تمادي فرعون وملئه في الغي والاستكبار
لقد وصل إلى فرعون وملئه وقومه الأقباط الحق الحقيق الواضح الصريح من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، الذي خضعت لعظمته وكبريائه السماوات والأرضين ومن فيها، على يد ولي الله الناصح كليم الرحمن موسى بن عمران (عليه السلام)، وأقام عليه الدليل القاطع الذي لا يقبل الشك والريب والتردد عن طريق تظاهر المعجزات النيرات الباهرات القاهرات، التي جعلها الله تبارك وتعالى حجة على خلقه وآية لرسالته، فلم يكتفوا بالإعراض عنها وتكذيبها وردها، بل عمدوا إلى الكذب والافتراء وقلب الحقائق رأساً على عقب، وتوجيه الاتهامات الباطلة بدون حجة أو دليل، فوصفوا الآيات والمعجزات لفرط خبثهم وعنادهم وتمردهم وضعف منطقهم بالسحر المبين، أي: الواضح حقيقةً كونه سحراً وليس شيئاً غير السحر، فجعلوا الحق الظاهر وهو المعجزة في منزلة الباطل الظاهر وهو السحر، وأن موسى الكليم (عليه السلام) قد جاء به لأهداف دنيوية، سياسية واقتصادية، وهي قلب نظام الحكم في الدولة بالمكر والخديعة والسيطرة على الحكم والثروة والمقدرات في البلاد، وقد فعلوا ذلك؛ لأنهم لم يمتلكوا وسيلة لمقاومة جاذبية الرسول والرسالة، وتأثير المعجزات والبينات التي أخذتهم أخذاً عظيماً بصورة محيرة سوى هذا الوصف الباطل في مجتمع يؤمن بالسحر ويعطيه أهمية كبيرة في الحياة العامة والخاصة، وتسيطر عليه الدكتاتورية والاستبداد التي تسلب الحرية وتفسد الفكر والمنطق والطباع والأخلاق.
والوصف، يدل على عظيم تأثير الرسالة والرسول والمعجزات على الناس، وخطرها البالغ على النظام الفرعوني الفاسد والدولة الجائرة وسلطة الملك الخائن للرعاية والأمانة، فاضطروا إلى مواجهتها بالكذب والافتراء. مما يدل على أن الطواغيت الضالين والفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين الظلمة لا يكتفون بالإعراض والرفض في صراعهم ومواجهتهم لأئمة الحق وقادة الإصلاح والثورة والمطالبين بالحقوق الواقعية المشروعة، بل يعمدون إلى الكذب والافتراء وقلب الحقائق رأساً على عقب؛ لتشويه صورة المصلحين والثوار والمطالبين بالحقوق وسمعتهم، واللجوء إلى العنف والإرهاب، مثل: القتل، والسجن، والتعذيب، والتشريد؛ لتغييبهم وإسكات أصواتهم، وذلك لأسباب عديدة منها:
1. السعي لإقناع أنفسهم بصحة مواقفهم العدائية من الصالحين والمصلحين والثوار والمطالبين بالحقوق، فهم لا يكتفون بالكذب على الناس وخداعهم وتضليلهم، بل يكذبون على أنفسهم ويخدعونها ويضللونها، فهم أعداء أنفسهم بحق وحقيقة؛ لأن المواقف في جميع الأحوال لا تنفصل عن الفكر والعقيدة، فإن لم تكن للإنسان قناعة حقيقية، أوجد لنفسه قناعات زائفة؛ ليبرر بها سلوكه ومواقفه المنحرفة عن الفطرة والصراط الإنساني المستقيم.
2. أن القضايا والمسائل التي طرحها موسى الكليم (عليه السلام)، مثل: عقيدة التوحيد، وتحرير بني إسرائيل، ليست مسائل نظرية بحتة لا علاقة لها بواقع الحياة، بل هي مسائل نظرية فكرية وعقائدية، مثل: عقيدة التوحيد، تترتب عليها نتائج عملية في واقع الحياة، تمس النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني والثقافي الذي تقوم عليه الدولة الفرعونية، وقضايا عملية مباشرة، مثل: تحرير بني إسرائيل، وتمس السلطة، والأوضاع الأمنية، ومصالح القائمين على السلطة والموالين إليها، وتمس الامتيازات التي يتمتعون بها في ظل النظام الفرعوني القائم على التمييز والتفاوت الطبقي، وعليه؛ اعتبرت هذه المسائل محور الصراع بين الطرفين، ولم تعالج معالجة فكرية ومنطقية، وإنما عولجت معالجة عملية، أمنية وسياسية وعسكرية، وكانت الدافع لدى فرعون وملئه وقومه لارتكاب الجرائم ضد الأبرياء والمؤمنين والأولياء الصالحين المطالبين بالإصلاحات الشاملة الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحقوقية وغيرها.
3. أن المحافظة على النظام القائم والدولة والمصالح لا تكفي من أجلها القوات العسكرية والأمنية، والاقتصاد ونحوها، بل تحتاج إلى الحاضنة الشعبية المؤمنة بها والموالية إليها، وهذه تتأثر بالعقل والمنطق والحقائق غالباً، ما لم يتم تضليلها وتعزيز حالة التعصب الديني والمذهبي والطائفي والعرقي لديها، وهذا يحتاج إلى عمل إعلامي وسياسي دؤوب يستهدف قلب الحقائق وتضليل الجماهير وإخفاء الحقائق عنها، وإضعاف منطقهم بالتعصب وإيجاد الحجب النفسية الكثيفة بينها وبين الحقائق، وما لم يفعل النظام ذلك فإن الجماهير تقبل الحقائق وتميل إليها وتتأثر بها بفطرتها، لا سيما وأن مصلحتها الحقيقية تكون في ذلك، ولا مصلحة حقيقية لها في النظام الدكتاتوري ومع الحاكم المستبد الأناني الظالم، مما يشكل تهديداً جدياً للنظام الدكتاتوري الفاسد والدولة الجائرة والحاكم المستبد الظالم، ويهدد بفقدان المصالح والامتيازات غير الواقعية وغير المشروعة.
وبناءً على ما سبق: فإن جميع الأنظمة الدكتاتورية والطاغوتية والفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين الظلمة في العالم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا يتعمدون دائماً قلب الحقائق، ويلجأون إلى ممارسة الكذب والخداع والتضليل ضد معارضيهم بشكل غير منطقي وغير عقلاني؛ لأن هدفهم الوحيد هو قلب الطاولة على الخصوم، ومنطق هذه السياسة هو اللامنطق، ومظلته الدكتاتورية والاستبداد والعنف والإرهاب، فلا ينفع معهم منطق، ولا قوة حجة أو برهان، ولا وضوح حقيقة، فالحقائق والحجج تحمل بشكل متعمد على أضدادها وما يخالفها في الظاهر والباطن، والبلاغة والشطارة والدهاء هي القدرة على ذلك بلا عقل أو ضمير.
وأدوات هذه السياسة هي الكذب والافتراء والاتهامات الباطلة، ونعت المعارضين بما ليس فيهم من أقبح النعوت والصفات وما هو مخالف لواقعهم وحقيقتها في النية والسلوك والمواقف والأهداف والغايات، ولا اعتبار لحق أو منطق أو قيمة أخلاقية أو دين أو مصلحة عامة أو نحو ذلك. فالغاية عندهم تبرر الوسيلة، والغاية عندهم هي شيطنة المعارضة وقلب الطاولة عليها وإحراجها، وتشويه صورة المعارضة وسمعتهم والقضاء عليهم، وتصفيتهم مادياً ومعنوياً من أجل المحافظة على النظام القائم الفاسد والدولة الجائرة والحكومة المستبدة والمصالح والامتيازات المحرمة، وتبرير الظلم والفساد ونحو ذلك.
فمن المحال أن يسلم المعارضون المصلحون من افتراءات الطواغيت الضالين الفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين الظلمة وأعوانهم الفاسدين المفسدين المعاندين المارقين عن الحق والعدل والخير والفضيلة من الإعلاميين وغيرهم، وأكاذيبهم التي يكيفونها بحسب مقتضيات الزمان والمكان والظروف، فاتهموا موسى الكليم (عليه السلام) بالسحر، ووصفوا الحسين سيد شباب أهل الجنة (عليه السلام) بالخارجي، وفي أيامنا يتهم المصلحون والمطالبون بالحقوق بالخروج على النظام والقانون والإرهاب والعمالة للأجنبي ونحو ذلك.
وهذا مما ينبغي على الشعوب الحية أن تنتبه إليه، وتكون على حذر شديد من الوقوع في وحله وشراكه وحبائله، فتظلم وتعادي وتحارب المخلصين الشرفاء، الذين يريدون لها الخير والحرية والازدهار، ويضحون بأنفسهم وأنفس ما يملكون من أجلهم.
وإنه لمن أكبر الخزي والعار والإهانة للعقل والفكر والثقافة أن ينحاز المثقف وأصحاب الفكر وحملة الشهادات العليا ونحوهم إلى الأنظمة الدكتاتورية، ويدافعون عن الحكومات المستبدة والحكام الظلمة، ويُسخرون أقلامهم وقدراتهم ومواهبهم لتبرير ظلمهم وفسادهم وجرائمهم ضد أبناء الشعب أو ضد شعب آخر تحت تأثير الخوف أو الطمع أو التعصب ونحو ذلك.
وإنه لشرف عظيم للمثقف الشريف المخلص الذي يتمتع باحترام الذات واحترام الضمير والعقل والثقافة أن يلقى الشهادة أو يزج به في السجون، ويتعرض للتعذيب والأذى وسوء المعاملة أو يشرد وينفى أو يضيق عليه في رأيه أو رزقه؛ بسبب آرائه التحررية الموضوعية، ومواقفة البطولية ضد الدكتاتورية والاستبداد ومحاربته للظلم والفساد وانحيازه إلى صفوف أبناء الشعب والمستضعفين.
ولكن المؤسف أن المثقف الخائب الرخيص لا يميز بين الخزي والعار وبين الشرف والمجد، أو لا يكترث بهذا التمييز ولا يعني له شيئاً ولا يقيم له وزناً؛ لفرط أنانيته واستغراقه في عالم الدنيا والمادة والمصالح الدنيوية الفانية، فيرتمي في أحضان الدكتاتورية والاستبداد، ويبيع نفسه لهم من أجل الوجاهة والمناصب والمصالح الدنيوية والامتيازات ونحوها، ويتوهم أنه يحصل على الشرف والشهرة والمجد، وهو في الحقيقة والواقع يحصل على الخيبة والخزي والعار والخسران المبين في مشاهدات أهل العلم والمنطق والفضيلة والبصيرة والعرفان، وأن سلوك هؤلاء المثقفين الخائبين لا يقل قبحاً وخيانةً ولا منطقية عن سلوك كبار الطواغيت والفراعنة والحكام المستبدين الظلمة إن لم يكن أكثر؛ لأن الطواغيت والفراعنة والحكام المستبدين باعوا دينهم وعقولهم وضمائرهم من أجل دنياهم، أما المثقفين الخائبين فقد باعوا دينهم وعقولهم وضمائرهم من أجل دنيا غيرهم!!
تعليق واحد