مواضيع

تفسير آل فرعون الخاطئ للابتلاء

<فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُون>

صيغة الجمع في لفظ: <بِالسِّنِينَ>[1] يفيد بأنّ الله (عز وجل) قد ابتلى آل فرعون بالقحط والجدب والأمراض والآفات ونقص الثمرات لسنوات عديدة؛ لأن الابتلاء لو كان لسنة أو سنتين، لم يؤت ثماره المرجوة إلا أنه لم يكن متواصلاً وإنما كان منقطعاً، سنة جدب وضيق وسنة خصوبة وسعة؛ وذلك رحمة من الله تبارك وتعالى بالعباد، ولإعطاهم فرصة للتأمل والتدبّر والمراجعة والاتعاظ، إلا أنهم كانوا من أسوء خلق الله سبحانه وتعالى حالاً، فلم يستوعبوا الدرس الإلهي البليغ جداً لهم، ولم تنفتح عقولهم وقلوبهم على الحقائق والمعجزات والبينات، ولم يتفكروا ويتأملوا فيها جيداً، ولم يستفيدوا من الأدلة المنطقية الصحيحة والمواعظ النبوية البليغة النافعة، ولم ترقّ قلوبهم وتصحوا ضمائرهم لما نزل بهم من الشدائد والمصائب والمحن والنكبات، فلم يتراجعوا عن كفرهم وباطلهم وغيّهم وبغيهم وضلالهم وطغيانهم وفسادهم، ولم يعودوا إلى الإيمان والحق والهدى والطاعة والرشاد، وأصروا على ما هم عليه وعاندوا الآيات والبيّنات والأدلة والبراهين واستكبروا استكباراً، وقلبوا الحقائق رأساً على عقب، وفسروا ما حدث تفسيراً مادياً تعسفياً على حسب أهوائهم وأمزجتهم وما ترضيه شهواتهم ويوافق مصالحهم الدنيوية الفانية، بعيداً عن الحقائق الواقعية الكونية والاجتماعية والتاريخية، بعيداً عن العقل والمنطق والاستدلال الصحيح، وكانوا في حالة سيئة جداً، فإذا جاءتهم الحسنة والنعمة المعتادة لهم، مثل: المنصب والرخاء والرفاه والصحة في البدن والسلامة في النفس والأمن وكثرة المال والثمار وصلاح الحال والسعة في الرزق ورغد المعيشة، عاشوا في راحة واستقرار، وقالوا في غطرسة وشموخ واستعلاء في الأرض بغير الحق: نحن دون غيرنا نستحق هذه الحالة الحسنة والوفرة في الإنتاج والبذخ والرفاهية ومختصون بها على جاري العادة في بلادنا، أي: أنهم يميزون أنفسهم عن غيرهم، ويعتقدون بأنّ لهم استحقاقاً وأهلية في ذاتهم ليست لغيرهم، ويرون أن الوضع الحسن الموافق لرغباتهم، هو بسبب جدارتهم واستحقاقهم وأهليتهم وحسن إدارتهم وتدبيرهم للأمور ولأوضاعهم في بلادهم، وليس لأحد غيرهم فيه فضل عليهم، فلم يتذكروا، وكفروا بفضل الله تبارك وتعالى المنعم عليهم، فلم يشكروه، بل ازدادوا كفراً وطغياناً وغروراً وفساداً في الأرض. وإن نزلت بهم سيئة أو مصيبة نادرة، مثل: القحط والجدب والآفات والعاهات والأمراض ونقص الثمرات وغلاء الأسعار والضيق في الرزق والمعيشة والجوع والخوف ونحو ذلك من البلاء، تشاءموا من موسى الكليم (عليه السلام) ودينه ودعوته والذين آمنوا معه، وحمّلوهم المسؤولية التامة الكاملة عن المصائب التي نزلت بهم وحلت بساحتهم؛ لأنهم خرجوا على الدين الرسمي ونظام الدولة والقانون، وأخلوا بالأمن والاستقرار وأدخلوا الفوضى إلى البلاد، وعطّلوا عجلة التنمية والحياة، وأضروا بمصالح الشعب، وتسببوا في الفرقة وخرّبوا الوحدة الوطنية والقومية والنسيج الاجتماعي. وقد تجاهل آل فرعون في هذا التفسير التعسفي ما هم عليه من الباطل والكفر والضلال والظلم والطغيان والاستئثار بالسلطة والثروة والمقدّرات، والتمييز بين المواطنين الأقباط والإسرائليين في الحقوق والواجبات وأمام القانون، وهضم حقوق الإسرائيليين واستضعافهم وإذلالهم، ونحو ذلك من المظالم والأعمال السيئة المشؤومة.

والتشاؤم: عد الشيء شؤوماً، بحيث يكون وجوده سبباً في وجود ما يحزن ويضر، وعليه: فقد اعتبروا ما حلّ بهم من المصائب ونزل بساحتهم من البلاء، هو بسبب وجود موسى الكليم (عليه السلام) ودينه ودعوته والذين آمنوا به وساروا في طريقه واتّبعوا دعوته؛ لأن آل فرعون كانوا يعتقدون بتفوقهم وتميزهم في أنفسهم، وفي غاية التعلق بالنظام الفرعوني لارتباطه بهويتهم ومصالحهم الخاصة، ويرون أنهم إن حافظوا عليه كانوا في سعادة وسعة رزق ورغد عيش ورفاهية وتميّز، ووجود من يخالفه ويعمل على هدم بنيانه، يسلبهم جميع ذلك ويكون سبباً في حلول المصائب بهم وظهور المشاكل في أوضاعهم والإضرار بمصالحهم وامتيازاتهم الخاصة.

وتطيرهم بموسى الكليم (عليه السلام) ودينه ودعوته والذين آمنوا به واتبعوه في الحال السيئة، يدل على اعتبارهم الحسنة واعتبارهم السيئة بدعاً وحالاً غير مألوف لهم، وعليه: حملوا موسى الكليم (عليه السلام) ودينه ودعوته والذين آمنوا معه واتبعوه المسؤولية التامة الكاملة عمّا حلّ بهم من المصائب ونزل بساحتهم من البلاء، وهو صحيح ولكن بخلاف الوجه الذي فهموه، أي: أن ما حلّ بهم من مصائب ونزل بساحتهم من البلاء هو بسبب إصرارهم على الكفر، وعدم إيمانهم بما جاء به موسى (عليه السلام) من الحق من عند رب العالمين وأمام الدليل القاطع على صدقه، ولو لم يأتهم موسى الكليم (عليه السلام) بما جاءهم به لم تحل بهم المصائب ولم ينزل بساحتهم البلاء؛ لأن الحجة لم تتم عليهم، ولو أنهم كانوا واقعيين ومنصفين ولم يزعموا ويرتكز في نفوسهم بأنهم مخصوصين بالنعمة والرفاه، وأنّ لهم تميز عن غيرهم وتفوق في أنفسهم لا لشيء إلا لأنهم يتحكمون في رقاب العباد، ولو تنبهوا إلى حقيقة كفرهم وضلالهم وطغيانهم وسوء أعمالهم وما تجلبه بطبيعتها من المصائب والمحن والعذاب الشديد، لعرفوا الأسباب الحقيقية لما حلّ بهم من المصائب، ولحاسبوا أنفسهم وسعوا إلى صلاح أنفسهم وإصلاح أحوالهم لتجنب المصائب والشدائد والنكبات، ولما تطيروا بموسى الكليم (عليه السلام) ودينه ودعوته والذين آمنوا معه، ولما حملوهم المسؤولية عمّا حلّ بهم من المصائب والشدائد، ولعلموا بعدالة قضيتهم وشرعية مطالبهم الإصلاحية الدينية والسياسية والحقوقية، ولأنصفوهم من أنفسهم. إلا أن عادة الغافلين الأنانيين الغارقين في ذواتهم المتضخمة ومصالحهم الخاصة ودأبهم، أن لا يبصرون غير أنفسهم ومصالحهم، ولا يشعرون بآلام الآخرين وأوجاعهم، وينصرفون عن رؤية الواقع والأسباب الحقيقية إلى فرض رؤيتهم الخاصة التي تبرر أفعالهم ومصالحهم. وهم بغية قلب الحقائق، يعتبرون كل نجاح وتقدم ناشئاً عن جدارتهم وكفاءتهم وإن لم يكن لهم فيه أدنى دور فعلي، مباشر أو غير مباشر ويعفون أنفسهم دائماً من المسؤولية عن الأخطاء والتقصير والفشل والأوضاع السيئة؛ لأنهم فوق ذلك وفوق أن يحاسبوا، وينسبونها إلى الآخرين ويحملونهم المسؤولية عنها ويتهمونهم بالتآمر والعمالة ونحو ذلك من الاتهامات الباطلة التي لا أساس لها والتي تعودنا سماعها من الأسطوانات المشروخة وإعلامهم المهووس، ويحاسبونهم عليها ويعاقبونهم بها على خلاف العدل والعقل والمنطق والضمير التي لا يؤمنون بشيء منها ولا يقيمون لها وزناً من أجل تبرئة أنفسهم ودفع التهمة عنهم، وهم بسبب حجاب الغفلة والغرور والاستغراق في عالم المادة والمصالح الخاصة لا يبصرون حقائق الأمور، ولا يفقهون حجة أو برهاناً أو ينتفعون بموعظة أو نصيحة صادقة، ويجهلون السنن الإلهية، ويظنون بأنّ أعمالهم السيئة وما تجنيه أيديهم الآثمة من الأفعال القبيحة تفوت وتزول ولا ترتد عليهم، والحقيقة أنها محفوظة عند الله (عز وجل): <فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى>[2] وأنّ ما يصيبهم من الخير ومن الشر هو من عند الله سبحانه وتعالى وبقدره ويجري على وفق حكمته ومشيئته وبسبب أعمالهم، وقد وعدهم الله (عز وجل) بالعقاب الشديد على أعمالهم السيئة في الدارين الدنيا والآخرة، أي: إنّ ما حلّ بهم من المصائب والشدائد والمحن والنكبات، وما نزل بساحتهم من البلاء، هو عقاب من الله (عز وجل) على كفرهم وغيّهم وضلالهم وسوء أعمالهم وقبيح أفعالهم، وليس من عند موسى الكليم (عليه السلام) والذين معه أو من عند غيرهم من المخلوقين، وأن نسبة الخير والشر إلى غير قدرة الله سبحانه وتعالى وتدبيره ومشيئته، هو من الجهل والخرافة، ولا علاقة لها بالحقيقة والواقع، وهذه حقائق ثابتة بيّنة واضحة لكل ذي عقلٍ وبصيرة ومنطق سليم. إلا أنّ منطق هؤلاء الظلمة الجاحدين للحق والمعروف، منطق أعوج غير مستقيم، تتجلى فيه الغفلة والأنانية والجهل والعزلة عن الواقع وعدم الإنصاف، فهم يتجاهلون الحقائق الكونية والاجتماعية والتاريخية، ودور الخالق وتدبيره، ودور عالم الطبيعة والبناء الاجتماعي والسياق التاريخي للأحداث والأوضاع، ودور الفقراء والعمّال وسائر الفئات والطبقات، وتنعدم فيه الرؤية الصحيحة الصائبة للأوضاع والأحداث وأسبابها ومسبباتها القريبة والبعيدة، المباشرة وغير المباشرة، وفرصة المراجعة والتصحيح، فحالهم بين الكفر بالنعمة وبين الظلم للآخرين وهضم حقوقهم، وعلى ضوء هذه النظرة الخاطئة والمنطق المعوّج والسلوك المنحرف، تسير الأوضاع والمواجهات بين النظام والمعارضة من سيء إلى أسوء، بدلاً من أن تسير نحو التهدئة والأحسن، حتى ينتهي الأمر حتماً في نهاية المطاف إلى هلاك الظالمين والبقاء على نظامهم الفاسد ودولتهم المشؤومة وشقائهم في الدارين الدنيا والآخرة.

وقيل: تعريف الحسنة بلام الجنس في قوله تعالى: <فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ>[3] فيه إشارة إلى أن خير الطبيعة، مثل: الخصب والصحة والأمن والسلامة كثير، وهو كالواجب والأصل الثابت لكثرته واتساعه، فالنعم كثيرة الحصول تأتيهم متوالية متتابعة بحسب العادة في بلادهم. وتنكير السيئة في قوله تعالى: <وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَة>[4] فيه إشارة إلى أن شرّ الطبيعة، مثل: القحط والجدب والآفات والمرض والخوف والقتل وكوارث الطبيعة قليل بالقياس إلى الخير، وأنه اتفاقي وغير مألوف الحصول عندهم، على أنه على قسمين:

أ.   بعضه بسبب الأعمال السيئة للإنسان، قول الله تعالى <ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ>[5] أي: ظهرت المصائب والمحن والشدائد والنكبات وانتشرت البلايا في البر والبحر مثل الزلازل والبراكين والأعاصير والعواصف المدمرة والسيول الجارفة والفيضانات الغامرة والقحط الشديد والجدب والأمراض والآفات والعاهات الغريبة والأوبئة وغلاء الأسعار وضيق المعيشة والحروب الطاحنة وفقدان الأمن والاستقرار وظهور الخوف والجوع ونحو ذلك، بسبب ما كسبت أيدي الناس الآثمين من الشرك والمعاصي والذنوب، أي: بين أعمال الناس السيئة وبين ما يحل بهم من المصائب والمصاعب والشدائد والبلايا رابطة وصلة وثيقة؛ ليذيقهم الله (عز وجل) عقاب بعض أعمالهم السئية في الدنيا، برجاء أن ترقّ قلوبهم، ويتعظون ويرجعون إلى رشدهم ويتوبون إلى الله سبحانه وتعالى، ويتحولون من الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة، فتصلح أحوالهم ويستقيم أمرهم، فيجب عليهم أن ينتبهوا إلى ذلك جيداً ويعرفوه حق معرفته.

ب. بعضه يحدث بمقتضى قوانين عالم الطبيعة ومن لوازم عالم الإمكان المحدود وتزاحماته، إلا أن خيره في النظام الكوني العام أكثر من شره، فهو لا يخالف الحكمة الإلهية، وله دور فعّال وبالغ في تنمية طاقات الإنسان واستعداداته ومواهبه وقدراته ورقيه، والوصول به إلى كماله اللائق به والمقدّر له.

وقيل: عبّر في جانب الحسنة بالمجيء، قوله: <جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ>[6]، لأن حصول الحسنة كثير ومألوف ومرغوب فيه، فهم يترقبونه كما يترقب الأهل مجيء المسافر، وعبّر في جانب السيئة بالإصابة، قوله <تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ>[7] لأن حصول السيئة قليل وفجأة دون رغبة فيها ولا ترقب لها.

وقيل: جيء في جانب الحسنة بإذا الشرطية، قوله: <فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ>[8] لأن الغالب في (إِذَا) الدلالة على اليقين بوقوع الشرط أو ما يقرب من اليقين، ولذلك غلب أن يكون فعل الشرط مع (إِذَا) فعلاً ماضياً لكون الماضي أقرب إلى اليقين في الحصول. وجيء في جانب السئية بحرف إن، قوله: <وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ>[9] لأن الغالب أن تدل (إِن) على التردد والشك في وقوع الشرط، ولكون الشيء نادراً أو قليل الحصول غير مجزوم بوقوعه ومشكوك فيه.


المصادر والمراجع

  • [1]. الأعراف: 130
  • [2]. طه: 52
  • [3]. الأعراف: 131
  • [4]. نفس المصدر
  • [5]. الروم: 41
  • [6]. الأعراف: 131
  • [7]. نفس المصدر
  • [8]. نفس المصدر
  • [9]. نفس المصدر
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الأول | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟