موقف فرعون وملئه الاستكباري من الرسالة
<فَلَما جاءَهُمُ الحَق مِن عِندِنا قالوا إِن هـذا لَسِحرٌ مُبين>
وكان موقف فرعون الطاغية وملئه المستكبرين وقومه الفاسقين المارقين من رسالة موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) هو التكذيب والاستكبار على الإيمان بالآيات واتباع الحق وأهله بدون حجة أو برهان ظلماً وعلواً بدل التصديق والإذعان بعد وضوح الحق وقيام الدليل القاطع الذي لا يقبل الشك والريب والتردد عليه، فلم يقبلوا بالآيات، ولم يتواضعوا لها، ولم يذعنوا لما اشتملت عليه من الدلالات القطعية الواضحة، وعلة ذلك أنهم لم يكونوا مستعدين للخضوع إلى رسولين من قوم مستضعفين، كانا تابعين لهم، وخاضعَين لإرادتهم، قول الله تعالى: <ثُم أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مبِينٍ ٤٥ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ٤٦ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ>[1].
وهذه النظرة المادية الاستعلائية من الكوارث التاريخية التي سنتها البشرية ولا زالت هي أحد أهم أسباب الظلم والطغيان، ونشر الفساد في الأرض، وتكذيب الرسالات، ورفض الحركات الإصلاحية الدينية والسياسية والحقوقية، وأحد أهم العقبات التي تواجه الرسل الكرام (عليهم السلام) والأولياء الصالحين وقادة الإصلاح في العالم، قول الله تعالى: <وَقَالُوا لَوْلَا نُزِلَ هَـذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ٣١ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم معِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيا وَرَحْمَتُ رَبِكَ خَيْرٌ مِما يَجْمَعُونَ>[2]، أي: قال الطغاة والجبابرة والمترفون بحسب منطقهم المادي الأعوج ونظرتهم الطبقية المنحرفة معترضين على اختيار الله تبارك وتعالى لمحمد بن عبدالله نبياً ورسولاً منه إلى عباده، لو كان القرآن منزلاً من عند الله سبحانه وتعالى حقاً لنزل على رجل عظيم من عظماء الدنيا، يمتلك المال والقوة والسلطة، وسيداً في قومه، مثل: الوليد بن المغيرة المخزومي من مكة، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف، وليس على محمد بن عبدالله الفقير الضعيف، الذي لا يملك المال والقوة والسلطة، حتى وإن كان له نسب شريف.
فبحسب منطقهم المادي ونظرتهم الطبقية الموروثة، فإن الرسالة الإلهية منزلة عظيمة، لا تنبغي إلا لرجل عظيم من أصحاب المال والقوة، وسيد في قومه، وأنه يجب أن يخضع الفقير للغني، ويكون تبعاً له وخاضعاً لإرادته، حتى وإن كان الغني جلفاً من الأجلاف في المعرفة والأخلاق، وكان الفقير عارفاً وولياً كريماً من الصالحين.
ويرد عليهم القرآن الكريم مستنكراً اعتراضهم وتحكمهم: أهم يعرفون مقامات الخلق ومكان الخير والفضيلة، ويملكون معيار العظمة ووزنها، ليكونوا هم المدبرين والمتولين لقسمة أمر النبوة والإمامة، التي هي وقف على الأكفاء وصفوة الأصفياء، فيختاروا لها من يشاؤون، ويحرموا منها من يريدون، بحسب أمزجتهم وأهوائهم ومعاييرهم ونظرتهم المادية في الحياة؟! والحقيقة أن النبوة منصب إلهي، ورتبة روحانية، تستدعي العظمة المعنوية، التي تقوم على المعرفة بالحقائق الإلهية، والتخلي عن الرذائل، والتحلي بالفضائل، والله سبحانه هو الأعلم بها من غيره. والنبي يبلغ عن الله سبحانه وتعالى، فهو لسانه وبيانه وعينه في خلقه، ووجهه الذي ينظر إليه الناس، فهل يريد هؤلاء الطغاة الأجلاف والمترفون أن يختاروا لله (عز وجل) من يبلغ عنه ويتكلم باسمه؟! بينما الواقع هو أن الله (عز وجل) يتولى قسمة الأرزاق والمعايش ويقدرها بينهم ويدبر أحوالها في الحياة بقدرته، وبحسب علمه وبمقتضى حكمته، ولم يفض تدبيرها إليهم؛ لأنهم عاجزون عن ذلك وغير مؤهلين له، ولو وكلهم إلى أنفسهم وولاهم تدبير أمرهم؛ لضاعوا وهلكوا. وأمر الرزق والمعاش أقل شأناً وأقل خطراً من النبوة والرتب والمقاسات الروحية والمعنوية، فكيف يجوز أن يفوضها ويترك أمر تدبيرها وقسمتها إليهم؟! وقد جعل الله تبارك وتعالى التفاوت بين الناس ولم يساوِ بينهم في القدرات، مثل: الذكاء، والعلم، والقوة، والشجاعة، والمال، والسلطة، ومايز بين منازلهم؛ ليستخدم بعضهم بعضاً في قضاء حوائجهم، وينتفع بعضهم من بعض، فيكون التفاوت بينهم سبباً لمعاشهم، ولقيام نظام الحياة، وتطورها وازدهارها. وقد قبلوا بذلك ولم يعترضوا علينا فيه، وجرت عليه الحياة، وقامت وازدهرت، فكيف يعترضون علينا في تدبير ما هو أعلى وأكثر أهمية، وهو أمر الدين والنبوة والرتب والمقاسات الروحية والمعنوية مع جلالة قدرها وعظم خطرها، وهي رحمة الله الكبرى ورأفته العظمى والطريق إلى حيازة حظوظ الآخرة.
وعليه: فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقسم فضله ونعمه المادية والمعنوية بينكم بالعدل، وبحسب استحقاق كل واحد منكم، وما فيه خيره وصلاحه، واعلموا بأن النبوة وقف على الأكفاء صفوة الأصفياء، وهي وسائر الرتب الروحية العالية وما أعده الله تبارك وتعالى لعباده الصالحين في الدار الآخرة، من الرضوان والنعيم المقيم خير مما يجمعه هؤلاء الطغاة والمترفون من حطام الدنيا الفانية من الأموال والأولاد والجاه والسلطة ونحوها من متاع الدنيا وزينتها وزخرفها، وفي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال: «جاع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الدنيا مع خاصته (يعني خصوصيته عند الله) وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته»[3].
وعليه: فإن كل من يزدري الفقير لفقره، ويكرم الغني ويوقره لغناه، فهو جاهل أحمق!! وكذلك الذي يعمل من أجل الشهرة والرياء والسمعة بدل الصلاح والإنتاج والجنة والرضوان، والذين يعملون بدون بصيرة ورؤية استراتيجية سديدة واضحة ولا مناهج عملية واقعية فاعلة، ويكتفون بالكلام الفارغ والشعارات الجوفاء ويحبون أن يمدحوا بما لم يفعلوا، ويمدحوا التخلف والدكتاتورية والاستبداد ويبررون الظلم والفساد ولا يعرفون حرمة للأولياء.
وكان موقف فرعون وملؤه الاستكباري من رسالة موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) إليهم دليلاً على أنهم كانوا يفصلون بين الحقائق الوجودية وبين كمال الإنسان وصلاحه وخيره وسعادته الحقيقية في الدارين الدنيا في دورتها الكاملة عرضاً وطولاً وفي الآخرة، وافتقارهم إلى المنطق السليم والمنهج القويم في عملية التفكير، وإلى الرؤية الواضحة السديدة عن الكون والإنسان والحياة، وتعلقهم المطلق بعالم الدنيا والمادة والمصالح الدنيوية الفانية، واتصافهم بالأنانية وحب الذات المتضخمة والعدوانية والطغيان والاستعلاء والاستكبار على الخلق، واغترارهم بالثروة والقوة والسلطة التي كانوا يتمتعون بها، واعتمادهم المطلق عليها، واعتبارها المرجع في تحديد مواقفهم والمعيار في الحكم على الأشخاص.
وعليه: فقد أصبحوا بحق وحقيقة قوماً مجرمين عاصين للعقل والمنطق، وخارجين عن الفطرة والطبع الإنساني السليم، وأصبح الإجرام دأبهم وخلقهم وصفة ملازمة لهم وحالة مستمرة معهم، وكان أصل استكبارهم على موسى الكليم (عليه السلام) ورسالته ونسبه، فلذلك لم يعبؤوا بالبينات والمعجزات التي جاء بها موسى الكليم (عليه السلام) من عند رب العالمين والحقائق الإلهية الوجودية التي كشفها بالعقل والمنطق والبرهان، فخالفوها وتهاونوا بها وتجرؤوا على ردها، ولم يقبلوها، وأصروا على الاستمرار على ما كانوا عليه من الكفر والظلم والجور والطغيان، والتمييز ضد بني إسرائيل واستضعافهم وإذلالهم وانتهاك كامل حقوقهم الطبيعية والمكتسبة، وذلك كله بسب فساد طبعهم وفطرتهم وضعف منطقهم؛ ولأنهم لا يتوفرون على الرؤية الكونية السديدة الواضحة، التي تهذب تفكيرهم وأخلاقهم، وتقودهم إلى الحق والعدل والخير والفضيلة، ولا الرؤية التاريخية التي تعيدهم إلى رشدهم، وتضبط مواقفهم العامة في الحياة، ولا توجد لديهم قوة داخلية تردعهم عن الجريمة والخيانة بالغيب، مع غياب القوة الرادعة الخارجية، فأصبحوا مجرمين بحق وحقيقة في الظاهر والباطن، في ذواتهم وسلوكهم ومواقفهم، وأصبحوا مستحقين للعذاب الإلهي المؤلم في الدارين الدنيا والآخرة.
والآية الشريفة المباركة دليل على أن كل من يستنكف عن قبول الحق والرضوخ له بدون حجة أو دليل مجرم بحق وحقيقة، ويتعدى إجرامه الباطن ليسري إلى الظاهر في سلوكه ومواقفه وعلاقاته، وهو يستحق العقاب الإلهي المؤلم في الدارين الدنيا والآخرة.