مواضيع

استخلاف بني إسرائيل في الأرض

<وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُون>

لما عاند فرعون وقومه المستكبرون الفاسقون وكابروا واستكبروا على الحق وأهله، ولم يستفيدوا من الآيات النيرات والمعجزات الباهرات والبينات الواضحات والبراهين الساطعة القاطعة والمواعظ البليغة والنصائح الصادقة التي جاء بها الولي الناصح موسى بن عمران الكليم (عليه السلام) من عند رب العالمين، وأصروا على الكفر والظلم والجور والطغيان واستضعاف بني إسرائيل، وإذلالهم والتمييز ضدهم، ونشر الفساد في الأرض، وسلب بني إسرائيل حقوقهم الطبيعية والسياسية في الحياة، مثل: حقهم في الحياة، وحرية العقيدة والضمير، وممارسة الشعائر الدينية، والمشاركة الفعلية في صناعة القرار، وتقرير المصير، وحقهم في الإقامة والسفر والهجرة، ونحو ذلك، أخذهم الله (عز وجل) أخذ عزيز مقتدر وانتقم منهم، بالعقاب الذي استحقوه، بأن أغرق فرعون الطاغية والذين كانوا معه من جيشه وخاصته وأعوانه وأنصاره الذين خرجوا معه لملاحقة موسى الكليم (عليه السلام) وقومه الإسرائيليين والذين آمنوا معه الذين باشروا الخروج من مصر متوجهين إلى الأرض المقدسة فلسطين؛ لكي يعبدوا الله ربهم بحرية كما يشاؤون، في أمن وسلام.

وأهلك الكثير من قومه الأقباط الذين تخلفوا عن الخروج معه، ودمر ما كان في أيدي من تبقى منهم من الإمكانيات والقدرات المادية والاقتصادية في سكنهم بعوامل طبيعية، مثل: الزلازل والطوفانات ونحوها؛ لئلا تبقى لهم الفرصة لإعادة بناء قوتهم، واستعادة شوكتهم، ثم يعيدوا الكرة على بني إسرائيل، وينتقموا منهم؛ لسبب ما حل بسلفهم، يقول آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: «أن جميع الفرعونيين لم يغرقوا في النيل، بل غرق فرعون وجماعة من خواصه وعسكره، الذين كانوا يلاحقون موسى (عليه السلام)، ومن المسلم أنه لو بقيت تلك الثروات العظيمة والإمكانيات الاقتصادية الهائلة بيد من بقى من الفراعنة، الذين كان عدد نفوسهم في شتى نواحي مصر كثير جداً؛ لاستعادوا بها شوكتهم، ولقدروا على تحطيم بني إسرائيل أو إلحاق الأذى بهم على الأقل»[1]، ليتوصل من ذلك إلى حدوث عوامل طبيعية ضخمة، مثل: الزلازل والطوفانات ونحوها، أهلكت الكثير من قوم فرعون الأقباط، وقضت على ثرواتهم وممتلكاتهم وإمكانيتهم المادية والاقتصادية الضخمة في مناطق سكنهم، وأضعفت معنوياتهم وكسرت شوكتهم، وقضت بشكل كامل على فرصة إعادة بناء قوتهم، واستعادة شوكتهم، وإعادة الكرة على بني إسرائيل، للانتقام منهم؛ ليكون بنو إسرائيل في أمن كامل وسلام من شرهم وأذاهم.

وبذلك أنقذ الله (عز وجل) بني إسرائيل وخلصهم تماماً من ظلم فرعون وقومه وأذاهم، غيرة منه على عباده المؤمنين ونصرتهم، وفتح أمامهم الطريق للإيمان والهجرة إلى الأرض المقدسة ليعبدوه بحرية كاملة، كما يشاؤون في سلام وأمن وأمان، وبناء دولتهم، وأورثهم بعد الذل والمهانة والاسترقاق والسجون وذبح الأبناء والاستضعاف من جميع النواحي، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية والفكرية والدينية، والتمييز ضدهم أمام القانون والقضاء، وبعد طول رزوحهم تحت نير العبودية والأسر، والاستخدام في الأعمال الشاقة والوضيعة، في سبيل مآرب الأقباط ومصالحهم، أورثهم أرضهم الواسعة العريضة مصر وفلسطين وأرض الشام كلها، لا سيما فلسطين «الأرض المقدسة»، التي أفاض عليها الله الرب القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخيرات والبركات والمنافع العظيمة المادية، مثل: الخصوبة العظيمة التي كانت تتمتع بها، والعيون والأنهار والمياه الكثيرة، والأشجار والنباتات والنخيل الباسقات، وكثرة الثمار والإنتاج على أتم وأنفع ما يكون، وكثرة الأموال والأرزاق الواسعة والعيش الرغد الكريم، والعمران الواسع الكثير، ونحو ذلك، والمنافع المعنوية، مثل: النبوة والإمامة، والأماكن المقدسة، بأن مكنهم فيها من السلطة، والثروة، والمقدرات، وتمت بذلك كلمة الرب الجليل، الفائقة في الحسن والجمال والخير على بني إسرائيل، وهي ما وعدهم به ربهم من إهلاك عدوهم، واستخلافهم بدلاً منه، وتمكنهم في الأرض، قول الله تعالى: <قالَ موسى لِقَومِهِ استَعينوا بِاللـهِ وَاصبِروا إِن الأَرضَ لِلـهِ يورِثُها مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ وَالعاقِبَةُ لِلمُتقينَ ١٢٨ قالوا أوذينا مِن قَبلِ أَن تَأتِيَنا وَمِن بَعدِ ما جِئتَنا قالَ عَسى رَبكُم أَن يُهلِكَ عَدُوكُم وَيَستَخلِفَكُم فِي الأَرضِ فَيَنظُرَ كَيفَ تَعمَلونَ>[2]، بأن أخرج ذلك الوعد الإلهي الجميل الصادق من مرحلة القوة والبطون والاستعداد إلى مرحلة الفعلية والظهور.

ووصف الكلمة (الْحُسْنَىٰ) في قوله: <وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ>[3] لأنها توافق ما يحبه بنو إسرائيل، وما فيه خيرهم وصلاحهم وسعادتهم في الدارين الدنيا والآخرة، وتوافق الإرادة الربانية العليا والحكمة والإلهية البالغة، قول الله وتعالى: <وَنُرِيدُ أَن نمُن عَلَى الذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ>[4].

وبين الله تبارك وتعالى علة تلك النتيجة والعاقبة الحسنة الممدوحة، أنها بسبب صبرهم على الجهاد في سبيل الله (عز وجل)، وتحملهم للشدائد، وثباتهم أمام المحن العظيمة، وما ألحقه بهم فرعون الطاغية وقومه الفاسقون المستكبرون من الأذى والسوء، واستمرارهم في المقاومة، وعدم الخضوع لإرادة فرعون وقومه واستسلامهم لمشيئتهم المشؤومة وقبولهم بحكم الأمر الواقع، قوله تعالى: <وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا>[5]، هذا يدل على أمور عديدة مهمة، منها:

1. عجيب صنع الله (عز وجل)، وعظيم قدرته، وحسن تدبيره ولطفه فيما يشاء ويريد؛ إذ جعل النيل الذي هو سبب ما فيه الفراعنة من القوة والرخاء والازدهار سبباً لهلاكهم واستئصالهم وإزالتهم من الوجود، ورفع الوضيع المستضعف على الرفيع المستكبر، ونصره عليه، ومكنه منه، وأورثه أرضه وماله وثروته وسلطته ومقدراته، وهذا التحول العظيم المفاجئ في ميزان القوى، لا يستطيع إحداثه إلا ذو القوة المتين.

2. أن الله (عز وجل) ينصر المستضعفين على الفراعنة المتجبرين؛ شريطة أن يصبر المستضعفون، ويتحملوا، ويثبتوا، ولا يستعجلوا النصر قبل أوانه، ويستمروا في المقاومة، ولا يستسلموا لإرادة المستكبرين والحكام والمستبدين، ولا يقبلوا بما يفرض عليهم من حكم الأمر الواقع، فإن من يستسلم للظلم والطغيان كائن حقير، ضعيف الإيمان واليقين والثقة بالله (عز وجل)، ولا يستحق العون والنصر الإلهي، وأن حصوله على العون والتسديد والتأييد والنصر الإلهي مخالف للحكمة الإلهية البالغة، وفلسفة وجود الإنسان الذي حمل مسؤولية التكليف الإلهي، وتميز بين الكائنات في عالم الوجود بالعقل والإرادة والاختيار، ويتربى ويتكامل بالعلم والعمل، ومن العمل الجهاد في سبيل الله (عز وجل) ومدافعة الظالمين ومقاومتهم، وعدم الاستسلام إليهم، والسعي الدؤوب والعمل الحثيث؛ لإقامة دولة العدل الإلهي والحكم الرشيد، وتحقيق أهداف الخلافة الإلهية، المعرفية والتربوية والحضارية للإنسان في الأرض.

وقيل: أن لفظ ربك في عبارة <وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ>[6]، تدل على العموم، بمعنى: أن الذي حقق النصر لموسى الكليم (عليه السلام) وبني إسرائيل على فرعون الطاغية وقومه المستكبرين الفاسقين رغم كل ما كان عليه بني إسرائيل من الضعف وقلة الإمكانيات، وما كان عليه فرعون وقومه من السلطة والقوة وما كان لديهم من الإمكانيات المادية والبشرية الضخمة والهائلة جداً، هو ربك يا محمد ورب جميع المؤمنين والعالمين، وهو سينصرك والمؤمنين والمستضعفين إذا قمتم بما يجب عليكم القيام به، من التخطيط، والعمل، والمقاومة، والصبر، والثبات، كما نصر موسى الكليم (عليه السلام) وبني إسرائيل؛ لأنه الرب الحكيم الرحيم القادر على كل شيء، وهذه سنته وصنعه في الخلق، فكل شعب مؤمن ومستضعف ينهض ويحاول تخليص نفسه ونيل حقوقه، ويتحلى بالصبر والثبات والتحمل على طريق الكرامة والمقاومة، ويقوم بما يجب عليه القيام به من التخطيط والعمل الجماعي، ولا يستعجل النصر قبل أوانه، فإنه ينتصر في نهاية المطاف حتماً.

وفي الآية الشريفة المباركة دليل على فضيلة الصبر والتحمل والثبات، وأن الصابر صائر إلى النصر وتحقيق الأمل، وبشارة للمؤمنين الصابرين المجاهدين بحسن العاقبة في الدارين الدنيا والآخرة، وإنذار للظالمين والحكام المستبدين بزوال ملكهم وسوء العاقبة في الدارين الدنيا والآخرة.

وبالانتقام الإلهي العظيم من فرعون وقومه الظالمين الفاسدين المستكبرين في الأرض بغير الحق، تم هلاك معظهم واستئصالهم وزوالهم من الوجود، وانتهت دولتهم وتحطمت قدرتهم وانكسرت شوكتهم وذهب مكرهم وكيدهم وتدبيرهم أدراج الرياح، وخسروا الملك والثروة، وخسروا حياتهم وكل ما بنوه في قرون عديدة وشيدوه لأنفسهم وأجيالهم من الأبنية الشامخة المزخرفة والعمارات الضخمة والقصور الفخمة والمزارع والبساتين والمصانع، وما جمعوه من ثروات هائلة حيث انتهت إلى الخراب والدمار والزوال، وخسروا الآخرة وما أعده الله تبارك وتعالى فيها للصالحين من النعيم المقيم الذي لا زوال له ولا اضمحلال، واستبدلوه بالعذاب العظيم والشقاء الحقيقي الكامل الأبدي، بسبب تكذيبهم بآيات الله (عز وجل)، وإصرارهم على الكفر والظلم والطغيان والاستضعاف والإذلال لبني إسرائيل، والتمييز ضدهم، ونشر الفساد في الأرض، وهذا هو الخسران المبين الذي ينتظر كل فرعون متجبر، وحاكم مستبد ظالم ومترف مستغل وانتهازي أناني ونفعي فاسد وكل خائن للأمانة؛ لأن هذه النتيجة والعاقبة السيئة المذمومة تعبر عن الإرادة الربانية العليا التي تعلو ولا يعلى عليها أبداً في تدبير المسيرة التاريخية التكاملية للإنسان على وجه الأرض.

وبهذه النتيجة انتهت عمارة آل فرعون إلى الخراب، ونعيمها إلى العذاب والشقاء الأبدي الكامل بما ظلموا، وفيها عبرة بالغة لقوم يفقهون ويتعظون، ويستفيدون من التجارب، ولا يصرون على الخطأ، ولا يكابرون بغير وجه حق تحت تأثير غرور السلطة والقوة والثروة. إلا أن التجارب التاريخية والمعاصرة أثبتت بأن الفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين المارقين، لضيق أفقهم وشدة تعلقهم بعالم الدنيا والمادة والمصالح الدنيوية العاجلة الفانية، ولغرورهم البالغ بالسلطة والقوة والثروة، واعتمادهم الكلي عليها، وانفصالهم عن الواقع والحقائق والسنن والمنطق والثروة، فإنهم غالباً لا يفهمون دليلاً أو حجة، ولا يتعلمون من التجارب، ولا يتعظون بالعبر والآيات، ولا يستفيدون من نصيحة، حتى يهلكوا مصحوبين بالخزي والعار واللعنة من الله  (جل جلاله) من فوق عرشه، واللعنة من الملائكة المطهرين في الملأ الملكوتي الأعلى، واللعنة من الناس طوال التاريخ.

وذلك يكون منهم لعظيم الجرائم الشنيعة مثل القتل، والسجن، والتشريد، والتضييق، ونحوها، التي ارتكبوها بحق الأبرياء والأولياء الصالحين والمصلحين المخلصين الشرفاء والمطالبين بالحقوق، ولا يريد الله (عز وجل) أن يغفرها لهم، قول الله تعالى: <وَقالَ موسى رَبنا إِنكَ آتَيتَ فِرعَونَ وَمَلَأَهُ زينَةً وَأَموالًا فِي الحَياةِ الدنيا رَبنا لِيُضِلوا عَن سَبيلِكَ رَبنَا اطمِس عَلى أَموالِهِم وَاشدُد عَلى قُلوبِهِم فَلا يُؤمِنوا حَتى يَرَوُا العَذابَ الأَليمَ>[7]، فقد دعا موسى الكليم (عليه السلام) على فرعون وملئه، بأن يجعل قلوبهم قاسية، لا تقبل الحق، ولا تنشرح للإيمان، حتى يروا العذاب الأليم، وذلك يشكل حاجزاً خلاف غاية الرسالة التي جاء بها من أجل هداية الناس رحمة بهم، مما يدل على شديد غضبه عليهم، لتماديهم في الغي والعناد والمكابرة والاستكبار على الحق وأهله، وتكذيب الرسل، وإصرارهم على الكفر والضلال والظلم والجور والطغيان، واستخدام نعم الله تبارك وتعالى العظيمة عليهم، مثل: السلطة والقوة والثروة، في الفساد والظلم والطغيان والإضلال عن الدين الحق، وارتكبوا الجرائم العظيمة ضد الأبرياء والأولياء الصالحين والمصلحين والمطالبين بالحقوق المشروعة، فاستجاب الله (عز وجل) لدعوة وليه ورسوله الكريم؛ لأنها دعوة حق وإخلاص ونصيحة، تتوافق مع الحكمة الإلهية، والعدل الرباني، والرحمة بالمؤمنين، ولتحذير الناس من مغبة التورط في مثل هذه الجرائم والمنكرات، لخطورتها على أصحابها؛ لأنها تحجبهم عن التوفيق إلى التوبة، ولسوء عاقبتها عليهم في الدارين الدنيا والآخرة.


المصادر والمراجع

  • [1]. تفسير الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي، جزء 5، صفحة 116
  • [2]. الأعراف: 128-129
  • [3]. الأعراف: 137
  • [4]. القصص: 5
  • [5]. الأعراف: 137
  • [6]. نفس المصدر
  • [7]. يونس: 88
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الأول | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟