العبودية لله ذي الجلال والإكرام، وتحرر الإنسان من الشعور بالمهانة والدونية، وترفع من شأنه ومكانته، وتسمو بعقله وفكره وروحه، وتهذب مشاعره وسلوكه، وتعصمه من الذل والخضوع والعبودية لغير الله سبحانه وتعالى، وتطهر قلبه وروحه من دنس الذنوب والمعاصي والخطايا، ومن لوث المادة والشهوات والنزوات الدنيئة واللذات الحسية والأغراض الشيطانية الخبيثة والممارسات الدنيئة والتصرفات الوضيعة، وتنمي لديه الشعور بالثقة وبالعزة والكرامة والقوة والعظمة التي تبعده عن كل ما هو دنيء ووضيع وحقير في الصفات والأفعال، وتحثه على الاعتماد على الذات والسعي الحثيث في عطاء الخير بدون انقطاع، والنهوض بالمسؤوليات العظيمة والقيام بالأعمال والمهام الجسيمة في الحياة بدون ضعف أو وهن أو ملل أو تردد، وتجمع القلوب الطاهرة النقية النظيفة على الإحساس المتحد المتضامن على الخير، وتعزز روح الأخوة الدينية والإنسانية في الله سبحانه وتعالى من أجل الوصول إلى ساحة قدسه والفوز برضوانه، وتبعث في الإنسان روح إنسانية سامية متوثبة لعطاء الخير ومتجددة دائماً وبدون توقف، وتعينه على جميع الأمور في الحياة، مثل: طرد الخوف والرعب من العدو، والرهبة من مواجهة الصعوبات والمشاكل والتحديات، وتزيد من القوة المعنوية والقدرة على التحمل والصمود والثبات في مواجهة المحن والصعوبات والمشكلات والتحديات والخصوم والأعداء، وتلهم الإنسان الحلول السديدة للمشكلات، وتوصل الإنسان بالله ذي الجلال والإكرام والفناء فيه واكتساب صفاته، كما له صفات الجمال وصفات الجلال، الذي هو الأساس لإثراء إنسانية الإنسان وتكامله المعرفي والتربوي والحضاري وصيانة كرامته، وإصلاح سلوكه وتقويم مواقفه العامة والخاصة وعلاقاته في الحياة مع نفسه وربه وإخوانه والطبيعة، وتكون سبيلاً إلى تنمية التلاحم والتضامن على أساس فكري وروحي راسخ ومتين.

فالصلاة هي أفضل وسيلة لتطهير قلوب بني إسرائيل مما دخل إليها من الخوف والرعب والمسكنة التي تراكمت طوال سنين العبودية والتبعية لفرعون وقومه المستكبرين الظالمين الأقباط، حيث استخدموهم في الأعمال الشاقة والوضيعة والمهينة، مما نمى فيهم الشعور بالدونية والمهانة والحقارة، وتعززت لديهم روح المسكنة والخضوع والخنوع لإرادة المستكبرين، الفراعنة والمترفين، وقد اُبتُلِي بنو إسرائيل بذلك رغم شرف نسبهم وكونهم من أولاد الأنبياء العظام الكرام (عليهم السلام)، وكان فيهم ملوك وحكام، مثل: يوسف الصدّيق (عليه السلام) الذي حكم مصر في القرن الثامن «18» قبل الميلاد لسنين طويلة، وساهم في نجاحها لتجاوز أزمة القحط والجفاف التاريخي الذي أصابها مع الدول المجاورة لها، وساهم في تنميتها فكرياً ودينياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وعمرانياً وبناء حضارتها المزدهرة والمتميزة جداً، ومثل داوود وسليمان (عليهما السلام) اللَذين كانا من أعظم ملوك الأرض وغيرهم، وقد وصل بنو إسرائيل إلى ذلك الوضع المأساوي جداً قبل أن يبعث الله تبارك وتعالى فيهم موسى بن عمران الكليم (عليه السلام) بسبب انحرافهم الشديد عن الدين الإلهي الحنيف، وعدم اتفاقهم على قيادة عليا مؤهلة قوية ونزيهة وشجاعة توحدهم وتجمع شملهم وتوعيهم وتأخذ بيدهم نحو المعالي وتدافع عن حقوقهم وتصون مصالحهم. ونشوب الخلافات الداخلية والصراعات البينية في صفوفهم، وتعلقهم الشديد بعالم الدنيا والمادة، وخوفهم الشديد من الموت والرحيل عن عالم الدنيا الفانية الزائلة، وعزوفهم عن التضحية والفداء، ونحو ذلك، مما تتطلب إعادة البناء والتأهيل الشامل، فكرياً وروحياً وسلوكياً، وعلى كافة الأصعدة، الصعيد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والأمني والعسكري والإداري والتقني ونحو ذلك.

ولا شك فإن الصلاة والعبادات الروحية، وحياة الاستقرار، وبناء منطقة سكنية خاصة بهم مستقلة تماماً فكرياً وروحياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وإدارياً وعسكرياً وأمنياً عن النظام الفرعوني، ساهم بدون شك في مهمة إعادة البناء والتأهيل، وسهلها ويسرها كثيراً، بل كانت ضرورية وملحة جداً للتحقيق النجاح في المهمة في ظل الظروف والأوضاع القائمة التي سبق شرحها وبيانها، إلا أنه ينبغي التنبيه إلى أن مثل هذه الخطوة ليست سليمة ومطلوبة في جميع الظروف والأحوال والأوضاع والأوقات، فتجب دراسة الفكرة بعناية فائقة في مختلف الأوضاع قبل الإقدام عليها؛ لمعرفة ما هو مناسب وما هو غير مناسب منها، على خلاف بناء قدرات الجماعة واستقلاليتها، فإنها واجبة للمحافظة على وجودها وصيانة حقوقها ومصالحها.

وقد أمر الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل بأن يقيموا الصلاة جماعة، وأن يؤتوها حقوقها وشروطها، وأن يؤدوها أداءً كاملاً تتحقق به حكمتها ووظيفتها وأثرها في العقل والفكر والشعور والإرادة والسلوك، وأن يجعلوها معراجاً حقيقياً للارتقاء والتكامل المعرفي والتربوي والحضاري، وأن لا يكتفوا بمجرد الإتيان بصورتها وهيئتها الظاهرية الفارغة من الروح والمضمون.

وقد جاء في الرواية عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام): «لما خافت بنو إسرائيل جبابرتها، ومنعوا من إقامة الصلاة في الكنائس والبِيَع العامة، أمروا أن يصلوا في بيوتهم؛ ليأمنوا من بطش فرعون وحزبه المجرمين»[7]، مما يدل على أهمية الصلاة في بناء الجماعة المؤمنة وتأهليها، وضرورة المواظبة على فعلها والإتيان بها على صورتها الصحيحة التي أمر بها، وعدم تركها أو التفريط بها بأي حال من الأحوال وفي كل الظروف؛ لأنها عمود الدين والدليل على صدق الإيمان، وعلى ضرورة مراعاة الظروف الفعلية القائمة على أرض الواقع وعدم تجاهلها في إدارة وتدبير أوضاع الجماعة المؤمنة والمحافظة عليها والقيام بوظائفها العامة، العبادية والرسالية والاجتماعية والسياسية والأمنية والاقتصادية والإدارية ونحوها، فلا يصح التخلي عن الوظائف العامة الرئيسية وعن الفروض والواجبات العامة والخاصة، ولا يصح تجاهل الظروف الواقعية والأوضاع الفعلية في تدبيرها وإدارتها، وإنما يجب التوفيق وخلق التوازن بين الأمرين، القيام بالوظائف وأداء الفروض والواجبات، ومراعاة الظروف والأوضاع القائمة في إدارتها وتدبيرها، وذلك بشكل دقيق وفعال يحافظ على الظروف العامة والفروض والواجبات، ويضمن الوصول إلى المقاصد ويحقق الأهداف والغايات المطلوبة منها.

وقد بيّن الله (عز وجل) لبني إسرائيل بأنهم إذا التزموا بما أمروا به من التعليمات والنصائح والتكاليف الشرعية، واتخذوا الإجراءات والتدابير العملية المطلوبة منهم، فهذا يدل على صدقهم وإخلاصهم وجديتهم، ووعدهم بأنه سيؤيدهم ويسدد خطاهم وينجيهم من فرعون وحزبه المجرمين وعملهم وينصرهم عليهم ويظهر دينهم الحق ويستخلفهم في الأرض بدلاً منهم، قول الله تعالى: <فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا 5 إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا>[8]، أي: إذا اشتد الكرب وضاق الأمر، فرجه الله (عز وجل) ووسعه برحمته وبركاته، وأنه كلما وجد عسر وصعوبة وشدة، فإنه يوجد يسر عظيم وسهولة تقارنه وتصاحبه وتغلبه، أي: ترجيح أثر اليسر على أثر العسر، فالمصائب والشدائد والمكاره لا تدوم ولا تبقى، بل تزول وتنتهي، قول الله تعالى: <سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا>[9]، وربما استبطنت المصائب والشدائد والمكاره الخير الكثير والنفع العميم.

وتعريف العسر في الآيتين يدل على أنه واحد، وتنكير اليسر يدل على تكراره، ولهذا قيل في الروايات: «لن يغلب عسر يسرين».

وقيل: في تعريف اليسر بالألف واللام الدال على الاستغراق والعموم دلالة على أن كل عسر وإن بلغ ما بلغ من الصعوبة والشدة فإنه في آخره التيسير والفرج، وهما ملازمان له، مما يدل على العناية الإلهية الفائقة، ومما يوطد الشعور بالرجاء ويدفع إلى السعي والعمل، ويمنع الشعور باليأس والإحباط والكسل، وفيه بشرى سارة جداً للمؤمنين والمستضعفين، بالإضافة إلى الرضوان الإلهي العظيم والنعيم الخالص من شوائب الألم والمقيم الذي لا زوال له ولا اضمحلال في جنات الخلد في أعلى مراتب الفردوس في الآخرة.

والآية الشريفة المباركة تشير إلى أهمية القيادة المؤهلة ووحدتها في توحيد الجماعة، والمحافظة على وحدتها وتماسكها ورفع معنوياتها وتطهير روحها من الخوف والرعب، وتنمية الوعي والإدارة لديها، وتربية أفرادها على الجرأة والشجاعة والتضحية والفداء، ومحو نقاط الضعف في صفوفها واستبدالها بنقاط القوة، والوصول بها إلى شاطئ الأمان، وصيانة كرامتها وحقوقها ومصالحها، والارتقاء بها في الحياة.

وفي الآية الشريفة المباركة فضلاً عن ذلك، إشارة في غاية الأهمية في التربية الرسالية والسياسية والإدارية والتنظيمية، قول الله تعالى: <وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا>[10]، فهي تشير إلى القيادة الجماعية في مسألة تتعلق بتدبير شؤون الجماعة، قوله: <لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا>[11]، مما يدل على ترجيح وتفضيل القيادة الجماعية التي تقوم على التضامن والتشاور بين رؤساء الجماعة على القيادة الفردية المستبدة، في اتخاذ كافة التدابير الأمنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية ونحوها.

فقد سأل موسى الكليم (عليه السلام) ربه العظيم أن يجعل أخاه هارون  (عليه السلام) وزيراً له، يشاركه في النبوة والرسالة والنهوض بأعباء القيادة، قوله: <وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي 29 هَارُونَ أَخِي 30 اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي 31 وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي 32 كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا 33 وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا 34 إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا>[12]، وذلك لأنه كلف بمهمتين رئيسيتين، وهما: التبليغ بالدين الإلهي الحنيف، وتكوين الأمة المسلمة. مما يدل على الأهمية العظيمة للقيادة الجماعية للأمة أو الجماعة المؤمنة؛ للوصول بها إلى شاطئ النجاة وتحقيق الأهداف والغايات لوجودها في الحياة، وأن مسألة القيادة لا يجوز أن تترك للصدف، بل يجب أن تكون طريقة اختيارها وتعيينها وصلاحياتها محدودة بشكل واضح لا يقبل اللبس والاختلاف حولها في الدستور، وأن كفاءة القيادة العليا وعظمتها وكرامتها وعلو شأنها لا يعني الاستغناء عن التشاور والقيادة الجماعية أو الجماعة المؤمنة الصالحة.

فإن موسى الكليم (عليه السلام) نبي عظيم من أولي العزم ومسدد بالوحي والتنزيل، ومع ذلك لم يستنكف ولم يتجاهل أهمية التشاور والقيادة الجماعية، وقد أمره الله سبحانه وتعالى على ذلك، وتعامل مع موسى الكليم وهارون  (عليهما السلام) كشريكين في الرسالة والقيادة لبني إسرائيل، وخاطبهما بما يثبت ذلك ويعززه على أرض الواقع بدون أن يلغي ذلك تقدم موسى الكليم على هارون  (عليهما السلام) وإمامته له، فالقيادة الجماعية لا تعني أبداً نفي ذلك، بل تتطلبه قطعاً وحتماً، ومما يرشد المؤمنين الأعزاء إلى ترك الاستبداد والحذر الشديد من التفرد بالقيادة، فتلك رذيلة خلقية تدل على الأنانية المفرطة وتضخم الذات والإعجاب بالرأي، وتضر بالإخلاص، وتنتقص من المصداقية، وكل من لازمته ليس جديراً بالقيادة الرشيدة الصالحة، فيبقى على المؤمنين الأعزاء التوجه نحو العمل الجماعي المشترك، والأخذ بالقيادة الجماعية التي تقوم على الترابط والتضامن والإخلاص والتشاور بين رؤساء الأمة أو الجماعة وزعمائها، مع التنبيه إلى ضرورة التقيد والالتزام بشروط العمل الجماعي والقيادة الجماعية، وأهمها:

أ.   أن يكون على رأس القيادة الجماعية «مجلس القيادة» قائداً أعلى، يمتلك الكفاءة الفكرية والروحية والمهنية، ويتمتع بصلاحيات تمكنه من الاضطلاع بالمهام الموكلة إليه، وتتناسب معها في الكم والنوع، على قاعدة: «لا مسؤولية بدون صلاحيات تناسبها وتتكافئ معها»، وأن يكون مطاعاً ومحترماً ومقدّراً بين أعضاء مجلس القيادة، فالقيادة الجماعية لا تعني أبداً التساوي في الدرجة «الرتبة» والصلاحيات، لقد كان موسى الكليم وهارون  (عليهما السلام) شريكين في النبوة والرسالة والقيادة وفي نفس الوقت كان موسى الكليم إماماً لهارون  (عليهما السلام) ومتقدماً عليه، وكان هارون  (عليه السلام) خاضعاً لإمامة وقيادة موسى الكليم (عليه السلام) ومتبعاً له، بدون أن يضر ذلك بشراكتهم في النبوة والرسالة والقيادة، وتصور التساوي في الرتب والصلاحيات بين أعضاء القيادة الجماعية من الوهم والجهل والضلال.

ب. أن تحافظ القيادة الجماعية على وحدتها وانسجامها وتناغم أعضائها فيما بينهم وعلى قوة تماسكها وتضامنها، وأن لا يتخلى بعضهم عن بعض لا سيّما في وقت الشدائد، ويعتبر الاحترام والتقدير والاعتبار المتبادل شرط لابد منه؛ لتحقيق ذلك، وهو حق ومن لوازم الأخلاق الحميدة التي يجب أن يتحلى بها أعضاء مجلس القيادة، ومن فقدها وضيعها فَقَدْ فَقَدَ الأهلية والصلاحية للقيادة.

ج. أن يتجنب القائد الأعلى وجميع أعضاء مجلس القيادة الاستبداد والخيلاء وإعجاب كل برأيه، فإنها من الانحرافات النفسية والرذائل الأخلاقية والمهلكات العظيمة التي تتنافى مع القيادة الرشيدة الصالحة عموماً والقيادة الجماعية خصوصاً، قول الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك»[13]؛ لأن كل من أعجب برأيه منعه ذلك من السؤال والاستفادة من غيره والاستشارة لهم، ويحمله على التعصب لرأيه وإن كان خطأ والاستبداد، ولا يسمع رأي من هو أعلم منه، وعليهم ترك التسرع في إصدار الأحكام والعجلة في اتخاذ القرارات وأن يأخذوا بالتشاور والروية وتقليب الأمور ودراستها بموضوعية ونزاهة قبل اتخاذ القرارات وإصدار الأحكام، لا سيما في المسائل والقضايا المصيرية والجوهرية والحيوية والرئيسية.

د.  أن تكون لديهم رؤية استراتيجية واضحة وسديدة قد تمت مناقشتها وتمحيصها بعناية فائقة، ولديهم خطط عملية وبرامج عمل واقعية فاعلة، يتحمل القائد الأعلى مسؤولية الإشراف على وضعها ومناقشتها وإقرارها ثم تنفيذها وتطبيقها، وأن يتحلوا بالجرأة والشجاعة التي تلامس الإمكانيات الفعلية المادية والبشرية والمعنوية للجماعة وتفعيلها ولا تقصر عنها.

هـ. أن يعتمدوا آليات محددة بدقة ومختارة بعناية؛ لإدارة التشاور «التداول» بينهم واتخاذ القرارات وإعلانها، بحيث يعلم كل عضو في مجلس القيادة بشكل واضح، كيف يدخل إلى القرار؟ وكيف يخرج به؟ وكيف يتم إعلانه؟

و.  أن يلتزم كل عضو من أعضاء مجلس القيادة بتنفيذ جميع القرارات كما هي عليه بصدق وإخلاص، وأن يتضامنوا جميعاً في تنفيذها والمسؤولية عنها، ويستنفذوا جميعاً وسعهم وطاقتهم في عملية التنفيذ والتطبيق، وأن يلتزم كل عضو من أعضاء مجلس القيادة بتنفيذ المهام والواجبات الموكلة إليه من القائد الأعلى، وأن يخلص في القيام بها ويحرص تمام الحرص على أدائها كما هي عليه على أحسن وأكمل وجه، وأن لا يتجاوز حدوده ولا يتخطى صلاحياته ولا يزاحم غيره فيما خول فيه. ويجب تفعيل المحاسبة من قبل القائد الأعلى لجميع أعضاء مجلس القيادة، وعدم التساهل مع التقصير والتراخي في تنفيذ القرارات والواجبات والمهام ومع الأخطاء غير المبررة لا سيما الأخطاء الجسمية، ويجب على الأعضاء تقبل ذلك بروح رياضية، ويعد ذلك دليل على الصدق والإخلاص والمصداقية وشرط لا بد منه للانضباط والنجاح والوصول إلى تحقيق الأهداف والغايات والمقاصد للأمة أو الجماعة.


المصادر والمراجع

  • [1]. يونس: 87
  • [2].نفس المصدر
  • [3]. نفس المصدر
  • [4]. نفس المصدر
  • [5]. العنكبوت: 25
  • [6]. يونس: 87
  • [7]. تفسير القمي، جزء 1، صفحة 315
  • [8]. الشرح: 5-6
  • [9]. الطلاق: 7
  • [10]. يونس: 87
  • [11]. نفس المصدر
  • [12]. طه: 29-35
  • [13]. جامع السعادات، جزء 1، صفحة 284
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الأول | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟