مواضيع

ابتلاء آل فرعون بالقحط والجدب ونقص الثمرات

<وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُون>

أمر الله جلّ جلاله ورسوله الكريم موسى بن عمران الكليم (عليه السلام) أن يذهب إلى فرعون الطاغية ويدعوه إلى الحق والإيمان بالتوحيد الحقيقي لرب العالمين، وأن يقوم في الناس بالقسط والعدل، وأن يظهر الحق وينشر الخير والمحبة والفضيلة بين الناس، ويعطي الناس لا سيما المستضعفين حقوقهم الطبيعية في الحياة، وهي الحقوق الأساسية التي تنبع من الحقيقة الإنسانية وتلازمها ولا يجوز انتقاصها ولا التنازل عنها بأي حال من الأحوال وفي أي ظرف من الظروف؛ لأن انتقاصها يعني انتقاص الإنسانية نفسها، والتنازل عنها يعني التنازل عن الإنسانية والكرامة الإنسانية.

وقد أمر الله  (جل جلاله) رسوله الكريم موسى الكليم (عليه السلام) أن تكون دعوته لفرعون باللين والكلام الطيب اللطيف، وذلك برجاء أن ينفتح قلبه لقبول الحق وعقله لقبول الحجة والمنطق السليم، ولئلا تتحرك الدفاعات النفسية التي تستفزها الكلمات العنيفة في الخطاب فتتعكر الأجواء وتضيع الحجة والمنطق.

إلا أن فرعون الطاغية لم يستفد من ذلك ولم ينتفع منه، فكابر وجادل في الحق بالباطل، فأمر الله جلّ جلاله رسوله الكريم موسى الكليم (عليه السلام) أن يظهر ما لديه من المعجزات، فألقى عصاه فإذا هي ثعبان حقيقي عظيم، وأدخل يده السمراء في جيبه ثم أخرجها فإذا هي بيضاء في غاية الحسن والجمال وتشع نوراً كالشمس الساطعة. إلا أن فرعون لم يسلم وكابر الحق وخرج على المنطق، ورمى موسى الكليم (عليه السلام) بالسحر واتهمه بالكذب والتنكر للأخلاق ونعمة التربية مما يجعله غير مؤهل في نظره لحمل رسالة من إله عظيم إلى الناس، واتهمه كذلك بالتآمر على النظام والدولة والحكومة والملك، ودعاه إلى المبارزة مع السحرة لإثبات كذب ادعائه للنبوة والرسالة، فقبل موسى الكليم (عليه السلام) المبارزة، فجمع فرعون كبار السحرة المحترفين المهرة وأكثرهم معرفة بالسحر ومهارة فيه من جميع المناطق والأنحاء في مصر، وحدثت المبارزة وانتصر موسى الكليم (عليه السلام) على السحرة انتصاراً باهراً ظاهراً مبيناً، وثبت بهذا الانتصار حقيقة ما جاء به موسى الكليم (عليه السلام) وأنه ليس من السحر ولا مشابه له، بل هو آية كبرى ومعجزة عظيمة لا يقدر على مثلها إلا رب العالمين الذي يتمتع بقدرة مطلقة فوق الطبيعة وفوق البشر، مما يدل على صدق نبوة موسى الكليم (عليه السلام) وصدق رسالته. وقد أدرك السحرة بخبرتهم الواسعة في السحر ومعرفتهم بدقائق أسراره وخباياه وخفاياه هذه الحقيقة بجلاء ووضوح وعلموا بها علم اليقين بدون لبس أو غموض أو شك، وخضعوا إليها وسلموا بها وأعلنوا إيمانهم صراحة وبشجاعة منقطعة النظير أمام الجماهير المحتشدة في الميدان وبحضور فرعون وملئه ومعاونيه وأنصاره وكامل جهازه الديني والأمني والعسكري والسياسي والإداري والفني، إلا أن فرعون الطاغية وملأه المستكبرين لم يقتنعوا ولم يسلموا، وبدلاً من ذلك اتهموا السحرة بالتآمر والتواطئ مع موسى الكليم (عليه السلام) على الملك والدولة والنظام، والسعي لقلب نظام الدولة بالحيلة والخديعة، وإخراج الأقباط – وهم قوم فرعون – من أرضهم وديارهم ووطنهم، من أجل أن يستأثر موسى الكليم (عليه السلام) وقومه الإسرائيلين والمؤمنين به بالسلطة والثروة والمقدّرات، هذا مع أن فرعون الطاغية هو الذي جمع السحرة المحترفين المهرة الموالين له والقائلين بإلوهيته من جميع المناطق والأنحاء في مصر بواسطة ضباط وجنود الجيش التابعين والموالين له، وأن موسى الكليم (عليه السلام) لم يلتق بالسحرة بتاتاً قبل موعد المبارزة في الميدان المخصص لها في الصحراء، وقد أنزل فرعون بالسحرة أشدّ العقوبات انتقاماً منهم لإيمانهم بالتوحيد والمعاد والتصديق بنبوة موسى الكليم وهارون  (عليهما السلام) ورسالتهما من رب العالمين إلى الناس، ولم يكتف بذلك، بل قصد بني إسرائيل بأبشع وأقسى أنواع الظلم والإذلال والاستعباد والاستضعاف، وهو قتل الأبناء الذكور والإبقاء على البنات من أجل الخدمة والمتعة الجنسية؛ وذلك لإضعافهم بالقضاء على القوة الضاربة فيهم وهم الأبناء، والانتقاص التدريجي منهم بتقليل التناسل عن طريق التفريق بين الرجال والنساء، ولإذلالهم وقتل روح النخوة والغيرة فيهم بما يُفعل في نسائهم وبناتهم. وإزاء ذلك أمر الله الحكيم الكريم بني إسرائيل بالصبر والتقوى والاستقامة على الطريقة الوسطى والصراط المستقيم، والثقة بوعد الله (عز وجل) والتوكل عليه، ونهاهم عن اليأس والقنوط والجزع والفزع والخنوع والخضوع لإرادة فرعون الجائرة، ووعدهم -إن هم امتثلوا لما أمروا به- أن يهلك (عز وجل) فرعون وجنوده، وينجي بني إسرائيل ويخلصهم من ظلمه وجوره وشره وطغيانه مع قومه، وأن يستخلفهم في الأرض بدلاً منهم. ثم قصد الله (عز وجل) فرعون وقومه بالتحذير والتنبيه، فابتلاهم بالبأساء والضراء وتوالي المصائب، فأصابهم القحط العام والجدب الشديد في جميع الأراضي والبلدان، ونقص الثمرات: الفواكه والخضار والأموال والأولاد بقلة إنتاجها قلة غير معتادة لهم وضيق المعيشة، عن طريق قلة الماء والمطر، وكثرة الآفات والأوبئة القاتلة، التي أصابت النبات والدواب والذرية، وذلك وفقا للسنة الإلهية في تنبيه الأقوام المعاندين وتحذيرهم وتربية الأمم وتأهليهم، وقيل: كان القحط لباديتهم وأهل مواشيهم لقلة الأمطار والمياه، ونقص الثمرات لمدنهم ولقراهم لكثرة الآفات والعاهات والأوبئة. وكانت مصر بلداً زراعياً خصباً وكانت تفيض بالعطاء وسعة الرزق ورحابة العيش وكثرة الذريّة، ولهذا فإنّ الجدب ونقص الثمرات عاد بالضرر البليغ على جميع الطبقات، وأثّر على مجمل الأوضاع، إلا أنّ الخطاب خصّ أقرباء فرعون ملّاك منتوجها وخاصته، قوله تعالى: <وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ>[1] لأنهم ملّاك الأراضي وانتاجها غالباً، كما هو الحال في جميع الأنظمة الدكتاتورية والحكومات المستبدّة، إذ تسيطر عائلة الحاكم وأقرباؤه على مصادر الثروة والمناصب والمقدّرات في البلاد، وعليه: كانوا أكثر المتضررين، كما أنّ أزمّة الأمور ومقاليدها بأيديهم، لهذا كانوا أكثر المتضامنين معه، للمصالح المشتركة ووحدة المصير، وعليه: كان من المهم أن ينبّهوا بشكل خاصٍ ليستيقظوا من غفلتهم وتصحوا ضمائرهم ويعودوا إلى رشدهم ويقوموا بمراجعة الأمور وفق المعايير العقلية والمبادئ الإنسانية السامية والقيم الأخلاقية الرفيعة والمصلحة العامة، لكي تصلح الأمور والبلاد والعباد بشكل سلمي وبأقل الخسائر المادية والبشرية والمعنوية، لو كانوا يعقلون.

وقد أنزل الله جلّ جلاله هذا البلاء العظيم على آل فرعون، لكي ترقّ قلوبهم وتصحوا ضمائرهم بالشدائد والمصائب والمحن، فينتبهوا من غفلتهم، وتستيقظ في نفوسهم فطرة التوحيد المتكلسة تحت حجاب الغرور بالسلطة والقوة والثروة والغفلة في ظل رغد العيش والرفاه والشعور بالأمن والأمان، ويعودوا إلى عقولهم ورشدهم وضمائرهم ويحاسبوا أنفسهم ويراجعوا حساباتهم العامة في الحياة، ويعلموا أنّ سوء أحوالهم وأوضاعهم وما نزل بهم من المصائب والشدائد والمحن، هي بسبب إصرارهم على العناد والكفر والتكذيب بآيات الله تبارك وتعالى ومعجزاته النيّرات الباهرات وبيّناته الواضحات الزاهرات وأعمالهم القبيحة المذمومة السيئة، وأنها ابتلاء عظيم من الله (عز وجل) لهم، ولكي يدركوا في ضمائرهم وأعماق أرواحهم بأنهم ضعفاء عاجزون أمام قدرة الله (عز وجل) جبار السماوات والأرض وأمام جنوده في عالم الطبيعة، مثل: الجدب والقحط والآفات والأمراض ونحوها، وجنوده في عالم الغيب والملكوت وهم الملائكة الأشدّاء المقربون الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون، ويحسّوا بالحاجة إليه، ويتيقنوا بأن لا ملجأ ولا منجى لهم إلا بالعودة إليه، فيفزعوا إليه ويوحدوه ويرغبوا فيما عنده ويخافوه وحده لا شريك له ولا يخافوا غيره ولا يلجأوا ولا يفزعوا إلى غيره من البشر أو من غيرهم، ويستجيبوا إلى دعوة الحق والتوحيد ويؤمنوا بالنبوة والمعاد ويصدّقوا بآيات الله (عز وجل) ومعجزاته وبيّناته ويتبعوا رسوله الكريم (عليه السلام) ويقتدوا به، ويتراجعوا عن غوايتهم وعن الكفر والظلم والجور والطغيان والفساد، إلى ساحة الإيمان والطاعة والعدل والأخوة والمحبة والإنصاف والإحسان والخير والفضيلة والاجتهاد في العطاء بغير حدود، وإرجاع كافة الحقوق إلى أصحابها؛ وذلك لأن الناس يكونون حال الشدة، أضرع خدوداً وألين أعطافاً وأرقَ أفئدةً، ويكونون في حال الرفاه والرخاء والشعور بالأمن والأمان في غفلة، ويصابون بالغرور والطغيان والميل إلى العدوانية على الغير، فإذا نزلت عليهم المصائب والمحن والشدائد، رقّت قلوبهم وأدركوا ضعفهم وعجزهم وعادوا إلى فطرتهم ورشدهم وراجعوا أنفسهم وأعادوا حساباتهم، ويكونون في العادة أكثر استعداداً لقبول الحق، وربما صلحت أنفسهم إلى حينٍ أو أبداً؛ لأن حقيقة التوحيد والميل إلى الحق والعدل والخير والفضيلة والكمال، مغروسة في أعماق نفوسهم بالفطرة، وأن الترف والبذخ وغرور السلطة والقوة والمنصب والثروة والتربية الخاطئة تسترها، فإذا نزل بهم البلاء وأصابتهم شدة نفضت عنها الغبار وأعادتها إلى نقائها وصفائها الأول الذي كانت عليه في أصل فطرتها وخلقتها، فيعود الإنسان إلى الله ربه ذي الجلال والإكرام، الذي هو مرجع التدبير وأصل جميع النعم ومصدرها، ويخضع إليه ويسلم إلى أمره ونهيه وإرادته، ويطلب منه الصفح والعفو والغفران، قول الله تعالى: <وَإِذا أَذَقنَا النّاسَ رَحمَةً مِن بَعدِ ضَرّاءَ مَسَّتهُم إِذا لَهُم مَكرٌ في آياتِنا قُلِ اللَّـهُ أَسرَعُ مَكرًا إِنَّ رُسُلَنا يَكتُبونَ ما تَمكُرونَ ٢١ هُوَ الَّذي يُسَيِّرُكُم فِي البَرِّ وَالبَحرِ حَتّى إِذا كُنتُم فِي الفُلكِ وَجَرَينَ بِهِم بِريحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحوا بِها جاءَتها ريحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ المَوجُ مِن كُلِّ مَكانٍ وَظَنّوا أَنَّهُم أُحيطَ بِهِم دَعَوُا اللَّـهَ مُخلِصينَ لَهُ الدّينَ لَئِن أَنجَيتَنا مِن هـذِهِ لَنَكونَنَّ مِنَ الشّاكِرينَ ٢٢ فَلَمّا أَنجاهُم إِذا هُم يَبغونَ فِي الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنَّما بَغيُكُم عَلى أَنفُسِكُم مَتاعَ الحَياةِ الدُّنيا ثُمَّ إِلَينا مَرجِعُكُم فَنُنَبِّئُكُم بِما كُنتُم تَعمَلونَ>[2].

إلا أن البعض من الناس يشتدّ انحرافهم عن الفطرة وفساد طبعهم إلى درجة أنهم يلجأون إلى غير الله سبحانه وتعالى في ساعة العسرة ونزول البلاء يطلبون منهم النصرة والغوث والنجاة، بحجة أنهم يملكون السلطة والقوة والثروة والجاه والمنصب ونحو ذلك؛ وذلك لأنهم لا يرون إلا المادة وعالم المادة ولا يرون ما وراءها، وقد يفسر بعضهم الظواهر في اليسر والعسر والشدة والرخاء والضيق والسعة تفسيراً مادياً بحتاً، يقدح في آيات الله سبحانه وتعالى ويطعن في دلالاتها الربانية، غافلاً عن قدرة الله (عز وجل) وإرادته وتدبيره، وعن غاية خلق الإنسان وحقيقة وجوده وتكوينه، وهؤلاء لهم سوء العاقبة حتماً وطبعاً.

ولفظ (لَعَلّ) في عبارة <لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُون>[3] يفيد الرجاء، بمعنى مرجوٌ تذكرهم؛ لأن الابتلاء والمصائب والمحن والشدائد والأضرار التي وقعت عليهم ونزلت بساحتهم المقارنة لتذكير موسى الكليم (عليه السلام) لهم بالتوحيد وتحذيرهم من سوء العاقبة في الدارين الدنيا والآخرة، من شأنها أن يكون أصحابها الذين حلّت بهم ونزلت عليهم مرجوٌ منهم أن يتذكروا بما هم عقلاء وأصحاب ضميرٍ حي و وجدان فعّال. ولقد كان الله سبحانه وتعالى عالم بأنهم في الحقيقة والواقع لن يتذكروا ولن يعودوا إلى رشدهم ويتراجعوا عن غيّهم وغايتهم وضلالهم، لشدة تعلقهم بعالم الدنيا والمادة واستغراقهم في المصالح الدنيوية الفانية وضعف منطقهم وشدة غفلتهم وفساد فطرتهم وطبعهم، ولكنه سبحانه وتعالى أراد الإملاء لهم واستدراجهم وإقامة الحجة التامة البالغة عليهم ولئلا تكون إليهم حجة على الله (عز وجل).

وما سبق يدلّ على مدى الحكمة الإلهية والرحمة الواسعة بالعباد، فإنّ الله جلّ جلاله لا يستعجل بالعقوبة، ويمهل المعاندين ويعمل على هدايتهم، فقد أعطاهم العقل للتمييز بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين الفضيلة والرذيلة، وبين الصلاح والفساد، ونحو ذلك، ودعّمه بالفطرة والطبع، وسنده ببعث الأنبياء والرسل الكرام (عليهم السلام) وإنزال الكتب السماوية، وعززه بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأعطاهم الإرادة من أجل الاختيار وتقرير المصير، وأمدّهم بالقوة والقدرة من أجل العمل، ويرسل الآيات وينزل البلاء من أجل إيقاظهم وتنبيههم، وذلك كله بغية نجاتهم من الهلاك والشقاء الأبدي، والسير بهم في طريق الكمال المقدّر إليهم وتحصيل السعادة الحقيقية الأبدية الكاملة والنعيم المقيم الخالص الذي لا زوال له ولا اضمحلال في الآخرة، وفي الآية تنبيه لجميع الناس بأن ينظروا فيما يحيط بهم وأن ينتبهوا لما يأتيهم من دلائل غضب الله (عز وجل) وسخطه، ومنها: سلب النعم المادية والمعنوية المنعم بها عليهم.


المصادر والمراجع

  • [1]. الأعراف: 130
  • [2]. يونس: 21-23
  • [3]. الأعراف: 130
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الأول | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟