مواضيع

تحريض الملأ لفرعون على الانتقام من موسى وقومه

<وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ>

 بعد أن غلب موسى الكليم (عليه السلام) وانتصر بمعجزته الإلهية العظيمة وآيات ربه (عز وجل) على السحرة وسجد السحرة الكرام مذعنين طائعين لرب العالمين، وأعلنوا إيمانهم بالتوحيد الحقيقي والمعاد والنبوة وتصديقهم بنبوة موسى الكليم وهارون  (عليهما السلام) ورسالتهما وعدالة قضيتهما وشرعية مطالبهما الإصلاحيّة، الدينية والسياسية والحقوقية أمام الجماهير المحتشدة في ميدان المبارزة في الصحراء، وبحضور فرعون وملئه ومعاونيه وأنصاره وكامل جهازه الديني والأمني والعسكري والسياسي والإداري والفني، وافتضحت خيانة فرعون وانكشف كذبه وثبتت عدم أهليته للحكم وتحمل المسؤولية العامة وبانَ فسادُ نظامه ودينه، نهض موسى الكليم (عليه السلام) بالدعوة إلى دين ربّه الحق واجتمع حوله خلق كثيرٌ من الناس، ودليله على دعوته ما حدث بينه وبين السحرة، بالإضافة إلى الأدلة الواضحة والبراهين الساطعة التي يسوقها لإثبات صحة ما يدعو إليه، ويشفعه ببيان واضح بليغ ومؤثر غاية التأثير في النفوس الصالحة، فخاف الأشراف والأتباع من قوم فرعون، والمتملقين من الانتهازيين الأنانيين والنفعيين الفاسدين من أصحاب رؤوس الأموال وحملة الشهادات والكتّاب والصحفيين ونحوهم، أن تتغير الأوضاع وتصبح الأمور لصالح موسى الكليم (عليه السلام) ودعوته وحركته الإصلاحية، ويسقط النظام الفرعوني القائم، وتدور دوائر السوء والبلوى عليهم وعلى سيدهم الملك الإله، ويفقدوا بذلك مكانتهم ووظائفهم ومناصبهم ومرتباتهم وعطاءاتهم وامتيازاتهم التي يحصلون عليها ثمناً لولائهم للنظام والملك ومقابل ما يقدمونه من خدمات جليلة لصالحهما، وقد تدور الدوائر عليهم وعلى سيدهم الملك الإله الذي هو وليّ نعمتهم، فيحاسبوا على جرائمهم وخياناتهم وانتهاكاتهم لحقوق الإنسان، ويحاكموا في محاكم عادلة تقتص منهم بالحق وتنزل بهم العقوبات التي يستحقونها، فأصابهم لهذا التصوّر والتقدير المتوقع الحدوث الخوف والرعب الشديد والقلق. ويبدو أن فرعون الطاغية في أول الأمر، بسبب الصدمة العظيمة المفاجئة والرعب والخوف الشديد اللذين أصاباه من تغلب موسى الكليم (عليه السلام) وانتصاره على السحرة المحترفين المهرة، وما رآه من معجزاتِ موسى الكليم (عليه السلام) العظيمة، وإيمان السحرة المفاجئ وغير المتوقع بالتوحيد والمعاد والنبوة وتصديقهم بنبوة موسى وهارون (عليهما السلام) وبعدالة قضيتهما وشرعية مطالبهما الإصلاحيّة الدينية والسياسية والحقوقيّة، وكفرهم بألوهيّة فرعون وربوبيته وملكه، وإعلانهم ذلك صراحة بين الجماهير المحتشدة في ميدان المبارزة وبحضور فرعون وملئه وأعوانه وأنصاره وكامل جهازه، والهزة العنيفة التي أصابت الجماهير المحتشدة في الميدان من الأقباط والإسرائيليين وغيرهم لما رأوه من المعجزة الإلهيّة العظيمة وإيمان السحرة وإعلانهم له، والتفاعل الشعبيّ الواسع والاختلاف الذي برز بين الجماهير حول حقيقة موسى الكليم (عليه السلام) ودينه ودعوته وحركته الإصلاحيّة والضجّة والصخب الذي صاحب ذلك، وقد رغب الكثير من الناس في دينه، وخوّف فرعون من عواقب التعرض بالسوء لموسى الكليم (عليه السلام) وقومه والمؤمنين به؛ بسبب ما يمتلكه من القدرات الخارقة الخطيرة، وكان فرعون مدركاً وشاهداً لجميع ذلك، فلم ير من الحكمة والصواب وهو الداهية في سياسته وتدبيره، أن يتّخذ موقفاً متشدداً من موسى الكليم (عليه السلام) وقومه والمؤمنين به في مثل تلك الأجواء والظروف، فلم يبادر إلى معاقبة موسى الكليم (عليه السلام) وقومه، ليس رحمةً بهم أو إنصافاً لهم أو حفظاً لحقوقهم أو لأيّ شيءٍ آخرٍ من هذا النوع، فليس ذلك من أخلاقه ولا من أخلاق الفراعنة المتجبّرين والحكّام المستبدّين الظلمة أمثاله، وإنما من أجل مصلحته ومصلحة نظامه ولشعوره بالعجز والخطر على نفسه وعلى ملكه ونظامه من جرّاء ذلك، ولولا ذلك لم يكفّ عن ظلمهم وإنزال أشد العقوبات بهم كما هي سجيته وطبعه.

وقد وجد موسى الكليم (عليه السلام) وأتباعه المؤمنين الصالحين في هذا التردد من قبل فرعون في معاقبتهم ومنحهم بعض الحرية نسبياً، الفرصة سانحة لهم للدعوة إلى الدين الإلهي الحق وهو دين التوحيد الخالص، والعمل على توحيد وبناء صفوفهم، فاستفادوا من هذه الفرصة واشتغلوا بجد ومثابرة واجتهاد في الدعوة والتبليغ بالدين الإلهي الحق، فأسلم من بني إسرائيل ستمائة ألف كما تقول بعض الأحاديث الشريفة، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه الدعاة والمجاهدون في سبيل الله (عز وجل) والمناضلون الشرفاء بخصوص انتهاز الفرص في الدعوة والإصلاح أو الثورة، فلا يضيّعوا الفرص السانحة فإنها تمر مر السحاب ولا تعوّض، وقد تترتب على فواتها خسائر عظيمة وغصص بالغة، يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): «انتهزوا فرص الخير فإنها تمر مرّ السحاب»[1] وعنه (عليه السلام): «الفرصة سريعة الفوت وبطيئة العود»[2] ويجب فيها إدراك العلاقة بين الموقف والظروف المحيطة، قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): «الأمور مرهونة بأوقاتها»[3] وعليه: يجب خلق التوازن بين أمرين: اختيار الوقت أو الظروف المناسبة، والمبادرة في الوقت المناسب وعدم التأخر، وفي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قوله: «من الخُرقِ المعاجلة قبل الإمكان، والأناةُ بعد الفرصة»[4] ولا يصحّ تضييع الفرص السانحة بحجة الاستقصاء ونحوه، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «من انتظر بمعاجلة الفرصة مؤاجلة الاستقصاء، سلبته الأيام فرصته لأن من شأن الأيام السلب، وسبيل الزمان الفوت»[5].

وقد مرّ الإمامان الباقرُ وولده الصادقُ (عليهما السلام) بظروفٍ مماثلة ولكن بوجه آخر، حيث عاصرا مرحلة تداعي وأفول النظام الأموي، وبروز النظام العباسي وبزوغ نجمه، وانشغال الطرفان بصراعهما من أجل السلطة وإهمال الشؤون الدينية والعملية، وسادت الاضطربات الدولة الإسلامية فاستغل الإمامان العملاقان الفرصة، إذ انسحبا من المواجهة المكشوفة بين الطرفين واتخذا موقف الحياد، وانصرفا بحكمة وحنكة وقوة عزم وإرادة إلى نشر تعاليم مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في جميع المجالات العلمية والمعرفية والثقافية، وقد أخذ عنهما العلمَ عددٌ كبيرٌ من المسلمين بشتى اتجاهاتهم وميولهم المذهبية والفكرية، وتربى على يديهما جمهرة كبيرة من الفقهاء الكبار والعلماء العظام والرواة والمفسرين، الذين جابوا شرق الأرض وغربها لنشر العلم والمعرفة والثقافة الإسلامية، وتوجّها كذلك إلى بناء القاعدة الصلبة من الجماعة المؤمنة الصالحة التي تتبنى وتتبع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وتسعى جاهدة لتحقيق أهدافهم السامية، فأعادا بذلك للإسلام نضارته ورونقه الجميل، وحافظا على ثروته العلمية والفكرية والثقافية من الضياع، وقد اتخذا من المسجد النبوي الشريف مكاناً لإلقاء دروسهما على تلاميذهما.

وبدون شكّ فإنّ انتهاز الفرص في الدعوة والجهاد والنضال والحركات الإصلاحية والثورية، يحتاج إلى بصيرة نافذةٍ في تشخيص الواقع والجرأة والشجاعة والتحلي بروح المبادرة، ومن فقد شيئاً من ذلك فإنه بدون شكّ يُضيّع الفرص، وعليه يجب أن تتحلى القيادات الفاعلة بهذه الصفات الثلاث الرئيسة: البصيرة والشجاعة وروح المبادرة.

وأقف وقفة قصيرة مع البصيرة، قول الله تعالى <قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي>[6] فكل قائدٍ يجب أن يتحلى بالبصيرة والبصيرة، تعني: الرؤية الصحيحة لظواهر الأمور وبواطنها التي لا تحيد عن الحق والهدى، وهي قسمين: بصيرة في الدين يؤدي فقدانها إلى الانحراف والضلال، وبصيرة في الواقع يؤدي فقدانها الى ضياع الفرص والفساد والخراب ووضع الأمور في غير مواضعها ولغير غاياتها والمراد منها، والقائد يجب أن يتحلى بالبصيرتين معاً ولا تغني إحداهما عن الأخرى؛ لأنّ الدين هو الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، والدين لا يتحرك في فراغ، وإنما يتحرك في الواقع ويقوده، وإذا فقد القائد المسلم البصيرة بأحدهما، لن يصل إلى تحقيق غاية الدين الحنيف وأهدافه.

وقد أدى انصراف موسى الكليم (عليه السلام) وأتباعه المخلصين إلى الدعوة للدين الجديد وانتشاره ودخول خلقٍ كثيرٍ فيه مع شعورهم بالأمان النسبيّ، إلى تزايد الخوف والقلق لدى الأشراف والأتباع والأنصار من قوم فرعون، فتوجهوا إلى فرعون الطاغية بكل همّة وعزم محذرين، ليهجونه ويحرضونه – كما هو دأب حاشية السوء – على موسى الكليم (عليه السلام) وقومه والمؤمنين، ويغرّونه للإيقاع بهم واتخاذ موقف متشدد منهم وقتلهم، وذلك خوفاً منهم على مكانتهم ومناصبهم ومصالحهم وامتيازاتهم التي يمنحهم إيّاها النظام. فهؤلاء الأشراف والأتباع والأنصار لم يذعنوا إلى الآيات الساطعة والبيّنات الواضحة التي جاء بها موسى الكليم (عليه السلام) من عند رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين جلَّ جلاله، وهي لا تقبل الشكّ والرد، بل جحدوا بها واستكبروا عليها وكابروا الحق وعاندوه، مما يدلّ على أنّ الإنسان إذا استغرق في عالم الدنيا والمادة ولم يفكر إلا في مصالحه الدنيوية العاجلة الفانية، فإنّ نفسه تتلوث ويفسد طبعه ويسوء منطقه ولا ينفع معه دليل ولا برهان، ويتحول إلى شيطانٍ ضالٍ مضلٍ مفسدٍ في الأرض وحيوانٍ هائج، ولا يتورع عن الكذب وقلب الحقائق ولا عن ارتكاب أيّةِ خطيئةٍ أو جريمة؛ لأنه لا يقيم وزناً أو اعتباراً للإنسانية والمبادىء والقيم، وعنده الغاية تبرر الوسيلةَ دائماً، وقد دأب هؤلاء الأنانيون على التملق إلى الحكام المستبدين الظلمة، والإشارة عليهم بالشر والفساد وما يرضي أهواءهم وشهواتهم ولذاتهم ونزواتهم، ليحجزوا بذلك لأنفسهم مكاناً على موائدهم ونصيباً من قمامتهم وجيفهم، فيجدر بكل عاقل وكل شريف ذي مبدأ وضمير، أن يخاف أمثال هؤلاء المرتزقة الشياطين على دينه ونفسه ومصالحه، وأن لا يلتفت إلى مايتشدقون به من زخارف الأقوال المنمقة والتبريرات الواهية ليخدعوه بها.

لقد أنكر هؤلاء المجرمون المرتزقة واستكثروا، أن يترك فرعون الطاغية موسى الكليم (عليه السلام) وقومه والمؤمنين به و شأنهم، دون أن يضيّقَ عليهم الخناق و يعاقبهم بأشد العقوبات ويقتلهم، وطرحوا سببين يوجبان بحسب اعتقادهم وتقديرهم العقوبة القاسية والقتل لموسى الكليم (عليه السلام) وقومه والمؤمنين به، وهما:

أ.   الإفساد في الأرض، قوله: <لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ>[7] أي: أنهم اعتبروا الإيمان بالتوحيد والمعاد والنبوة، والدعوة إلى مكارم الأخلاق والأعمال الصالحة التي هي الخير والصلاح بعينه وحقيقته، اعتبروها باطلاً وفساداً وإفساداً في الأرض؛ لأن فيه مخالفةً لفرعون ودينه ونظام حكمه؛ ولأنه يحرض المؤمنين على عصيانه ومخالفته، فيوقع الاختلاف بين أبناء الشعب حول فرعون ويشتت شملهم ويفرق جمعهم، ويضعف جانب فرعون وسلطته ويبدّل الدين الرسمي والشعبي الذي استقامت عليه أمور أهل المملكة وأحوالهم لقرون عديدة من الزمن، وذلك بغض النظر عن واقع الحق والعدل والصدق والخير والفضيلة والصلاح والإصلاح في فرعون ونظامه ودولته وحكومته وخارجها، وبغض النظر عن الحق والعدل والصدق وقوة الحجّة والمنطق التي يقوم عليها التوحيد والدين الجديد، وما يؤسسان له من الخير والفضيلة والحرية والعزة والكرامة والصلاح والإصلاح والرفاه والازدهار والتنميّة الشاملة المستدامة ونحو ذلك، أي: تجاهلوا في حكمهم وموقفهم حقيقة الوضع الفاسد القائم، وحقيقة الدين والدعوة الجديدة، والإرادة الشعبية وحقوق الإنسان، ولم ينظروا إلا إلى أنفسهم، ولم يفكروا إلا في مصالحهم الأنانية الخاصة، وجعلوا ما هو سبباً وأساساً للإصلاح، سبباً وأساساً للفساد، وهكذا يتجاهل المتعصبون الجاهلون الظالمون الحقائق ويغيرونها تبعاً لأهوائهم ونزواتهم ورغباتهم بغير اكتراث، وهذا الموقف الأناني يعني: أنّ الفساد عند الفراعنة والحكّام المستبدين الظلمة والانتهازيين والنفعيين الفاسدين نسبي، وهو كل ما يهدد ملكهم وسلطتهم ويضر بمصالحهم الأنانية الخاصة، وليس فساداً موضوعياً، يعني: الخروج عن الاعتدال والاستقامة، ويقوم على الحقائق والمنطق السليم والمصالح العامة الجوهرية والحيويّة ونحو ذلك.

ب. إنكار ألوهية فرعون وربوبيته، قولهم: <وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ>[8] أي: ينكر ألوهيتك وربوبيتك، ويترك طاعتك وعبادتك يعبد غيرك ويطيعه، وينهى عنك ويصدّ الناسَ عن اتباعك وطاعتك وعبادتك ويغيرهم عليك، ويدعوهم إلى مخالفتك فينقلبوا عليك ويغلبوك على الملك ويفسدوا ملكك ونظام دولتك، غير مكترث بك وبملكك وألوهيتك وقوتك وسطوتك. ويترك عبادة الآلهة التي نصبتها وتدعو إليها، ويصدّ الناس عنك وعنها، مما يهون من مكانتك ويفقدك هيبتك وقدسيتك، ويهدم الأساس الديني والفكري الذي يقوم عليه نظام الدولة والحكم ويضعفهما. فإنّ فرعون الطاغية يزعم أنه إله وإبن إله، ويحكم باسم الآلهة المقدسة، وهو الإبن الحبيب لها ويستمد منها شرعية نظامه ودولته وحكومته وملكه وسلطانه، فلا حاكم للمصريين – أهل مملكته – يملكهم ويدبر أمرهم والمنعم عليهم والرازق لهم باسم الآلهة وتجب طاعته وعبادته إلا هو وحده لا شريك له، وليس من اتخذه موسى الكليم (عليه السلام) رباً، ويدعي أنه رب العالمين، وقد أرسله إلى فرعون وقومه وبني إسرائيل والناس أجمعين في دورته الرساليّة، وأن الآلهة هي التي تتولى تسديده وإرشاده، وقيل: إنّ فرعون جعل لقومه آلهة، مثل: الشمس والكواكب والأصنام وغيرها، وأمرهم أن يعبدوها تقرّباً إليه، فهو إله الآلهة والرب الأعلى لجميع أهل مملكته، وأنّ فعله عين الحق والحكمة والصواب، وتمثّل إرادته القانون، ولأقواله ما للعقيدة الدينية من القدسية والقوة، وكل ما يتفوه به يجب التسليم بصحته والخضوع له، ويجب أن يطبّق ويعمل به في الحال وبدون شك أو تردد أو تراخي، حتى لو كان قاسياً ومدعاةً للضرر ظاهراً؛ لأنه يخرج من فم إله ولا يخرج اعتباطاً، وإنما هو عين الحق والحكمة والصواب، والعمل به ينتهي إلى الخير والصلاح والسعادة، وعلى هذا الأساس يقوم نظام الدولة والحكم وتجري الأمور في تدبير شؤون الأفراد والجماعات والأمة.

والجدير بالذكر: أنّ فرعون الطاغية لا يعتقد أنه الخالق للسماوات والأرض وما فيهما ولا يدعو إلى شيء من ذلك؛ لأنه معلوم البطلان بالبداهة والحس، إنما يعتقد بأنه المالك لأرض مصر ومن عليها وهو المدبّر لأمورهم ومصدر الخير والسعد لأهلها وتجب طاعته وعبادته والخضوع لإرادته واتباع ما يأمر به وينهى عنه على هذا الأساس وهذا ما يدعو إليه، وهناك احتمالان حول الاعتقاد بالخالق للكون «واجب الوجود» عند فرعون، وهما:

أ.   أن يكون فرعون من الدهريين الذين ينكرون وجود الصانع للكون كما ذهب لذلك بعض المفسرين وعلى رأسهم الرازي في التفسير الكبير.

ب. أنه يعتقد بوجود الصانع المدبر للكون وهو واجب الوجود وإله الآلهة ورب الأرباب، ولكنه يعتقد كما يعتقد العلمانيون اليوم، بأنّ لا دخل له في التشريع والحكومة، على خلاف الرؤية الإسلامية القرآنية التي تحصر التشريع والحكومة في يد الله سبحانه وتعالى، ويعتقد فرعون بأن التشريع والحكومة من اختصاصه هو، ويؤيد ذلك تعيين الآلهة كما يفعل الوثنيون والاعتقاد بالآخرة.

وعليه؛ فإنّ اعتقاد موسى الكليم (عليه السلام) بالتوحيد ودعوته له، وانكاره لصفتي الألوهية والربوبية في فرعون، يعني هدم الأساس الفكري والديني الذي يقوم عليه نظام الدولة والحكم الفرعوني، وينتهي بانهيار الدولة وضياع ما يتمتع به فرعون من مكانة دينية وقدسية وامتيازات، وتعرض مصالح الأشراف والمعاونين والأنصار والانتهازين المتملقين إلى الخطر والضياع، وهذا مما لا ينبغي عندهم أن يسمح بحدوثه أبداً، فيجب تتبع موسى الكليم (عليه السلام) وقومه والمؤمنين به وإنزال أشدّ العقوبات بهم وقتلهم؛ منعاً لانهيار النظام والدولة والحكومة وضياع مصالح القائمين عليها.

وهكذا تكون حاشية الفراعنة والحكام المستبدين وبطانتهم الفاسدة دائماً، إنهم يسعون دائماً ليكونوا على مستوى أهواء فرعون والحاكم المستبد ونزواته ورغباته، ويعملون مايريده منهم، فلا استقلالية لهم في رأي ولا موقف، وهم تابعون لوليّ نعمتهم، وعبيدٌ لبطونهم وفروجهم وفيها تُحبسُ عقولهم، وهم كذلك سواءً كانوا مستشارين أو وزراء أو موظفين كبار أو قضاة أو أعضاء برلمان أو علماء دين أو رجال أعمال أو كتّاب أو صحفيين أو نحو ذلك، ويفعلون ذلك طمعاً في فتات مائدته أو شيئاً من زبالته أو خوفاً منهم على مكانتهم ومرتباتهم وعطيّاتهم الكبيرة والامتيازات التي يحصلون عليها من النظام ثمناً لولائهم ولخدماتهم للنظام والملك، أو خوفاً من سخطه عليهم وغضبه وانتقامه منهم، فهم في الحقيقة ضحايا سياسة الترغيب والترهيب، وسبايا باعوا أنفسهم في سوق النخاسة السياسيّة بثمنٍ بخس، والقاعدة عندهم: كل ما يضر بالنظام الذي يستفيدون منه وبالملك الذي هو ولي نعمتهم فهو يضرّ بهم، وهو باطل وفساد في الأرض ويجب أن يعاقب كل من يقوم به، بغض النظر عمن يكون هو، وما هي حجته وما هو منطقه والحقائق التي يعتمد عليها والبراهين التي يسوقها والأهداف التي يطمح إليها ويعمل من أجلها والأساليب التي يتبعها، وتجب محاربته وتشويه صورته وسمعته وقلب الطاولة عليه وعمل كل ما من شأنه أن يعيق تحركه ويمنعه من الوصول الى أهدافه وتحقيقها؛ لأن هذه البطانة الفاسدة لا تؤمن بدين أو مبادىء أو قيم ولا قيمة عندهم للحقائق والمنطق، ومنطقهم الوحيد هو اللامنطق، ويقطعون الصلة بشكل تام بين الحقائق وبين المصالح، ويربطون فقط بين المصالح وبين الرغبات الفردية والجماعية لأنفسهم وجماعتهم أو حزبهم ونحو ذلك، والقيمة الوحيدة عندهم هي للمصالح فقط، ونحو ذلك من الأفكار والتصوّرات المادية المنحطة. ولأن فرعون الطاغية يرغب في قتل موسى الكليم (عليه السلام) وقومه والمؤمنين به، وفي ذلك مصلحته ومصلحتهم وفق تقديراتهم وتصوّراتهم، فقد أشاروا عليه بذلك إرضاءً له ولأنفسهم، وليس طلباً للخير والمصلحة، فهم لا يؤمنون بشيء من ذلك ولا يلتزمون به.


المصادر والمراجع

  • [1]. غرر الحكم 2501
  • [2]. غرر الحكم 2019
  • [3]. بحار الأنوار، جزء 77، صفحة 165
  • [4]. نهج البلاغة، حكمة 363
  • [5]. بحار الأنوار، جزء 78، صفحة 268
  • [6]. يوسف: 108
  • [7]. الأعراف: 127
  • [8]. نفس المصدر
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الأول | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟