مواضيع

تضجّر بنو إسرائيل وشكواهم لموسى الكليم (ع)

<قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا>

بعد أن بين موسى الكليم (عليه السلام) لبني إسرائيل استراتيجية المقاومة وبعض الجوانب المشرقة في فلسفة التاريخ ليوعّيهم بها ويشدّ أزرهم، قالوا له شاكين ومتضجرين وقد أصيبوا بالفزع والجزع لشدة ولطول ما مكثوا فيه من عذاب فرعون وأذيته: <أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا>[1] أي: أوذينا من فرعون الطاغية ومن قومه المستكبرين قبل أن تبعث فينا بالنبوة والرسالة وبعد أن بعثت فينا بالنبوة والرسالة، فقد كانوا يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا ويسوموننا سوء العذاب، إذ كنا عرضة للقتل والمطاردة والأسر والسجن والتعذيب والاستعباد والاسترقاق وأخذ الجزية والتسخير للخدمة في الأعمال الشاقة السافلة والمنزلية بغير أجر أو بأجر يسير غير عادل ولا يضمن لنا الحياة الكريمة، ونحو ذلك من أساليب القمع والإرهاب والإذلال، وقد صبرنا على ذلك وتحملنا وانتظرنا الفرج حتى بعثك الله تبارك وتعالى فينا نبياً ورسولاً، فآمنا بك واتبعناك وأطعناك راجين للنجاة والخلاص من أذى فرعون على يديك، وقد وعدتنا بذلك، إلا أنه لم يتغير شيء، فقد عاد فرعون الطاغية وقومه المستكبرين إلى سيرتهم الأولى معنا من القتل والأسر والقمع والإذلال، فلم تتغير سياسة فرعون القمعية معنا، ولم يذهب شره وشرّ قومه عنا، ولم تتغير أحوالنا السيئة، ولا رأينا عافية، وقد صرنا في حالة سيئة شديدة من الخوف على أنفسنا ونسائنا وأولادنا، وأصبح مجيئك إلينا مثل عدمه ولم يؤثر أثره في تغیير وإصلاح أوضاعنا، فأين وعدك إلينا بالنجاة والخلاص؟!

وهذا القول من بني إسرائيل يدل على إيمان ضعيف متزعزع، ورؤية خرافية غير صحيحة لسنة الحياة وطبيعتها، وهو قول من يميل إلى الراحة والسكون والدعة، ويتوقع حدوث التحولات التاريخية دفعة واحدة، ولا يملك نفساً طويلاً، ولا يرغب في العمل الدؤوب والجهاد والتضحية، وكأن المكاسب والانتصارات والتحولات الكبيرة تحدث دفعة واحدة وبدون مقدمات ولا شروط ولا عمل ولا تضحيات من قبل مجموع الأفراد، يقول آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: «كأن بني إسرائيل مثل كثير منّا يتوقعون أن تصلح جميع الأمور بقيام موسى (عليه السلام) في ليلة واحدة .. أن يزول فرعون ويسقط ويهلك الجهاز الفرعوني برمته، وتصبح مصر بجميع ثرواتها تحت تصرف بني إسرائيل، ويتحقق كل ذلك عن طريق الإعجاز من دون أن يتحمل بنو إسرائيل أي عناء، ولكن موسى (عليه السلام) أفهمهم بأنهم سينتصرون في المآل ولكن أمامهم طريقاً طويلاً، وإنّ هذا الانتصار طبقاً للسنة الإلهية .. يتحقق في ظل الاستقامة والثبات والسعي والاجتهاد»[2].

وقد وقع بعض الصحابة في نفس المستنتع، روي عن خباب بن الأرت أنه قال: أتيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن لقي من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله!! ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمّر الوجه، فقال: «لقد كان من قبلكم يمشط بمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله»[3] أي: استنكر الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) من الصحابة استعجال النصر، يقول الشيخ محمد جواد مغنية: «كان العديد من الصحابة يستعجلون النصر، ويأخذهم القلق والضجر من التأخير، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لهم: وعدني به ربي وهو آتٍ لا محالة، وقوله تعالى: <وَاسْتَغْفِرْهُ> فيه تعريض بهؤلاء المستعجلين القلقين، وأنه كان عليهم أن يصبروا ويثقوا بوعد الله، ويتغلبوا على خواطر النفس ووساوسها»[4] وهي نفس الآفة التي وجدتها عند العديد من القيادات والناشطين في الساحة الوطنية والإسلامية أسأل الله لي وللمؤمنين العافية منها.

وما سبق يدلّ على أن مجرد ظهور المنقذ أو القائد الصالح المصلح أو الثائر، لايعني حدوث الإصلاح والتحول فجأة، ولا يعني توقف العناء والعذابات عن المستضعفين المظلومين وصلاح جميع الأمور بين عشية وضحاها، عن طريق الإعجاز ونحوه وبدون عمل وتضحيات، بل العناء والتعب والعذابات ستستمر بدون توقف وقد تطول لعقود من الزمن، حتى تتراكم المكتسبات وتنقلب الموازين لصالح المستضعفين ويأتي النصر وتتغير الأحوال والظروف بسبب الخطط والبرامج الفعّالة والعمل الجماعي الدؤوب من قبل مجموع الأفراد أو الكتلة البشرية الكافية اللازمة لإحداث التغيير وتقديم التضحيات الجسيمة، فيرتفع عندئذٍ الظلم والاضطهاد والاستضعاف والإذلال والتمييز ونحو ذلك، ويحل محلها العدل والحرية والاستقلال والعزة والكرامة والمساواة في الحقوق والواجبات ونحو ذلك. ثم ليبدأ بعد ذلك عناء البناء والتعمير والتنمية والتطوير، وكل من يعتقد بأن مجرد وجود المنقذ أو القائد الصالح المصلح أو الثائر من شأنه أن يرفع العناء وتصلح الأمور بدون جهاد ولا تضحيات، فهو واهم يعيش في الخيال ومنفصل عن الواقع وجاهل بسنن الحياة وبالسنن الإلهية في الابتلاء من أجل أن يظهر الناس على حقيقتهم، والتمييز بين الصادقين الصابرين المجاهدين وبين الكاذبين المنافقين والانتهازيين النفعيين والكسالى الذين يميلون إلى الدعة والراحة ويكرهون الجهاد والتضحيات والبذل في سبيل الله (عز وجل) وسبيل الحرية والعزة والكرامة والمجد والشرف والتقدم والرفعة، ومن أجل تكامل الإنسان المؤمن وإخراج ما هو كامن في نفسه من المواهب والقدرات وكنوز المعرفة والخير والعطاء، ووصوله إلى أعلى مراتب الكمال الإنساني المقدر والرضوان الإلهي والسعادة الحقيقية الأبدية الكاملة والنعيم الأبدي الخالد في الآخرة. وهذا ما ابتلينا به من قبل ضعفاء الإيمان واليقين والبصيرة في أيامنا هذه في بلادنا، ومنهم من يؤمن بالابتلاء نظرياً ولا يطيقه عملياً ولا يقوى عليه ويستعجل النصر قبل أوانه ويريد حرق المراحل وأن ينزل عليه النصر دفعة واحدة ويسلم له الأعداء وينتصر من الجولة الأولى أو الثانية ونحو ذلك، والقاعدة: لا ثمر بدون غرس، ولا إصلاح وتحسن في الأحوال بدون جهاد وتضحيات من قبل مجموع الأفراد أو الكتلة البشرية الكافية وبشكل منظم ومتواصل بحيث تحفظ النتائج والمكتسبات وتتراكم حتى تنجز الأهداف وتحقق الغايات. فالعناء والتعب والعذابات والتضحيات مستمرة مع وجود المنقذ أو القائد الصالح المصلح أو الثوري، ومصاحبة للنهوض والمقاومة، وبعد النصر والغلبة من أجل البناء والتنمية والتطوير، ويعتبر ذلك شرطاً ضرورياً لازماً لإحداث التغيير والإصلاح والتطوير، وتقترن دائماً بشعور المؤمن المجاهد بالعزة والكرامة والفخر، بخلاف الخنوع والاستسلام والركون إلى الراحة والدعة والقعود والامتناع عن البذل والتضحية والفداء، فإنها تقترن دائماً في نفوس أصحابها مع الشعور بالذل والهوان والعجز، والقبول بها خلاف العقل والمنطق والفطرة والطبع السليم والخلق الكريم والشرع الحنيف، ويؤدي دائماً إلى الضعف والتخلف والفشل والتحلل والانحطاط والإبادة من الوجود مقروناً بالخزي والعار.


المصادر والمراجع

  • [1]. الأعراف: 129
  • [2]. تفسير الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي، جزء 5، صفحة 150
  • [3]. تاريخ الطبري، جزء 2، صفحة 344
  • [4]. تفسير المبين، محمد جواد مغنية، صفحة 825
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الأول | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟