مواضيع

عناد فرعون وقومه واستكبارهم على الحق

<فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِیةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ یَفْتِنَهُمْ وَإِن فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِی الأرض وَإِنهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِین>

رغم كل ما جاء به موسى الكليم (عليه السلام) من عند ربه من البينات الظاهرات الواضحات والمعجزات النيرات الباهرات والبراهين الساطعة القاطعة الدلالة على صدق نبوته ورسالته وعدالة قضيته وشرعية مطالبه الإصلاحية الدينية والسياسية والحقوقية بحيث لا تترك لأحد حجة ولا عذر، فإن فرعون الطاغية وملأه المستكبرين المارقين الفاسدين المعاندين لم يؤمنوا، واستمروا على ما كانوا عليه من الكفر والظلم والطغيان والعصيان.

أما قومه الأقباط فلم يؤمن منهم سوى نفر قليل، وهم حزقيل مؤمن آل فرعون وزوجته، وآسية بنت مزاحم زوجة فرعون وابنتها وماشطتها ووصيفتها، وشخص يسمى حارثة، وقيل: هو خازن فرعون. وامرأته، وقيل: طائفة من شباب قوم فرعون، كانت أمهاتهم من بني إسرائيل وآباؤهم من الأقباط، فاتبعوا أمهاتهم في الإيمان بنبوة موسى الكليم (عليه السلام) ورسالته، وقد آمنوا وصبروا وثبتوا على إيمانهم، وهم على خوف شديد من فرعون وحزبه الشياطين المفسدين في الأرض من الأشراف وكبار المسئولين والموظفين المدنيين والعسكريين من أن يعذبوهم وينكلوا بهم ويضعوا أمامهم العراقيل والصعوبات بغية أن يصرفوهم عن دينهم الحق، ويعيدوهم إلى دين الدولة الرسمي، قوله تعالى: <فَمَا آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ>[1].

وقيل: المراد بذرية من قومه، هم ذراري بني إسرائيل، وهم قوم موسى الكليم (عليه السلام)؛ لأن موسى الكليم (عليه السلام) دعا الآباء من قومه، فلم يجيبوه خوفاً من فرعون وقومه\ ولأنهم قد تربوا على الكفر والعقائد الباطلة وجمدوا عليها، وتعودوا الخضوع لإرادة فرعون وقومه وحياة الذل والهوان والاستعباد، ولم يكونوا متحمسين للثورة عليها. ودعا الأبناء فآمنوا به وصدقوه واتبعوا سبيله في التوحيد والثورة والتحرير، كما هو دأب الشباب دائماً في كل قوم وملة في العالم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا، حيث يقبلون الحق والعدل والفضيلة والصلاح والتغيير ويتحمسون له؛ لما يتمتعون به من الطهارة الروحية وصفاء ولين القلب، وضعف التعلق بعالم الدنيا والمادة والمصالح، وتطلعهم إلى المستقبل الأفضل الواعد، وفراغهم من الحسابات المعقدة في المصالح والحياة والموت، فليست لهم أموال وثروات ضخمة يخافون فقدانها، ولا جاه أو منصب أو مقام يخافون ضياعه من أيديهم أو نحو ذلك، ولهم میل للبطولة وكامل الاستعداد للتضحية والفداء.

أما الشيوخ وكبار السن الذين تربوا على الكفر والعقائد الباطلة وجمدوا عليها، وتعودوا حياة الذل والهوان والاستعباد، وفقدوا الحماس للثورة من أجل تغييرها، وكونوا الثروات والعوائل، وأصبحت لهم مصالح كثيرة في الحياة لا سيما الأشراف وأصحاب المناصب والوظائف العليا والمقربين من السلطة، الذين ارتبطت مصالحهم بمصالح السلطة وتشابكت معها، فهؤلاء يحسبون الأمور ويقيسونها بالميل لحساب مصالحهم وحفظ مكانتهم، ويتقربون إلى الحاكم المستبد بكل وسيلة، ويتظاهرون له بالولاء والنصح، ويخشون غضبه وسخطه عليهم، فهم يقدمون رِجلاً ويؤخرون أخرى؛ خوفاً على مصالحهم ويراوغون ويخادعون، ومن دأبهم أنهم يتأخرون حتى تتضح النتائج وتظهر بوضوح وجلاء، ويطمئنون على أنفسهم ومصالحهم التي يعيشون من أجلها ولا يرون لأنفسهم قيمة بدونها، فإذا اتضحت وتبين لهم أن الإيمان يصب في مصلحتهم آمنوا أو تظاهروا بالإيمان.

وقد مارس هؤلاء الجهلة مختلف الضغوط على الشبان والمستضعفين وآذوهم، ووضعوا أمامهم العراقيل والصعوبات برجاء إرجاعهم عن دينهم الحق إلى الدين الفرعوني الرسمي للدولة خوفاً منهم من مؤاخذة لهم ومعاقبتهم بجرم الذين آمنوا من قومهم، كما هو دأب الفراعنة المتكبرين والحكام المستبدين وقوى الاستكبار العالمي بأخذ كل القوم بجريرة البعض، فيفدوا أنفسهم أو تضيع مصالحهم.

وقيل: المراد بالذرية، هم بنو إسرائيل كلهم، سماهم ذرية؛ لأنهم جميعاً من نسل إسرائيل «يعقوب» (عليه السلام)، وأراد التصغير لقلتهم بالقياس إلى كثرة الأقباط «قوم فرعون»، وكان أبوهم يعقوب (عليه السلام) قد دخل بهم إلى أرض مصر في عهد حكومة ولده يوسف الصديق (عليه السلام) فيها، في القرن الثامن عشر «18» قبل الميلاد، وكانوا اثنين وسبعين فرداً، وأصبحوا في عهد موسى الكليم (عليه السلام) في القرن الثالث عشر «13» قبل الميلاد ستمائة ألف فرداً تقريباً.

وقيل: إن الذين آمنوا من بني إسرائيل قبل مبارزة السحرة لموسى الكليم (عليه السلام) هم الشبان والضعفاء، آمنوا وهم خائفون من فرعون وملئه ومن الأشراف وأصحاب المصالح والمنافع الانتهازيين من بني إسرائيل، الذين لا يفكرون إلا في أنفسهم ومصالحهم، وكانوا يناصرون فرعون ويتآمرون معه على المؤمنين والمستضعفين من قومهم، ويمنعونهم من الإيمان والمعارضة للنظام، كما هو دأب هذه الفئة الأنانية الفاسدة في كل قوم وملة في كل عصر ومصر، فقد اضطهدوهم وعذبوهم، ووضعوا أمامهم العراقيل والصعوبات؛ ليجبروهم على الارتداد عن الدين الإلهي الحق، وإرجاعهم إلى الدين الفرعوني الرسمي للدولة، وترك المعارضة للنظام والثورة عليه، وإرجاعهم إلى أحضانه والولاء إليه، والخضوع لإرادة الملك واتباعه وطاعته.

أما الشيوخ وكبار السن لا سيّما الأشراف والأعيان من بني إسرائيل الذين تربوا على الكفر والعقائد الباطلة وجمدوا عليها، وتعودوا على حياة الذل والهوان والاستعباد، وفقدوا الحماس للثورة عليها، والذين كانت تربطهم مع النظام الفرعوني ورموزه وتياراته مصالح ضخمة، فقد تأخر إيمانهم إلى ما بعد المبارزة وظهور نتائجها الحاسمة لصالح موسى الكليم (عليه السلام)، إذ اطمأنوا على رجحان كفة موسى الكليم (عليه السلام)، وتأكدوا أن مصلحتهم في الإيمان به ومتابعته، فآمن بعضهم به عن اعتقاد وقناعة، وخضع بعضهم للأمر الواقع وتظاهر بالإيمان؛ حفاظاً على مصالحهم ومكانتهم الاجتماعية بين بني إسرائيل.

وأيّاً كان المراد من الذرية من فرعون، أو الشبان والمستضعفين من بني إسرائيل، أو بني إسرائيل كلهم، فقد كان خوف هؤلاء المؤمنين من فرعون وحزبه القساة خوفاً في محله، ولأسباب واقعية؛ لأنهم قلة، وإمكانياتهم ضئيلة بالقياس إلى كثرة قوم فرعون وإمكانياتهم الضخمة؛ ولأن فرعون كان حاكماً مستبداً وظالماً ومتسلطاً على أرض مصر وأهلها من دون إرادتهم، ويعد من أكثر الفراعنة قهراً لأبناء الشعب وطغياناً وعدواناً وكفراً، وكان شديد القسوة والبطش، ويمتاز بالعتو والبغي والتكبر والغطرسة والاستعلاء على الخلق، قول الله تعالى: <إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْض>[2]، وقد ثبت بالحس والتجربة إِسرافه في الكفر والبغي والظلم والاستبداد والطغيان والعصيان وإظهار الفساد والشر في الأرض، وقتل المعارضين للنظام وتشريدهم وسجنهم وتعذيبهم والتضييق عليهم في معيشتهم وأرزاقهم، والتمييز ضدهم، وتنويع العقوبات والتنكيل بهم بدون حد أو رحمة، وادّعى الألوهية والربوبية بغير حق وعلى خلاف العقل والمنطق، واسترق أبناء الأنبياء الكرام (عليهم السلام) واستعبدهم وأذلهم وأهانهم بغير حق، وأعلن العداوة الصريحة والبغضاء والمحاربة لموسى الكليم (عليه السلام) وقومه والمؤمنين به، قوله تعالى: <وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِين>[3]، فحقيق بالمؤمنين أن يخافوا بطشه وقوته؛ لما يتوقعوه منه من المبالغة في إيذائهم والانتقام منهم إذا علم بإيمانهم.

وفي الآية الشريفة المباركة عذر لهم فيما أظهروه من الخوف الشديد من فرعون وملئه؛ لما كان عليه فرعون وملؤه من الظلم والجور والبطش والقسوة والتنكيل بالمعارضين، في حال كونهم خائفين لأسباب واقعية في وقت كانوا مستضعفين، وكان فرعون بما يتصف به من القسوة والشدة قادر عليهم ومتمكن من إيذائهم، فلم يمنعهم ذلك من الإيمان والثبات عليه والصمود أمام التهديدات والوعيد الفرعوني، مما يدل على أن الخوف في مثل هذه الحالات أمر طبيعي ولا ينافي الصدق في الإيمان بشرط أن يقترن بالثبات، ولا يؤدي إلى التراجع والتخلي عن التكليف الإلهي والقيام بما يجب القيام به من الأعمال وتحمل المسؤوليات العامة والخاصة الواجبة.


المصادر والمراجع

  • [1]. يونس: 83
  • [2]. نفس المصدر
  • [3]. نفس المصدر
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الأول | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟