مواضيع

تطور المواجهة بين العلمانية والإسلام

لم تتخذ العلمانية شكلاً واحداً وإلا لانتهى أمرها منذ زمن بعيد في صراعها المحتدم مع الإسلام الحنيف، لكنها غيرت جلدها وشكلها ومضمونها مراراً، لتوجه التحديات المستمرة التي تواجهها مع الإسلام الحنيف، ولم تقف عند حدود الرؤية الفكرية (النظرية) وإلا لتبخرت تلك الرؤية السطحية الضحلة سريعاً أمام شمس ضحى الإسلام الحنيف وقوة حجته وبرهانه، فاعتمدت مافي يدها من قوة السلطة لمواجهة الإسلام الحنيف والحد من نفوذه وتأثيره وقوة انتشاره بين الناس في أوروبا، وحبسه في زاوية ضيقة لا يستطيع أن يتنفس فيها وهي زاوية الأحوال الشخصية، ولم تتوقف العلمانية في صراعها وحربها الضروس مع الإسلام الحنيف عند حدود الصراع الفكري القائم على الإقناع المستند إلى الدليل والحجة والبرهان، وقد أدركت العلمانية ضعفها وعجزها وعدم مقدرتها على المواجهة والصمود أمام ضربات الإسلام الحنيف في ساحة الفكر وسلاح الدليل والحجة والبرهان، فأدخلت الصراع إلى ساحات عملية سياسية وقانونية وأمنية عنيفة مثل: حظر ارتداء الحجاب بقوة القانون في بعض الدول العلمانية في أوروبا مثل: فرنسا بحجة أنه نتيجة لضغوط إجتماعية ولا يعبر عن حرية شخصية، وفي العالم الإسلامي مثل: تركيا أتاتورك وإيران الشاه ومنع ارتداء الزي الديني لرجال الدين والضغط على المدارس الإسلامية وعلى المحلات التجارية والمطاعم التي تبيع وتقدم منتجات حلال، وقد بلغ التطرف في بعض البلدان الغربية إلى حد إجبار الطلبة المسلمين في المدارس على أكل اللحم غير الحلال بحجة التغذية الصحية، وإبعاد الدعاة وسجنهم بسبب تصريحات فكرية وسياسية وتعذيبهم وتصفيتهم لأسباب أمنية بمحاكمة صورية أو بدون محاكمة (خارج القانون) والهجوم الحربي والترهيب المنظم والممنهج غير المنطقي من فوق المنابر السياسية والإعلامية، والذي يجب تمييزه منهجياً وعملياً عن الخطاب النقدي الموضوعي للإسلام والمسلمين، ودعم الأنظمة الدكتاتورية والحكومات المستبدة في العالم الإسلامي وغض النظر عن انتهاكاتها المتكررة والبشعة للحريات الأساسية ولحقوق الإنسان الطبيعية والمكتسبة تحت عنوان الواقعية والبرجماتية وحفظ المصالح الغربية، وللحيلولة دون تمكن الإسلام المتطرف والحركات الإسلامية الراديكالية، ووصول الإسلاميين إلى كراسي الحكم في البلدان الإسلامية مما من شأنه أن يلحق الضرر بمصالح الغرب الاستراتيجية وأمنه القومي ونحو ذلك.

وقد قوبلت هذه الممارسات الجائرة بالعمليات الإرهابية الطائشة التي ذهب ضحيتها الآلاف من الأبرياء، مع التنبيه إلى أمرين:

أ- أن ضحايا هذه العمليات الإرهابية الطائشة المجنونة لم يكن جلّهم من الغربيين بل أكثرهم من المسلمين المتدينين سنة وشيعة الذين يختلفون في الرأي مع القوى الإرهابية المتطرفة، أو من الأقليات الدينية والعرقية من غير المسلمين، والاهتمام كثيراً وتماماً بالضحايا الغربيين، والقيام بردود فعل انفعالية عنيفة وقاسية وطائشة على الإرهابيين المتطرفين ومحيطهم، فلا يقتصر سقوط الضحايا والخسائر عليهم بل تشمل المدنيين الأبرياء، ويسمون هؤلاء من الضحايا المدنيين الأبرياء بالخسائر الجانبية غير المقصودة.

ب- أن حلبة الصراع الرئيسية بين الإسلام الحنيف وبين العلمانية هي في المقام الأول فكرية يعتمد تحقيق النصر فيها على الإقناع بالحجة والدليل والبرهان الصحيح، قول الله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} وذلك على القاعدة: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فلا يقبل رأي أو فكرة أو عقيدة بدون دليل وحجة وبرهان صحيح، وكل دعوى لا دليل منطقي صحيح عليها، فهي دعوى خرافية باطلة، لا يجوز عقلاً وشرعاً قبولها والركون إليها، لأن قبولها والركون إليها بدون دليل وحجة وبرهان صحيح، مخالف لما يتمتع به الإنسان من العقل وحرية الإرادة والاختيار، وهو أصل الضلال والضياع والشر والفساد، الذي ينهي بالإنسان حتماً إلى الهلاك الفعلي والشقاء الحقيقي الكامل في الدارين: الدنيا والآخرة، فيجب على صاحب كل رأي أو فكرة أن يقدم الدليل الكافي والبرهان الصحيح الناهض على صحة رأيه أو فكره لكي يقبلا منه، فإذا لم يأت بالدليل الكافي والبرهان الصحيح لإثبات صحة رأيه أو فكره فيجب ردهما عليه وعدم قبولهما منه، وكل محاولة لفرض الرأي أو الفكرة أو الدعوى أو العقيدة أو الموقف عن طريق غير طريق الإقناع المستند إلى الحجة والدليل والبرهان الصحيح مثل: اللجوء إلى الترهيب والترغيب والتضليل والخداع والإكراه ونحو ذلك، فهي محاولة يأسة بائسة، غير منطقية وغير أخلاقية وغير إنسانية، ولا تتناسب مع كرامة الإنسان وفضله، ومع حقيقة كونه عاقل يمتلك حرية الإرادة والاختيار، وأن كماله الإنساني وسعادته الحقيقية ومصلحته الجوهرية بما هو إنسان في دورة الحياة الكاملة، تتوقف على معرفة الحقائق والسنن والعمل بمقتضاها، وهو أسلوب قذر لا يلجأ إليه إلا ضعفاء العقل والمنطق من الحمقى الجاهلين والمعتوهين، ميتي الوجدان والضمير، من البغاة والطغاة والفراعنة المتجبرين والنفعيين الانتهازيين ونحوهم، الذين لا يشعرون بإنسانية أنفسهم ولا إنسانية غيرهم ولايفقهون معناها وأبعادها الفكرية والوجدانية والقيمية والسلوكية، ولا يلجأ له مطلقاً العالم من أهل البصيرة والمعرفة بالدين والإنسانية.

وختاماً أنبه إلى الملاحظات العملية التالية:

أ- يجب اللجوء إلى المعالجات العملية فيما هو سياسي وحقوقي في الغرب وفي داخل العالم الإسلامي وغيرهما.

ب- الاحتفاظ بحق الدفاع عن النفس وفقاً للعدالة والواقعية التي تحفظ المصلحة للرسالة والناس، وتصون الحقوق، وهو حق مكفول بحكم العقل والفطرة وتقره الأديان السماوية والمواثيق الدولية.

المصدر
كتاب الإسلام والعلمانية | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟