مواضيع

استجابة فرعون لتحريض ملئه ضد موسى (ع) وقومه

<قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُون>

استجاب فرعون الطاغية إلى تحريض حاشيته من الأشراف والأعيان والوزراء وكبار الموظفين في القصر الملكي الفرعوني على موسى الكليم (عليه السلام) وقومه الداعمين له والمؤمنين به وتحذيراتهم له، وصمم على اتخاذ موقف متشدد من بني إسرائيل، فقال لحاشيته: <سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ>[1] أي: سنعيد سيرتنا الأولى وما كنا نفعله في بني إسرائيل، من قتل الأبناء الذكور الذين فيهم النجدة والقوة ويشدون أزرهم في الحروب، والاستبقاء على البنات لاسترقاقهنّ واستخدامهنّ وللمعاشرة الجنسية إذلالاً لهم، حتى نبقي عليهم بهذه السياسة والاجراءات العقابيّة بحالةٍ لايتكاثرون فيها فنأمن كثرتهم السكانية، ونقضي على قوتهم وخطرهم وقدرتهم على الخروج علينا وإلحاق الأذى أو الضرر بالنظام أو الدولة أو الحكومة أو سلطتنا الخاصة، كما نبقي عليهم خاضعين لإرادتنا وقائمين على خدمتنا وخدمة مصالحنا ودولتنا ومسخّرين لهم للقيام على ما نشاء من الأعمال والخدمات التي نرغب في أن يقوموا بها ونستخدمهم فيها، ليعلموا أنّا على ما كنا عليه من القوة والقدرة والقهر والغلبة، وأنهم لا زالوا مقهورين مغلوبين خاضعين لنا كما كانوا من قبل، وأنّ ظهور موسى الكليم (عليه السلام) بينهم وما جاء به من الأمور الخارقة للعادة، وإيمانهم به والتفافهم حوله ونصرتهم له علينا، لا أثر له ولا يغير شيئاً في ميزان القوى، ولئلا يتوهموا أو يتوهم أحد غيرهم، أنّ موسى (عليه السلام) هو المولود من بني إسرائيل الذي تنبأ به المنجمون والكهنة وأخبروا بذهاب ملكنا ودولتنا ونظامنا على يديه فيشجعهم ذلك ويشجع غيرهم على الإيمان به والإلتفاف حوله واتباعه وطاعته من جهة، والتفرق عنا ومعصيتنا والتمرد علينا من جهة ثانية، وقد أراد فرعون من ذلك، أن يُطيّب خواطر ملئه وإسكانَ ما في نفوسهم من الاضطراب والطيش والقلق، ويؤكد لهم بأنه لا يزال قوياً وبيده أزمّة الأمور ومسيطراً على الأوضاع سيطرةً كاملةً. وهذا يكشف عن إدراك فرعون لخطر الأكثرية أو الكثرة السكانيّة على نظامه ودولته وتهديد ملكه، وسعيه الحثيث بكل وسيلة مهما كانت قذرة وظالمة وغير إنسانية إلى قلب المعادلة الديموغرافية «السكانية» أو تعديلها لتكون في مصلحة نظامه وملكه، بأن يحوّل الأكثرية الدينية أو العرقية المعارضة إلى أقليّة، ويحقق من وراء ذلك هدفين رئيسين:

أ.   القضاء على قوتهم وخطرهم.

ب. استخدام البقيّة الباقية منهم كدليل على التنوع وتسخيرهم فيما يشاؤون من أعمال وخدمات.

وقد لجأ إلى مثل هذه السياسة الشيطانيّة الخبيثة، التي تعرف اليوم بسياسة التطهير العرقي أو الديني أو الطائفي، الكثير من شياطين السياسة في العالم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا من الفراعنة والملوك والحكام المستبدين الذين تبرر عندهم الغايةُ الوسيلةَ ولا يؤمنون بدين ولا مبادىء سامية ولا قيم إنسانية أو سماوية رفيعة. ومثلُ هذه السياسات الشيطانية الخبيثة يجب أن تقاوم ببصيرة نافذة ورؤية واضحة وبرامج فاعلة يتضامن عليها المجتمع الدولي والمدافعون عن حقوق الإنسان والفئات المستهدفة وتنفذ بحزم وعزم بدون تراخٍ أو تردد أو ضعف؛ لأن القضية تصبح قضية وجود ومصير وكرامة للجيل المستهدف مباشرة وللأجيال اللاحقة، ولا يجوز بحكم العقل والشرع والحقوق والأخلاق التجاهل أو التراخي بشأنها وتتحمل القيادات أكثر من غيرها المسؤولية كاملة عما سيحدث.

لقد اتهم فرعون وحاشيته من الأشراف والأعيان والوزراء وكبار الموظفين والقيادات المدنية والعسكرية موسى الكليم (عليه السلام) وقومه الإسرائيليين والمؤمنين به بالخروج على النظام ومخالفة الدستور والقانون وشق الصف الوطني والقومي والإفساد في الأرض والإضرار بمصالح الشعب ومقدراته وتعطيل عجلة التنمية والتقدّم والتطور في البلاد والسعي لإسقاط النظام الشرعي القائم والدولة والحكومة الرشيدة، وعليه قرروا معاقبة بني إسرائيل الذين هم قوم موسى الكليم (عليه السلام) عقوبة جماعية على خلاف العقل الذي يقضي بأن تكون العقوبة فردية، إلا أن الفراعنة لا يؤمنون بعقل أو منطق ويتصرفون وفق أهوائهم وما تتطلبه مصالحهم سواءً وافقت العقل والمنطق والمبادىء والقيم أم خالفتها، فقرر فرعون بناءً على تحذير حاشيته وتحريضهم أن يعود إلى ما كان عليه مع بني إسرائيل قبل ولادة موسى الكليم (عليه السلام) وظهور دعوته، حيث كان فرعون يخشى أن يولد في بني إسرائيل من يقضي على ملكه ومملكته، بحسب ما أخبره وتنبأ به بعض المنجمين والكهنة، وقيل: بحسب ما أخبر به بعض الأنبياء الكرام السابقين (عليهم السلام) فكان يقتل الأبناء الذكور لبني إسرائيل، ويبقي على البنات، وهذه خطة شيطانية محكمة وجريمة مكتملة الأركان بهدف تحطيم قوة بني إسرائيل الضاربة تحطيماً كاملاً، والتمكن من إخضاعهم وإذلالهم، والقضاء التدريجي عليهم. فقتل الأبناء الذكور الذين فيهم النجدة والقوة وبهم يشدّ الأزر في الحروب والمواجهات الأمنية والسياسيّة وتعتمد عليهم في المقاومة لمخططات النظام الإرهابية والعنيفة، يعني القضاء على القيادات ورجال المستقبل، وتحطيم القوة الضاربة المؤثرة في المواجهة تحطيماً كاملاً، أي: القضاء على كل فرصة للتمرد والخروج على النظام ومقاومته. والإبقاء على البنات اللواتي يمثلنّ بوحدهنّ القوة غير الفاعلة في القتال والمواجهات الأمنية والسياسية والثقافية أحياءً لاسترقاقهنّ واستخدامهنّ للمتعة والمعاشرة الجنسيّة فيه، إذلالٌ بالغٌ وإهانة كاملة لبني إسرائيل، من شأنها أن تحطم روحهم المعنوية بشكل كامل، وتقتل في رجالهم المتبقين روح الرجولة والشهامة والغيرة والحميّة، ويعتبر هذا الاجراء الإجرامي البشع سبيلاً إلى تقليص نفوس بني إسرائيل بسبب التفريق بين رجالهم ونسائهم، وهدف فرعون من وراء هذه الاجراءات الإجرامية التعسفيّة والقاسية جداً وغير الإنسانية، أن يثبت بأنه لا زال قادراً على بني إسرائيل ومتمكناً منهم غايةَ القدرة والتمكن بعد ظهور موسى الكليم (عليه السلام) ودعوته، كما كان قادراً عليهم ومتمكناً منهم قبل ذلك، وأنّ ما يدّعيه موسى الكليم (عليه السلام) من النبوة والرسالة عن رب العالمين، وما جاء به من أعمال وأظهره من قدراتٍ خارقةٍ للعادة، وإيمانهم به والتفافهم حوله ومناصرتهم له، لا يغير شيئاً في ميزان القوى المحلي، ولا أثر له في تغيير السياسة الداخليّة القمعية والأساليب الإرهابيّة العنيفة المتبعة في إخضاعهم، وليس له تأثير على وضع النظام الملكي الفرعوني، ولا يمكن أن يغيّر فيه شيئاً يذكر لصالح بني إسرائيل، الطائفة المستضعفة والمضطهدة والمظلومة من النظام، والمغلوب على أمرها والمسيطر عليها بالقهر والغلبة وفرض حكم الأمر الواقع، والمستخدمة فيما يفرض عليها من أعمال شاقة وخدمات سافلة، فهم في جميع الأحوال مقهورين مغلوبين ومرغمين على الخضوع أمام قوة النظام وجبروته، وتابعين مرغمين كارهين لإرادة الملك وسلطانه. وهذا ما يكشف بكل وضوحٍ وصراحة عن القسوة البالغة والتجبّر والعتو لدى فرعون الطاغية وحاشيته الفاسقين الفاسدين الأنانيين، وعدم تورعهم جميعاً عن ارتكاب الجنايات والجرائم الشنيعة لضمان مصالحهم الخاصة والتنكيل بكل من يعارضهم ويشكّل تهديداً على نظامهم، بغضّ النظر عمّن يكون وما هي أهدافه وعدالة قضيته وواقعية مطالبه وشرعيتها وقوة حجته ومنطقه وسلمية أساليبه ووسائله، ما دام يريد أن يغيّر في النظام ويحدّ من سلطاتهم المطلقة، ويُنقص من امتيازاتهم المحرمة وغير الواقعية وغير المشروعة ويضر بمصالحهم الأنانية الخاصة، ويدعو إلى العدالة في الحكم وتوزيع الثروة والشراكة في صناعة القرار والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وتجريم التمييز وتفعيل المراقبة والمحاسبة المؤسسية والشعبية؛ لأن هؤلاء المجرمين لا يؤمنون بحقيقة ولا بمبادئ ولا قيم ولا دين ولا مذهب ولا مصالح وطنية أو قومية ولا بشيءٍ من هذا القبيل، ولا ينفع معهم منطق أو حجة أو برهان، والغاية عندهم تبرر الوسيلة مهما كانت خبيثة أو قذرة، ولا حرمة ولا قدسية لشيءٍ، ولا كرامة لمعارضٍ حتى وإن كان من مثل موسى الكليم والحسين الشهيد (عليهما السلام) أو الشهيد الصدر أو الشهيد السيد قطب أو غيرهما، وغايتهم دائماً تشويه صورة المعارضين وسمعتهم من أجل إيجاد الحواجز الفكرية والنفسية بين الجماهير، لئلا يتفاعلوا معهم ويتأثروا بهم ويأخذوا عنهم، وأن يقلبوا الطاولة عليهم بأيّة وسيلةٍ وحجة منطقيةٍ أو غير منطقيةٍ معقولةٍ أو غير معقولةٍ فمنطقهم الوحيد هو اللامنطق في إدارة اللعبة السياسية للحيلولة دون وصول المعارضين إلى تحقيق أهدافهم في ظل انعدام الأساليب السلمية لتبادل السطلة، إذ يعتقدون بأن الحق في السلطة حصرٌ عليهم، وليس لأحدٍ غيرهم فيه حقٌ، ووسيلتهم للوصول إلى الحكم والبقاء فيه هو العنف والقوة والإرهاب وشراء ضمائر أصحاب النفوس الضعيفة من النخبة وغيرهم.

وقد طمأن فرعون الطاغية حاشيته المحذرين له والمحرضين، بقوله: <وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُون>[2] أي: أن له القوة المالية و الماديّة والبشرية والقدرة والإرادة الكافية ما يمكّنه من تحقيق ما يريده ويعزم عليه في بني إسرائيل، والقهر لهم والغلبة عليهم وفرض السيطرة الكاملة على الأوضاع، وإخضاع موسى الكليم (عليه السلام) وقومه والمؤمنين به وإرغامهم على الخضوع للنظام الفرعوني ولإرادة الملك وسلطته، بحيث لا يمكنهم الخروج أو تشكيل خطر جدي أو تهديد حقيقي عليهما؛ لأنهم سيكونون محاصرين بشكل كاملٍ، وسيفقدون القدرات المالية والمادية والبشرية اللازمة لذلك، وعليه فإنّ حياة الحاشية ومكانتهم ومناصبهم ومرتباتهم وأُعطياتهم وامتيازاتهم ستكون في أمان ومحفوظة لهم ومصانة، فلا يخافوا ولا يقلقوا عليها ولتقرّ أعينهم وتسكن نفوسهم المضطربة عن الخوف والفزع والقلق وليضعوا كامل ثقتهم في فرعون ويطمئنوا إلى قدراته ومواهبه وسياسته ودهائه، وإلى ما بيده من جيش وشرطة وما يملكه من إمكانياتٍ مالية ومادية وبشرية ضخمة وعتاد، ولا يخشوا ولا يخافوا ولا يرتاعوا ولا يقلقوا مما رأوه من موسى الكليم (عليه السلام) من المواهب والقدرات والأفعال الخارقة للعادة ولا من إيمان الكثير من الناس به والتفافهم حوله ومناصرته والانخراط في حركته الإصلاحية والثوريّة واتخاذه رمزاً لهم باعتباره المنقذ التاريخي لهم، فالنظام يمتلك من القوة والامكانيات والقدرات ما يكفي لقهر موسى الكليم (عليه السلام) مع قومه والمؤمنين به على الخضوع للنظام ولإرادة الملك وإذلالهم والقضاء الكامل على ما يمثلونه من خطر وتهديد، وقد أراد فرعون من وراء ذلك تطييب أنفسهم وليسكّن روعهم واضطرابهم ويزيل ما دخل قلوبهم من الخوف والقلق والطيش، وليضمن ولاءهم ووقوفهم معه وإلى صفه في هذه المحنة العظيمة والمنعطف التاريخيّ الخطير، وهو مجرد كلام مبنيٍ على الجهل والغرور ولا واقعية له عند كل عاقل يحسب الأمور بواقعيّة ومنطق، إلا أن هؤلاء المنافقون الانتهازيون لا يفقهون ولا يعقلون الحقائق؛ لأنهم مستغرقون في عالم الدنيا والمادة والمصالح الدنيوية، ورغبتهم الأولى هي التضامن مع سيدهم إلى آخر نفس؛ لأنهم لا يريدون أن يسلّموا إلى الحقائق والحجج والمنطق ولا يريدون أن يتنازلوا عن مصالحهم الدنيوية العاجلة الفانية وما يحصلون عليه من النظام من امتيازات مهما كلفهم ذلك من ثمن، وحسابهم بأن الذين سيدفعون الثمن هم الأتباع والجنود والشرطة وليس هم، ومجازفتهم بأن يدفع هؤلاء الجهلة والحمقى الثمن ويسلموا هم وتسلم لهم مصالحهم وغنائمهم، وهذا ما دأب عليه هؤلاء الانتهازيون الأنانيون في العالم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا.

وهنا ينبغى تسجيل بعض الملاحظات المهمة، منها:

أ.   أنّ فرعون الطاغية كان غارقاً في ذاته وأنانيته ومغروراً بشكل كامل بقوته وبما يملك من الامكانيات الضخمة المالية والمادية والبشرية، بحيث ينفصل عن الواقع وعن الحقيقة فلا يراهما ولا يعقل حجة أو دليل أو برهان ولا يستفيد من موعظة صادقة ونصيحة مخلصة، فتجاهل تماماً المعجزات النيّرات الباهرات والبيّنات الواضحات والأدلة الواضحة والبراهين الساطعة القاطعة التي جاء بها موسى الكليم (عليه السلام) من عند رب العالمين، وتجاهل القدرة الإلهية المطلقة التي تقف وراء موسى الكليم (عليه السلام) وتسانده وتدعمه وتنصره، وتجاهل المبادئ السامية والقيم الإنسانية الرفيعة وعدالة قضية بني إسرائيل وشرعية مطالبهم الإصلاحية الدينية والسياسية والحقوقية وحركتهم الثورية التحررية، وما يتمتعون به من قوة الحجة والمنطق، وما لديهم من إرادة فولاذية لا تكسر ولا تلين، وقوة معنوية لا تغلب ولا تقهر، وكان جاهلاً بشكل كاملٍ ومطبقٍ بالسنن الإلهية الحاكمة على الكون والتاريخ، وهنا تنبغي الإشارة إلى الفرق بين الدهاء في الإدارة السياسية على المدى القريب، والعمل وفق السنن التاريخية للمحافظة على النظام والدولة وتحقيق التنمية المستدامة الشاملة على المدى البعيد، فقد ينجح الحاكم الداهية في إدارة البلاد أو الأزمة على المدى القريب، ولكنه يتصرف بما يقضي على النظام والدولة على المدى البعيد، ومن ذلك اللجوء إلى الظلم والعنف والإرهاب في قمع الشعب والدخول في طريق المفاصلة واللاعودة بينه وبين الشعب الذي ينتهي حتماً بالقضاء عليه، فالحاكم يزول والشعب يبقى، وقد ثبت بالتجربة التاريخية والمعاصرة، بأنّ الظلم والتجبّر والطغيان سببٌ كافي لهلاك الحاكم الظالم المتجبر والقضاء التام عليه وإزالة ملكه، وبقاء المظلوم المستضعف ذي المبدأ الصحيح والقضية العادلة وتأييده ونصرته متى صبر واحتسب وجاهد وكافح بجد وإخلاص، وفي الحديث عن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام) قوله: «إياك والظلم فإنه يزول عمن تظلمه ويبقى عليك»[3] وقوله (عليه السلام): «من جار أهلكه جوره»[4] وقال (عليه السلام): «ليس شيءٌ أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامةٍ على ظلم»[5] وعليه: فعاقبة الظلم على خلاف ظاهره، فظاهره القوة والتمكن وعاقبته البوار والهلاك، وهو يقضي على الظالم القوي المتجبر، ويبقي على المظلوم المستضعف الصابر المحتسب المكافح، وهذا ما عبرت عنه السيدة الجليلة عقيلة بني هاشم زينب بنت أمير المؤمنين بوضوح وبلاغة منقطعة النظير في رؤيتها العرفانية الصافية النقية وبصيرتها النافذة التي أظهرتها وكشفت عنها في خطبتها الجريئة البليغة التي خاطبت بها الطاغية يزيد بن معاوية في مجلسه في الشام وكأنها تخطب عن لسان أبيها، وذلك حين أدخلت على يزيد بن معاوية في مجلسه بالشام وهي مكظومة حزينة بعد مقتل أخيها سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين (عليه السلام) فقالت: «أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى، أن بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة؟! وإن ذلك لعظم خطرك عنده؟! فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، مهلاً .. مهلاً، أنسيت قول الله تعالى: <وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ>[6] إلى أن قالت: فكد كيدك واسعَ سيعك وناصب جهدك فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولا تدرك أمدنا ولا ترخص عنك عارها، وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين»[7].

ب. أنّ فرعون الطاغية قد استعمل ضمير الجمع في قوله: <سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ>[8] وفي قوله: <وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ>[9] مما يدل على غرقه بشكل كامل في وحل الأنانية والتكبّر وتضخّم وحب الذات، فهو يختصر الشعب أو الأمة في نفسه، كما هو دأب الفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين في العالم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا، فهم يختصرون الأمة في أنفسهم وينسبونها إليهم وينسبون إنجازاتها ونجاحاتها إلى أنفسهم بغير وجه حق وبشكل أناني شنيع، وهم محور وجودها وتاريخها وعملها وحركتها وتنميتها وروحها وعلة حياتها، فلا كلمة لها غير كلمتهم، ولا إرادة لها غير إرادتهم، ولا رغبة لها غير رغبتهم، بل لا عقل لها غير عقلهم ولا تفكير لها غير تفكيرهم ولا همّ لها غير همهم، فهم من جهة يفرضون سلطتهم عليها بحكم الأمر الواقع ويخضعونها لإرادتهم بالعنف والقوة والإرهاب، ومن جهة ثانية هم خيارها الأوحد والأفضل على الإطلاق وكأنّ الإرادة الإلهية انتخبتهم لها ومنّت عليها بهم، وهم فلتات التاريخ وفرصة الدهر للأمة، وعليه: يفرضون عليها التبعية والاستعباد والخضوع لإرادتهم المطلقة ويستخدمونها لأهوائهم ورغباتهم وشهواتهم الحيوانية وملذاتهم الحسيّة ويسخّرونهم لخدمة مصالحهم بدل أن يعبّروا هم عن إرادتها ويعملوا من أجل مصلحتها ومع ذلك عليها أن تمجدهم وتقدسهم وتسبّح بحمدهم، ولا عجب ولا غرابة فهم عنده خلقوا من أجله !!

ج. أنّ فرعون الطاغيّة لم يقرر قتل موسى الكليم (عليه السلام) في أول الأمر، رغم أنه أراد ذلك ورغب فيه، إلا أنه أعرض عنه تحت تأثير نصيحة مؤمن آل فرعون «حزقيل» وتحذيره، حیث غرس في نفوس فرعون وحاشیته احتمال أن يكون موسى الكليم (عليه السلام) مرسلاً حقيقةً وواقعاً من الله رب العالمين، وأخافهم من أن يكون قتله سبباً لإنزال العقوبات الإلهيّة عليهم كما حدث للأمم السابقة، مثل: عاد وثمود، وهذا يكشف عن أمورٍ عديدةٍ، منها: مدى القلق والاضطراب المتمكن في نفس فرعون، وعلمه ويقينه بأنه ليس بإله ولا ربّ وإنما مدعٍ كذاب، والتأثير البالغ الذي تركته معجزات موسى الكليم (عليه السلام) وبيّناته في نفسه، واحتمال صدقه إن لم يكن يقينه بصدقه، إلا أنّ شدّة تعلقه بالملك والامتيازات والصلاحيات الملكية والمكانة الدينية المتميزة عند قومه ومصالحه أغرته بالعناد والمكابرة، رغم أنّ مجرد احتمال الصدق مما تجب العناية به لخطورة النتائج الوجوديّة المصيريّة المترتبة عليه، وعليه: فإنّ عناد فرعون ومكابرته وسعيه لقلب الحقائق والتهرب منها في هذا الموضوع المهم الخطير جداً، مخالفٌ للعقل والمنطق والفطرة والطبع الإنساني السليم والأخلاق الحميدة.

وربما يكون فرعون قد أعرض عن قتل موسى الكليم (عليه السلام) في بادئ الأمر، خوفاً من أن يؤدي قتله إلى انقلاب الرأي العام ضده والثورة عليه وإسقاط نظامه وملكه، وذلك بسبب التأثير العميق في أبناء الشعب الذي تركه انتصار موسى الكليم (عليه السلام) وتغلبه على السحرة والظهور عليهم، ثمّ سجود السحرة لرب العالمين وإعلانهم الإيمان بالتوحيد الحقيقي لرب العالمين وبالمعاد والنبوة، وتصديقهم بنبوة موسى الكليم وهارون  (عليهما السلام) وبرسالتهما إلى الناس من رب العالمين وبعدالة قضيتهما وشرعية مطالبهما الإصلاحية الدينية والسياسية والحقوقية وكفرهم بألوهية فرعون وربوبيته وبحقه في الملك ومعارضتهم لنظامه ودولته وحكومته، ورغبة الكثير من الناس في دينه، وخوفه أيضاً من أن يؤدي قتله إلى زيادة الغضب لدى قومه بني إسرائيل، مما يدفعهم إلى الثورة العنيفة ضده وضد نظامه ودولته وخروج الأمور عن السيطرة وتطورها إلى ما لا تحمد عقباه، وتكثر الخسائر المادية والبشرية بين الطرفين، وهذا ما كان فرعون حريصاً على تجنبه والابتعاد عنه، أي: لم يكن راغباً في أن تصل الأمور إلى هذا الحد في بادئ الأمر، وهو حذرٌ صحيح وفي مكانه وحكيم يحسب له، إلا أنه غيّر رأيه بعد حدوث بعض التطورات، منها: كثرة أتباع موسى الكليم (عليه السلام) والمؤمنين به، واتخاذهم له رمزاً منقذاً والالتفاف حوله، وتحديهم للنظام الفرعوني والدولة الفرعونية والحكومة الفرعونية ولشخص فرعون وهيبته وقدسيته والخروج عن طاعته وسلطته، مما أدخل الخوف والقلق في قلوب حاشية فرعون، فذهبوا إلى فرعون وحذروه من خطورة الأوضاع وحرّضوه على اتخاذ موقف متشدد من موسى الكليم (عليه السلام) وقومه و المؤمنين به، فوافقهم الرأي وقرر التصعيد الأمني الحاسم ضدهم.

والفرق بين الموقفين ترك موسى الكليم (عليه السلام) وقومه المؤمنين به وعدم التعرض لهم في بادئ الأمر، ثم الاصرار على التصعيد الأمنيّ الحاسم ضدهم ومعاقبتهم والانتقام منهم في آخر الأمر، يدل على أن الأنظمة الدكتاتورية والحكومات المستبدّة لا تستند في مواقفها على المنطق والمبادئ والقيم والحقوق، فهي لا تؤمن بشيء من ذلك ولا تعترف به، ولكنّها تستند إلى ما فيه مصلحتها بحسب الظروف والمعطيات، وتغير مواقفها بحسب تغيرها وتدور مدار مصالحها فقط، فإذا كانت الظروف والمعطيات تؤشر بحسب تقديرهم على أن مصلحتهم في العنف والإرهاب بكافة أشكاله، لجؤوا إليه وغيّروا الدستور والقوانين لهذا الغرض، وعملت مؤسسات الدولة الصورية البرلمان والقضاء ولجان حقوق الإنسان وغيرها على تنفيذ هذه السياسة الحكيمة الصارمة باسم القانون والشعب والوطن. وإذا كانت الظروف والمعطيات المحلية والإقليمية والدولية تؤشر بحسب تقديرهم على أن مصلحتهم في التسامح والتغاضي لجؤوا إليه وطلبوه مؤقتاً باسم الدين والمبادئ والقيم وحقوق الإنسان والوطن ونحوها حتى تستقيم لهم الأوضاع فيعودوا إلى سيرتهم وطبيعتهم الأولى القائمة على القمع والقسوة والعنف والإرهاب. والموقف الأخير لا يدل على أن النظام الفرعوني كان في مركز القوة والتمكن، أو كما قال فرعون <وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُون>[10] ففرعون نفسه كان غارقاً في القلق والاضطراب، وهذا القول يكشف عن تماسكه الظاهري الذي هو خلاف ما يعانيه في الباطن بوصفه رأس النظام والدولة والحكومة، فأراد أن يطمئن حاشيته لكي يصمدوا ويثبتوا ولا يتفرقوا عنه فإنّ ما جاء به موسى الكليم من المعجزات الباهرات، وإعلان السحرة لإيمانهم أمام الجماهير في ميدان المبارزة وبحضور فرعون وملئه وأعوانه وأنصاره وكامل جهازه الديني والأمني والعسكري والسياسي والإداري والفني، قد وضع فرعون وحاشيته بين خيارين لا ثالث لهما، إما التسليم لموسى الكليم (عليه السلام) وإما المواجهة الحاسمة معه، وقد رفضوا التسليم وقرروا المواجهة مكابرةً منهم وعناداً، لأنهم لا يريدون التنازل عن مكاسبهم ومصالحهم وامتيازاتهم، ولكنهم كانوا يعانون من الخوف والقلق والرعب الشديد من هذه المواجهة، وهذا الأسلوب مما دأبت عليه الكثير من الأنظمة الدكتاتورية والحكومات المستبدة في مواجهة الشعوب والمعارضة، وما ينبغي إدراكه ومعرفته والاطمئنان إليه أن لجوئهم إلى العنف والإرهاب والقوة لا يدل على قوتهم وتمكنهم، وإنما يدل على شدة خوفهم وقلقهم وشعورهم العميق بالضعف والخطر، وينبغي أيضاً أن تدرك المعارضة وهذه الحكومات أن لجوئها إلى العنف والإرهاب يدخلها في طريق اللاعودة مع الشعب الذي ينتهي حتماً بالقضاء عليها وزوالها من الوجود.


المصادر والمراجع

  • [1]. نفس المصدر
  • [2]. نفس المصدر
  • [3]. غرر الحكم 2643
  • [4]. غرر الحكم 7836-8723
  • [5]. نهج البلاغة، كتاب 53، من عهد له(ع) كتبه للأشتر النخعي
  • [6]. آل عمران: 178
  • [7]. إكسير العبادات في أسرار الشهادات، الأرندي، جزء 3، صفحة 530-532
  • [8]. الأعراف: 127
  • [9]. نفس المصدر
  • [10]. نفس المصدر-
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الأول | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟