مواضيع

أدلة الاختلاف والصراع بين الإسلام والعلمانية في الغرب

وقد أخذ اختلاف العلمانية وصراعها مع الإسلام الحنيف في الغرب في الوقت الراهن، أشكالاً عديدة مختلفة، تتداخل فيها أبعاد مختلفة: فكرية وسياسية وثقافية وحزبية وعرقية وعنصرية وعاطفية ونحوها، وأدت إلى تشويش الرؤية والموقف، والإجحاف والتعقيد والصعوبة في الفهم والتمييز، وانعكس جميع ذلك على فهم الإسلام الحنيف والموقف منه ومن المسلمين، وأهم تلك الأشكال والوجوه:

1- الفصل بين الدين والدولة

الفصل بأسلوب سلطوي وقانوني بين الدين والدولة، وتحديد دائرة الدين ومجاله في القضايا والأقوال الشخصية الضيقة المساحة والقليلة الأهمية والتأثير في الواقع الناس ورسم صورة المستقبل وتحديد المصير، وتحديد دائرة الدولة ومجالها في القضايا والشؤون العامة الأكبر مساحة والأكثر أهمية وقيمة وتأثيراً في واقع الناس وحياتهم ورسم صورة مستقبلهم وتحديد مصيرهم في الدارين: الدنيا والآخرة، وعليه: لا يجوز للدولة أن تتدخل في القضايا والشؤون الشخصية، ولا يجوز للدين أن يتدخل في القضايا والشؤون العامة، على القاعدة: ما لله لله، وما لقيصر لقيصر.

هذا بحسب مفهوم العلمانية القانونية، أما بحسب مفهوم العلمانية الكلية الشاملة، فإن الدولة تحتاج جميع المجالات والشؤون: الخاصة والعامة، ولا يوجد فرق في صلاحيات الدولة بين المجال الخاص والمجال العام.

وعلى ضوء المفهومين: تحتل الدولة المركز القوي والوحيد في تدبير حياة الناس ورسم مستقبلهم وتحديد مصيرهم، وتهميش دور الدين أو إلغائه بشكل تام، وفي ذلك: تجاهل تام لحرية العقل والتفكير والاختيار، وعدم التكافؤ في الفرص، وتفضيل المادي على الروحي، والدنيوي على الأخروي، على خلاف العقل والمنطق وميول الفطرة ومقتضيات الطبيعة وأصل الخلقة وتكوين الإنسان من جوهرين: الروح والجسد، وكأن هؤلاء الناس قد نصبوا أنفسهم أرباباً من دون الله سبحانه وتعالى، وقدموا أنفسهم عليه، ونصبوه حارساً على دار لا قيمة لها، ورفعوا يده مطلقاً عن التأثير في حياة عباده وواقعهم ورسم مستقبلهم وتحديد مصيرهم، وكأنهم أولى الناس الذين هم خلقه وعباده منه، وكأنهم هم الخالقون وهو المخلوق، وكأنهم هم المالكون وهو المملوك، وكأنهم هم الأرباب الآمرون الناهون وهو المربوب المأمور المنهي، وكأنهم هم العلماء والحكماء والعارفون بمصالح العباد وهو الجاهل الغافل الغائب الذي لا يعلم شيئاً عن واقع الناس ومستقبلهم ومصيرهم وما يحتاجون لحياتهم وآخرتهم، وقد صادروا تماماً على خلاف المنطق والدليل وميول الفطرة، مسألة البعث والنشور والحساب والجزاء على الأعمال في يوم القيامة، وفصلوا بشكل تام ونهائي وقاطع وحاسم بين عالم الدنيا وبين عالم الآخرة، وبين كمال الإنسان وسعادته ومصلحته الوجودية في دورة الحياة الكاملة وبين معرفة الحقائق والسنن والعمل بمقتضاها، أي: زعموا بأن لا علاقة سببية بين العقيدة وبين السلوك، وصادروا مبدأ البحث العلمي عن الحقيقة، وفرضوا إرادتهم الجائرة كأمر واقع على جميع الناس الذين يوافقونهم والذين يختلفون معهم، وأخرجوا من قواعد اللعبة العمل بالطرق السلمية المشروعة من أجل تغيير هذا النظام، وقد بلغ الحال ببعضهم إلى درجة المطالبة بالتخلي عن فكرة الجحيم والعقاب الأخروي، بحجة أنها تميز بين المؤمنين وغير المؤمنين، والتخلي عن فكرة القضاء والقدر، التي تقول: بأن الله سبحانه وتعالى يقرر بعلمه من سيكون ناجياً، ومن سيكون هالكاً والطفل في بطن أمه، بحجة إدانة الهالك قبل أن يولد، وأنه لا يستفيد من أي طلب إستئناف، ونحو ذلك من الخلط والترهات والخزعبلات التافهة، التي تناقش المسائل العلمية في مجال غير مجالها وبمنهج غير منهجها، والحكم فيها بدون حجة أو منطق او برهان صحيح، وحصروا مصلحة الإنسان وسعادته في العمل وفق قوانين الطبيعة وعقل مادي يحسب حساب المنفعة واللذة والمصلحة الدنيوية، ولا علاقة له بالإله والآخرة وعالم الروح والقيم الدينية والروحية والأخلاقية والإنسانية، وكأنهم يملكون الحق في تقرير ذلك وفرضه على الناس، وهم في الحقيقة لا يملكون مقدار ذرة من ذلك ولا أقل ولا أكثر، وسوف يحاسبون على ذلك حساباً عسيراً في يوم القيامة ويجازون عليه الجزاء العادل الموافق له في السوء، قول الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ 59 وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} أي: قل للمشركين يا محمد موبِّخاً لهم: إن الله تبارك وتعالى قد أنزل لكم من خزائن الغيب رزقاً حلالاً طيباً، لتنتفعوا به في حياتكم وتقيموها به، فجعلتم بعضه حراماً وبعضه حلالاً!! فهل أذن الله؟ج؟ لكم بذلك وسلكتم طريق ما أذن لكم به من الاجتهاد العلمي الصحيح، أم تصرفتم في التحليل والتحريم بحسب أهوائكم الشيطانية ورغباتكم وشهواتكم الحيوانية من دون أن يأذن الله؟ج؟ لكم في ذلك، بأن فرضتم تشريعات من عند أنفسكم وبصورة مستقلة تماماً عن الإرادة الإلهية ومصادر التشريع الإسلامي، أو سلكتم غير الطريق العلمي الصحيح في استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها؟ مع أن التحليل والتحريم تشريع، والتشريع حاكمية، والحاكمية ربوبية، وكلها شؤون إلهية بحتة وليس لكم فيها أي شيء، إذ الله سبحانه وتعالى هو الخالق، وكمال الحكمة في الخلق تجهيز المخلوقات وتوفير كل الوسائل والأسباب التكوينية والتشريعية لها لإيصالها إلى كمالها اللائق بها والمقدر لها وتحصيل سعادتها الحقيقية، ولأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق للأرزاق والواهب لها، وهو وحده صاحب الحق الحصري في بيان حكمها، وأن التحليل والتحريم فيها على خلاف إرادته أو عن غير الطريق العلمي الصحيح الذي أذن به، هو أمر غير صحيح ومخالف للحكمة والمنطق، فبأي حق تمارسون التحليل والتحريم على خلاف إرادته أو من غير الطريق الصحيح الذي أذن به؟ وتفرضونه على الناس بغير حق؟ فأنتم ضالون متبعون لطريق باطل ومنهج فاسد، ومغتصبون لأنكم تأخذون ما ليس لكم حق فيه، ومفترون على الله (عز وجل) لأنه لم يأذن لكم وهو صاحب الحق الوحيد في التشريع ومدعون لأنفسكم حقاً هو ليس لكم، وظالمون لأنفسكم ولغيركم من الناس، لأنكم تسلكون طريقاً غير طريق الحق الذي يوصلكم إلى الكمال والسعادة، وتجرون غيركم من الناس إليه بغير حجة ولا برهان، فتهلكون أنفسكم والذين اتبعوكم!! فهل تظنون أن الله سبحانه وتعالى يترككم غداً في يوم القيامة من دون حساب أو جزاء، فيستوي المحق والمبطل والمحسن والمسيء؟ لا!! إن الله سبحانه وتعالى منزه عن مثل هذا العبث المخالف للحكمة في الحق، وسوف يحاسبكم ويجازيكم على ما قمتم به من التحريم والتحليل من عند أنفسكم بالعقاب المؤلم في يوم القيامة، لأنكم أضللتم الناس، وألحقتم بهم أشد الأضرار في الدارين: الدنيا والآخرة.

ثم تنبه الآية الكريمة المباركة إلى حقيقتين جوهريتين كبيرتين وهما:

أ- أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وأراد له أن يصل إلى كماله اللائق به والمقدر له بحسب قابليته واستعداده الذي وهبه له رب العالمين، وأنعم عليه بالنعم، المادية والمعنوية العظيمة، مثل: الأرزاق الطيبة والعقل والوحي والشريعة وهيأ له جميع الأسباب التكوينية والتشريعية من أجل تحقيق هذه الإرادة الإلهية.

ب- أن أكثر الناس يتجاهلون هذه الحقائق، ولا يستعملون عقولهم حق استعمالها، ويسلكون طريق الضلال والهلاك الفعلي والشقاء الكامل في الدارين: الدنيا ولآخرة، ويَقِفون من النعم: المادية والمعنوية على خلاف العقل والمنطق، ويوظفونها في المعصية وعلى خلاف ما خلقت له وما يعود عليهم بالضرر.

وبناءً على ماسبق: فإن العلمانيين بتجزئة الدين وإقصائه عن واقع الحياة والساحة العامة، واستقلالهم بالتشريع عن الإرادة الإلهية، قد سلكوا طريق الضلال ومنهجاً باطلاً، وتصرفوا تصرفاً جاهلاً أحمقاً في غاية الاستنكار والعجب والاستغراب، ويعود بالضرر البالغ على الإنسان في الدارين: الدنيا والآخرة، وهم يخالفون فيما ذهبوا إليه الحق والمنطق والعدل والإنصاف والحقائق والسنن الكونية، وقد خالفوا حقيقة كون الإنسان مخلوقاً ومربوباً لله رب العالمين، وحقيقة كونه يتألف من جوهرين: الروح والجسد؛ روح خالدة باقية وجسد يفنى ويزول، وأن لكل منهما متطلبات وأشواق ورغائب تجب تلبيتها والاستجابة لها بشكل متوازن مع متطلبات وأشواق ورغائب الآخرة، وحقيقة كون الإنسان عاقل ويمتلك حرية الإرادة والاختيار، ولا يصله ولا يمكن أن يصل إلى كماله اللائق به والمقدر له بحسب قابلياته واستعداداته ويحصل على سعادته الحقيقية الكاملة في الدارين: الدنيا والآخرة، إلا بالعلم الحقيقي والمعرفة بالحقائق والسنن الكونية والإلهية الكبرى والعمل بمقتضاها، لما بينها وبين كمال الإنسان وسعادته من علاقة وجودية لا تنفصل، فلا يصلح حال الإنسان بكل علم ومعرفة وبكل عمل، وإنما بالعلم الحقيقي المطابق للواقع، وبالعمل الصالح الموافق للفطرة وطبيعته الإنسانية وأصل الخلقة والتكوين، وعليه: فالعلمانيون يتصرفون فيما لا يملكون، وعلى خلاف الحق والعدل والمنطق، ويلقون الضرار البالغة بالناس في الدارين: الدنيا والآخرة، وسوف يحاسبهم الله(عز وجل) على ضلالهم وإضلالهم وأعمالهم القبيحة السيئة وإلحاقهم الأضرار البليغة بالناس في يوم القيامة، ويجازيهم الجزاء العادل الموافق لضلالهم وأعمالهم السيئة وما يترتب عليها من نتائج خطيرة وأضرار جسيمة في واقع الناس ومستقبلهم ومصيرهم في الدارين: الدنيا والآخرة.

2- الاعتماد على المهاجرين

إن الوجود الإسلامي في الغرب، يعتمد في المقام الأول على المهاجرين القادمين من بلدان مسلمة، في هجرة إرادية وقسرية كثيفة، لأسباب عديدة: أمنية وسياسية واقتصادية وطلباً للعلم والبحث عن فرص أفضل في الحياة وهرباً من الحروب العسكرية المدمرة التي يذهب ضحيتها الآلاف من الأبرياء المدنيين ونحو ذلك حيث تشهد العديد من البلدان في العالم الإسلامي الحروب الأهلية والإقليمية والتضييق على الحريات الأساسية مثل: حرية التعبير عن الرأي والتنظيم، والانتهاكات الشنيعة لحقوق الإنسان لاسيما المعارضين السياسيين والأقليات: الدينية والطائفية والعرقية نحوها، وانتهاك الحرمات والمقدسات، والمعاناة الشديدة من الفقر والمرض والتخلف في الخدمات الأساسية، مثل: التعليم والصحة والإسكان والاتصالات والمواصلات والبنية التحتية ونحو ذلك، والتخلف الحضاري، والتبعية: السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية للغرب، والأزمات الداخلية الشديدة الأمنية والاقتصادية والسياسية، والمواجهات البينية: الدينية والطائفية والعرقية والحزبية، والانقلابات الدموية والصراع على السلطة ونحو ذلك، في ظل أنظمة شمولية ديكتاتورية وحكومات مستبدة ظالمة، وقد حملت الهجرة الكثيفة للمسلمين إلى بلدان الغرب، الكثير من الغربيين السياسيين والمثقفين والعاديين، على اعتبار الهجرة سبباً لما يأتي:

أ- أن الهجرة الكثيفة للمسلمين إلى بلدان الغرب، تمثل تهديداً جدياً للهوية: التاريخية والثقافية لأوروبا المسيحية العلمانية التي أخذت في التآكل والانقراض بسبب هذه الهجرة الكثيفة الواسعة، ويمكن أن تؤدي في الحقيقة لإحداث تغيير ثقافي وحضاري عميق ينسف الهوية المسيحية العلمانية لأوروبا، وتحدث فقداناً للتوازن في المجتمعات الغربية، لاسيما إن أخذنا في الاعتبار حقيقة كون الإسلام دين شامل غير قابل للاندماج الثقافي والحضاري مع الغرب، كما هي رؤية اليمين المسيحي واليمين السياسي المتطرف: سياسياً وعرقياً وعنصرياً، وهذه الرؤية تدخل مسألة الهجرة في دائرة الاختلاف والصراع الشامل: الحضاري والثقافي والعرقي والعنصري والسياسي.

ب- اعتبار بعض السياسيين والمواطنين العاديين المهاجرين منافسين حقيقيين وفعليين للمواطنين الغربيين على فرص العمل والخدمات الأساسية التي تقدمها الدولة، مثل: التعليم والصحة والإسكان والبنية التحتية، التي تعتمد في تمويلها على الضرائب، مما يحملهم على عدم الرغبة في المهاجرين، والسعي لمضايقتهم والحد من وجودهم.

ج- إقحام الغرب بشكل تلقائي في الصراعات الشرق أوسطية، السياسية والطائفية التي تتخذ صيغة أمنية وعسكرية عنيفة، وتتحمل الكثير من أعبائها وتبعاتها: السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، وتقديم خسائر كبيرة في الأرواح، وتكون عرضة للهجمات الإرهابية التي يذهب ضحيتها الآلاف من المواطنين المدنيين الغربيين، وبدون شك فقد أثر هذا الأمر تأثيراً سلبياً كبيراً على فهم الإسلام وقضايا المسلمين، والموقف من الإسلام والمسلمين في الغرب، وهذا موضوع سياسي بامتياز، وخارج عن دائرة الفضاء الفكري البحت، ويجب معالجته معالجة سياسية، تعتمد على فهم المصالح وحقوق الإنسان والأخلاق فيما يتعلق بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، ومعرفة جذور الإرهاب ومصادر تمويله ومعالجتها معالجة عملية ناجعة ونحو ذلك.

3- المواجهة الدائمة

ما تعتقده الطبقة السياسية العلمانية من أنها تواجه أصولية إسلامية أكثر خطراً وتهديداً وتأثيراً وفاعلية مما كانت تواجهه مع الأصولية المسيحية الكاثولوكية التي ولدت العلمانية من رحم الصراع معها في مطلع القرن العشرين وكسبت الشرعية في ظلها، وتنقسم هذه الطبقة السياسية العلمانية في الغرب إلى قسمين رئيسيين، وهما:

المتشائمون: وهم الذين يعتقدون بأن الاختلاف بين العلمانية، هو اختلاف بنيوي جوهري شامل، ولا يوجد له مثيل في الاختلاف والصراع مع الأديان السماوية الأخرى: المسيحية واليهودية، وهو اختلاف يتعذر قهره والتغلب عليه، ويعتقدون بأن الإسلام لا يمكن أن يلائم ويتوافق مع العلمانية، أو يندمج ثقافياً وحضارياً مع الغرب، فالإسلام في نظرهم ممتنع جوهرياً بحسب أصوله وقيمه ومبادئه الرئيسية الكلية الثابتة على كل شكل من أشكال العلمانية القانونية الجزئية المحدودة، والعلمانية الكلية الشاملة كفلسفة، فلا فرصة بحسب نظرهم لوجود إسلام علماني معتدل وليبرالي، ويرون في الإسلام على أنه معاد تماماً لإسرائيل والصهيونية، ويرون في ذلك على أنه نوع من معاداة السامية، كما يرون في الإسلام على أنه يمثل خطراً أمنياً وسياسياً جدياً وكبيراً على الغرب، ويرون تأصل هذه المشكلة وتجذرها، وأنها مشكلة باقية دائمة ما بقي المسلمون في الغرب، وهم في الحقيقة باقون، لأن الجيل الجديد من المسلمين المولودون في الغرب، يرون أنفسهم ورثة حقيقيين وأصليين وجديرين، لهوية دينية وثقافية وحضارية إسلامية أصيلة وعريقة، وأنه يجب عليهم كورثة لها، أن يحموها ويحافظوا عليها وأن ينشروها، وأن يفدوها بأنفسهم وهم يتحدثون بوصفهم مسلمين بإصرار وعناد تام في خطاب إيديولوجي منظم وممنهج: سلمي ومنفتح، ويدافعون عن التعددية الثقافية والحضارية، وعن حق الاختلاف والحوار بين الأديان، وعن حقوق الأقليات، ونحو ذلك، الأمر الذي يعيق الاندماج الثقافي والحضاري مع الغرب، ويقف في وجهه ويمنعه، مما يتطلب إجراءات قانونية وسياسية، واقعية وصارمة، في سبيل احتوائه والحد من خطره وتهديده، وأنه لا قيمة لسياسة التسامح التي لا يترتب عليها الإحتواء للخطر والقضاء عليه، والسير في طريق الاندماج الحقيقي الفعلي: الثقافي والحضاري مع الغرب، والمحافظة على هويته المسيحية والعلمانية.

المتفائلون: وهم الذين يعتقدون بإمكان وجود إسلام مصلح: علماني وليبرالي معتدل، ويسعون إلى إيجاده على أرض الواقع في الداخل الأوروبي وفي العالم الإسلامي، وتشجيعه ودعمه والتعامل معه تعاملاً استراتيجياً يتعلق بأمن الغرب ومصالحه الاستراتيجية، ويدعو هؤلاء إلى خلق الظروف الموضوعية التي تعطي المسلمين الإحساس بالأمن، وأنهم يعيشون ثقافتهم الخاصة، ويمارسون شعائرهم بحرية وأمان، وفي نفس الظروف التي يعيشها الغربيون، ويمارسون حياتهم وثقافتهم وشعائرهم الدينية الخاصة كما يدعون إلى المعرفة بالإسلام المعتدل، وإزالة كافة الصعوبات التي تعترض طريق إقامة مؤسسات للإسلام في أوروبا تدريجياً فهم يعتقدون أن ما يواجهه الغرب مع الإسلام اليوم، هو عينه ونفسه من حيث الجوهر الذي كان يواجهه مع المسيحية الكاثولوكية واليهودية، وإن اختلف في درجة الشدة والسعة والعمق، أي: الجوهر واحد، والاختلاف في الكم والشكل والصورة، وسوف ينتهي الأمر مع الإسلام، إلى نفس النتيجة التي انتهى إليها مع المسيحية واليهودية، وهو ظهور إسلام علماني وليبرالي معتدل، فالإسلام في تقديرهم قابل للتلائم والتوافق مع الحداثة والعلمانية والليبرالية والديمقراطية تماماً كالمسيحية واليهودية، وأن المسألة هي مسألة وقت وصبر وحوار وتفاوض وترتيبات: قانونية وسياسية ومتدرجة، حتى يظهر إسلام معتدل ومنفتح يناسب الغرب العلماني الحديث الليبرالي والديمقراطي.

التعليق على التيارين المتفائلين والمتشائمين

أرى أن طرح التيارين: المتشائمين والمتفائلين، رغم التفاوت الشديد بينهما هو طرح سياسي يجب معالجته في المقام الأول معالجة سياسية، تقوم على أسس عملية، تحفظ المصالح والحقوق لجميع الأطراف، وتراعي الأخلاق العامة فيما يتعلق بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، بغض النظر عن دينه وطائفته وعرقه وعنصره وجنسه وجنسيته، ومعالجته في المقام الثاني معالجة فكرية للتأسيس إسلامياً لعلاقة التلاؤم والتوافق العملي بين المسلمين وبين الدولة ونظامها وقوانينها وأجهزتها في الدول والمجتمعات الغربية العلمانية والليبرالية والديمقراطية، وإيجاد الحلول العملية التي تناسب جميع الأطراف وفق قواعد اللعبة الديمقراطية وإبرازها، ورغم أني نظرياً أوافق أصحاب الرأي الأول (المتشائمين) في حقيقة ما ذهبوا إليه من القول بالاختلاف البنيوي الجوهري الشامل بين الإسلام الحنيف وبين العلمانية والليبرالية، وأن الإسلام الحنيف يختلف في أصوله ومبادئه العقائدية والمبدأية والتشريعية اختلافاً جوهرياً عن المسيحية التي ولدت العلمانية من رحمها، وأضفتْ عليها الشرعية والقداسة، باعتبار الدولة ظل الله سبحانه وتعالى في الأرض، وعلى قاعدة: ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، وأنه من المستحيل نقل نموذج التجربة مع المسيحية الكاثولوكية إلى الإسلام الحنيف لأن الإسلام الحنيف يمتنع جوهرياً على كل شكل من أشكال العلمانية والليبرالية، وأنه لا فرصة أبداً ومطلقاً لوجود إسلام علماني وليبرالي، وأنه لا يمكن تمييز ما هو سياسي عما هو ديني وفصل أحدهما عن الآخر في الثقافة الإسلامية المحمدية الأصيلة، لأن المسلم المؤمن الملتزم بالإسلام نظرياً وعملياً يصر بحسب عقيدته وإيمانه المطلق بالشريعة الإسلامية وأحكامها، على أن الإسلام الحنيف دين شامل يمثل رؤية كونية شاملة ومنهج حياة وسلوك، ويسند جميع أعمال حياته: الخاصة والعامة بما فيها العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني والعسكري ونحو ذلك إلى الشريعة والقيم الإسلامية على نحو مطلق، ويعتقد بأن الإسلام الحنيف دائماً ما يقوله أصالة في جميع المسائل المتعلقة بأفعال الإنسان وتصرفاته في جميع مجالات الحياة والشؤون: الخاصة والعامة، وأن قانون الله سبحانه وتعالى وحكمه، يعلو فوق كل قانون وحكم بشري، ولا يجوز إلغاؤه وتعطيله أو تهميشه أو ترك العمل به اختيارياً، ويتطلع برجاء وأمل كبير إلى انتصار الدين الإلهي الحق وظهوره على كل دين، وإقامة دولة العدل الإلهي العالمية، والعمل بجميع أحكامه وتشريعاته في جميع المجالات وكافة الشؤون: الخاصة والعامة، وفي ذلك كمال الإنسان وسعادته ومصلحته الحقيقية في دورة الحياة الكاملة العرضية على امتداد المكان والجغرافيا، والطولية على امتداد الزمان والتاريخ، وهذا يعني حكماً يأس الطامحين في نقل نموذج التجربة مع المسيحية إلى الإسلام الحنيف، والسعي لتشكيل نموذج عالمي للعالمانية، فيشمل جميع الأديان السماوية اليهودية والمسيحية والإسلام الحنيف، فهذا مجرد متخيل وهو متخيل حالم غير واقعي وبعيد كل البعد عن عالم وحقيقة الإسلام الحنيف وواقعه، ولا يمكن التعويل على الاجتهادات الشاذة وغير الأصيلة التي ذهبت إليها أقلية معزولة من المسلمين للقول بإمكانية تطبيق هذا المتخيل.

إلا أني أوافق عملياً أصحاب الرأي الثاني (المتفائلين) فيما ذهبوا إليه من القول بقابلية الإسلام الحنيف للتلاؤم والتوافق والقبول عملياً بقواعد اللعبة الديمقراطية في الدولة العلمانية والتقيد عملياً بها، وذلك على أساس الضرورة الملحة التي تقوم على أصول عملية، لما يتمتع به الإسلام الحنيف من الواقعية والإجرائية واليسر والسهولة ورفع الحرج الشديد عن المؤمنين، ومنع وقوع الضرر البليغ عليهم، وفتح الطريق أمامهم للمساهمة في الحياة العامة وتدبير الشأن بما يعود بالنفع الحقيقي على الناس ويخفف من آلامهم والتقليل من الأضرار التي يمكن أن تقع عليهم، ونحو ذلك، في ظل فتح باب الاجتهاد العلمي الصحيح في الإسلام الحنيف، واستخراج الأحكام الشرعية من أدلتها المقررة شرعاً، وقد يتطلب التوافق تأجيل تطبيق بعض الأحكام لأسباب موضوعية، مثل: تعطيل تطبيق بعض الحدود الشرعية مثل: حد الزنا والسرقة وغيرها، من دون إبطالها بما هي قوانين وأحكام إلهية شرعية ثابتة بحكم الكتاب والسنة، وهذا المقدار يكفي عند المعتدلين والمنصفين والواقعيين من العلمانيين الذين يتبنون مفهوم العلمانية القانونية الجزئية المحدودة، لأنه يسمح بإحترام النظام والقانون وتطبيق قواعد اللعبة الديمقراطية في ظل الدولة العلمانية الليبرالية، ويضمن حرية العقيدة وإقامة الشعائر الدينية والحرية الشخصية، وهذا ما يطالب به العلمانيون الذين يتبنون مفهوم العلمانية القانونية التي تعترف بمواطن متدين يلتزم بقوانين الدولة، وتبحث عن تسويات عملية للتلاؤم والتوافق ولا تسعى للتأزيم وإقصاء المؤمنين المتدينين من ساحة الحياة العامة، على خلاف ما يطالب به العلمانيون الذين يبنون العلمانية الكلية الشاملة كفلسفة، ويبحثون عن تنازلات من المتدينين وليس عن تسويات، ويسعون لإقصاء المتدينين عن الساحة العامة في الحياة، ويرون أن مجرد التعبير عن العاطفة لدينه يمثل فضيحة في سلوك العلماني في الحياة.

ويعتبر السعي من المسلمين للتلاؤم والتوافق والقبول عملياً بقواعد اللعبة الديمقراطية في الدولة العلمانية في الغرب أو في العالم الإسلامي عملاً سياسياً حقيقياً وأصيلاً يستند إلى قواعد الفقه الإسلامي وأحكام الشريعة الإسلامية المقدسة الصحيحة، وليس فيه تجاهل أو تجاوز أو خروج عنها، وهو عمل يقرّه الفقهاء العدول من مختلف المذاهب الإسلامية، وهذه الممارسة العملية مشروطة ومقيدة وليست مطلقة و هي أسلوب عملي واقعي للحفاظ على وجود الدين الإسلامي الحنيف وبقائه وصفائه من الشوائب وحمايته من التحريف والتبديل والتغيير تحت ضغوط الحياة العملية، والإبقاء عليه متصلاً بواقع الحياة وتوجيهها والتأثير فيها، والسماح للمؤمنين وتمكينهم من أن يعيشوا حياتهم: الخاصة والعامة في يسر وسهولة ورفع الحرج الشديد والمشقة عنهم، وحفظ مصالحهم في الحياة ومنع وقوع الأضرار البليغة عليهم، وتمكينهم من المساهمة الفعلية الفعالة في أنشطة المجتمع وحل مشاكله العامة ومن التشريعات على ضوء رؤية إسلامية شرعية وقيمية، للتخفيف من آلام الناس وأحزانهم والتقليل من وقوع الأضرار المادية والمعنوية عليهم ويتحملون المسؤولية الرسالية والتاريخية الكاملة في المحافظة على الرسالة وبقائها من كل شائبة وصيانتها من كل تحريف والعمل بها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً وهم يحملون الأمل والرجاء في أن يتغير الوضع الإستثنائي، وتحلّ اللحظة التاريخية التي يظهر فيها الدين الإلهي الحق على كل دين، وتقام دولة العدل الإلهي المحلية (الوطنية) والعالمية، وتطبيق جميع الأحكام الشرعية في جميع المجالات وفي كافة الشؤون: الخاصة والعامة ويكون ذلك طريقاً لوصول الناس إلى كمالهم الإنساني اللائق بهم والمقدر لهم في أصل خلقتهم وتكوينهم، وتحفظ مصالحهم الجوهرية الحقيقية في دورة الحياة الكاملة العرضية على امتداد المكان والجغرافيا، والطولية على امتداد الزمان والتاريخ، وتحصيل سعادتهم الحقيقية الكاملة في الدارين: الدنيا والآخرة، وهذا يعني أن تلك الممارسة العملية المشروطة والمقيدة، لن تؤثر قيد شعرة على جوهر الإسلام وحقيقته، ولن تمهد الطريق إلى متخيل الإسلام العلماني الليبرالي، الذي يحلم به من ليس له معرفة بالإسلام الحنيف وبالسنن الإلهية الكونية والتاريخية، بل تقطع الطريق عليه وتمنع من الوصول إليه، ولن تنال من الوحدة الإيمانية أو تعيد بناء الدين على أساس فردي يتخيله أولئك الحالمون كذلك، ولن تؤثر على كون الحقيقة واحدة لا تقبل التعدد عرضياً وأن الكثرة باطلة، وأن التعدد في الحقيقة الواحدة يمكن أن يحدث طولياً، أي: الاختلاف في المراتب والبطون، وعلى ذلك تترتب النتائج المهمة التالية:

أن التسامح واحترام حرية الاعتقتد والتعبير والتلاؤم والتوافق عملياً لا يعني أبداً القبول بتعدد الحقيقة النظرية ونسبيتها، وجعل مضامين المعارف والمفاهيم والقيم والأحكام والسلوك والمواقف في مستوى واحد من ناحية الحقيقة، أو فك الارتباط بين المعارف والحقائق والسنن الحقة وبين كمال الإنسان ومصلحته في دورة الحياة الكاملة وسعادته الحقيقية الكاملة في الدارين: الدنيا والآخرة.

ليس لأي أكثرية برلمانية أو مجتمعية أو غيرها أن تقرر ما هو الحق وما هو الباطل لأن الذي يقرر ذلك هو الدليل والحجة والبرهان المنطقي الصحيح، ولهذا كثر في القرآن الكريم عبارات مثل قول الله تعالى: <وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ>[1] وقوله: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} وقوله: {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} وقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} وقوله: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} وقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} ونحو ذلك.

وبناءً على ماسبق: يجب التمييز منهجياً بين الرؤية الأصيلة الثابتة، وبين الرؤية العملية الاستثنائية المشروطة والمتغيرة بتغير الأسباب والعوامل الموضوعية التي جاءت لأسباب استثنائية موضوعية بهدف المحافظة على الرسالة والشريعة كما هي عليه، والمحافظة على مصالح المسلمين ورفع الحرج والمشقة عنهم لكي يمارسوا حياتهم ونشاطهم في الحالات والظروف الاستثائية بشكل طبيعي خالٍ من المشقة وتفويت المصالح، فالممارسة العملية لا تعني دائماً تغير في أصل الفكرة أو العقيدة أو الرؤية، وإنما القبول عملياً ببعض الممارسات المغايرة لأصل الفكرة أو الرؤية لأسباب موضوعية، تحت عنوان: الضرورة الملحة، وتحمل اسم: العنوان الثانوي، مثل: لحم الخنزير حرام بالعنوان الأولي ولكن يجب أكله عند الضرورة لإنقاذ الحياة من الموت جوعاً بالعنوان الثانوي، وكما يقول الفقهاء: أن العلاقة بين الحكم الشرعي وبين الموضوع هي كالعلاقة بين العلة والمعلول، فإذا تغير الموضوع يجب حكماً أن يتغير الحكم الشرعي، مثال: التقاضي عند قضاء الجور حرام ولكن إذا توقف استنقاذ الحق عليه وضياع الحق بدونه فإنه يجوز، وأيضاً: قبول الولاية من حكام الجور حرام، ولكن إذا عُلم أن فيها مصلحة عامة للمسلمين فإنها تجوز. وعلة تغير الحكم في الحالتين هو تغير الموضوع وتعتبر هذه الممارسة واقعية وناضجة وموافقة للعقل والمنطق والحكمة ولها مثيل في سيرة العقلاء في جميع الأديان السماوية وغيرها، يقول أوليفييه روا: «عندما خلصت الكنيسة إلى الاعتراف بالجمهورية العلمانية، لم يكن ذلك لأن لجنة من علماء اللاهوت عكفت على دراسة الأناجيل لسنوات طويلة، بل لأن الفاتيكان استخلصوا الدروس السياسية لحتمية الجمهورية والتكيف معها»، أي: لم يكن التغير في أصل الرؤية وإنما تكيف عملي لأسباب موضوعية مع بقاء الرؤية الأصلية على ماهي عليه بدون تغيير، وعليه: فإن القبول بقواعد اللعبة عملياً، أو العمل بمقتضى الضرورة الملجئة لا يعني أبداً ولا بأي حال من الأحوال تغير في أصل الفكرة والرؤية الإسلامية، ولا يمثل سيراً في الطريق إلى العلمانية أوالتمهيد إلى ظهور نظرية إسلامية علمانية أو ليبرالية، فهذا المخيل بعيد كل البعد عن واقع الإسلام وجوهره وحقيقته، وهو مجرد حلم يحلم به بعض العلمانيين في اليقظة والمنام، وهما على حد سواء في البعد عن الحقيقة والواقع بل تعتبر هذه الممارسة العملية دليل على واقعية الإسلام ونضجه وصلاحه لجميع الظروف والأحوال وهي السبيل للجمع بين الإبقاء على وجود الإسلام واتصاله بواقع الناس وصيانته من التغيير والتبديل والتحريف، وبين المحافظة على مصالح المؤمنين ومنع وقوع الضرر والحرج والمشقة عليهم والإبقاء على دورهم الفاعل في الحياة في الحالات والظروف الاستثنائية، وهذا المقال أو البحث القصير والمختصر جداً لا يتسع بحسب أهدافه وما هو مقدر له لجميع المناقشات والمعالجات الفكرية (النظرية) والعملية في الغرب وفي العالم الإسلامي، فلن أتطرق إلى المعالجات العملية وسوف أقتصر فقط على المعالجات الفكرية (النظرية) العامة التي لا تختص بزمان ولا بمكان معين في خطوطها العريضة، ولكن ألفت النظر إلى بعض الملاحظات العملية المهمة.

مسألتان مهمتان

من الأهمية بمكان أن ألفت النظر إلى مسألتين رئيسيتين، وهما:

المسألة الأولى: أن الأديان السماوية الكبرى الثلاثة: اليهود والمسيحية والإسلام، تتفق على أمور جوهرية عديدة ذات صلة بموضوع البحث، منها:

أن قانون الله سحانه وتعالى وحكمه، يعلو فوق كل قانون وحكم بشري.

أن الحق واحد لا يتعدد، وأن الكثرة باطل، وليس للأكثرية البرلمانية والمجتمعية أو غيرهما الحق في تقرير ما هو حق وما هو باطل، وأن الذي يقرر ذلك هو الدليل والحجة والبرهان الصحيح لا غير.

أن كمال الإنسان وسعادته لا ينفكان عن معرفة الحقائق والسنن والعمل بمقتضاها، وأن الله سبحانه وتعالى قد جعل للإنسان طريقاً واحداً إلى كماله وسعادته وهو الدين الإلهي الحق.

أن القبول العملي بقواعد اللعبة والعمل بمقتضى الضرورة الملجئة لا يعني جعل المعارف والمفاهيم والقيم والأحكام والسلوك والمواقف في مستوى واحد من الحقيقة.

أن الدين الإلهي يمثل رؤية كاملة جامعة للكون والإنسان والحياة والمجتمع والدولة والتاريخ، ويمثل الإطار المعرفي والتربوي والحضاري لحياة الإنسان، ولا يمكن حصره وتحديده في المجال أو دائرة القضايا والأحوال الشخصية، بل هو يشمل جميع المجالات، ويدخل في كافة الشؤون: الخاصة والعامة، لأنه دين إلهي عالمي، ويعبّر عن الخير عموماً، ويسعى لمصلحة البشرية جمعاء، وله كامل الحق في التدخل في شؤون الدولة والقضايا العامة للناس، وهو أولى بذلك من غيره، لأنه منزل من رب العالمين وخالقهم والعالم بهم وبما يصلحهم في الدارين: الدنيا والآخرة، ومنعه من التدخل في الشأن العام، هو أمر فرض عليه وقبل به كأمر واقع ولم يسع إليه أو يقبله اختياراً، وأن له كامل الحق في العمل والسعي لتغيير النظام وقواعد اللعبة بالأساليب المشروعة وتحقيق إرادة الناس، يقول المونسيتور سلستينو ميليور، العضو المراقب للكرسي البابوي لدى الأمم المتحدة، أمام اللجنة الخاصة بـ«إلغاء جميع أشكال عدم التسامح» بتاريخ: 26/أكتوبر/2004م: إن موقف أولئك الذين يريدون حصر التعبير الديني في دائرة الخاص البسيطة، إنما يتجاهلون وينكرون طبيعة المعتقدات الدينية الأصيلة.

أن عدم القبول بالرأي والموقف الآخر، لا يعني أبداً اللجوء إلى العنف والقوة ضده لتغييره، وأنه يمكن التوافق على قواعد اللعبة والاحتكام إليها لمعالجة الاختلافات.

المسألة الثانية: ضرورة التمييز بين ثلاث حالات بالنسبة إلى الإسلام والمسلمين وهي:

أن الإسلام الحنيف يسلك الطريقة الوسطى المثلى في الحياة، ويعتمد منهج الاعتدال القويم، ويأخذ بالاجتهاد العلمي الصحيح، المستقل عن سلطة الحاكم وغيره، ويتقيد بالقواعد الشرعية المعتبرة لاستخراج الرؤى الإسلامية والأحكام الشرعية من أدلتها ويقبل بالاختلاف في الاجتهادات لأسباب علمية موضوعية، ويعتبر ذلك هو السبيل لإنضاج الفقه وتصحيح الأخطاء والاقتراب أكثر فأكثر من الأحكام الواقعية، ويمنع غير المؤهلين من الاجتهاد ويحرم الأخذ منهم والرجوع إليهم، وكذلك الرجوع والأخذ من غير الأتقياء.

أن الإسلام المتطرف فكرياً وعملياً الذي يقتل العقل باسم النص، ويتورط في أنشطة وممارسات إرهابية شاذة يذهب ضحيتها الأبرياء، هو بعيد كل البعد عن روح الإسلام وحقيقته وجوهره وغاياته ومقاصده، وهو وليد اجتهادات غير المؤهلين والرجوع إليهم والأخذ منهم، مع أن الرجوع إليهم والأخذ منهم مخالف لأحكام التقليد في الفقه الإسلامي، وللعقل والمنطق والفطرة والطبع السليم وسيرة العقلاء التي جروا عليها في حياتهم، وهي رجوع الإنسان إلى العلماء وليس إلى الجهال فيما لا يعلم.

أن المرء يبقى مسلماً ينطق الشهادتين حتى وإن لم يعمل بمقتضاهما، لكن التحلل الأخلاقي والفساد، والأعراف والعادات والتقاليد القبلية الجاهلية مثل: عمليات الثأر وقتل الشرف ونحوهما، ومخالفة ضروريات الدين الإسلامي الحنيف مثل: رفض الحجاب الشرعي وإباحة شرب الخمر وقبول الزنا ونحو ذلك تحت عنوان الحرية الشخصية أو غيرها، وحصر الدين في الطقوس العبادية والأحوال الشخصية وفصل الدين عن الدولة والسياسة والقضاء العام، وفرض القوانين الوضعية على الناس ونحو ذلك، والاجتهاد في مقابل النص واجتهاد غير المؤهلين، كلها تمثل انحرافاً بيّناً عن الإسلام الحنيف، ولا يمكن قبولها إسلامياً أو تسويقها على أنها تمثل مزاجاً إسلامياً أو تمثل شريحة إسلامية معتبرة في فهم الإسلام الحنيف وتوجهاته.

المصدر
كتاب الإسلام والعلمانية | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟