مواضيع

رد السحرة المؤمنين الكرام على تهديدات فرعون الطاغية لهم

<قَالُوا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُون>

توعد فرعون الطاغية السحرة باستخدام السلطة والقوة والعنف ضدهم، وأنه سينزل بهم أشد العقوبات الجسمية والنفسية وأقساها وأشدها إيلاماً ومثلة وتنكيلاً؛ للانتقام منهم لإيمانهم بالتوحيد والمعاد والنبوة، وكفرهم بألوهية فرعون وربوبيته، وبنظامه ودولته وملكه، إلا أن ذلك التهديد والوعيد لم يرهبهم ولم يثنهم عن موقفهم الإنساني البطولي الشجاع، فلم يخافوا من فرعون وسطوته وقسوته وجبروته، وهو الجبار العنيد رغم تاريخه الدموي الوحشي، ولم يخافوا من سطوة أجهزة الدولة: المدنية والأمنية والعسكرية والدينية، التي تقف خلف فرعون وتدعمه، رغم قسوتها ورغم تاريخها الدموي الوحشي، وكثرة جرائمها التي لا تحد ولا تعد، وما تملكه من قوة ورجال وعتاد، وذلك لأنهم انكشف لهم الحقيقة كاملة كما هي من الجهتين، جهة موسى الكليم (عليه السلام)، وجهة فرعون الطاغية ونظامه الدكتاتوري الفاسد، وعرفوا أبعادها الواقعية وانعكاساتها عليهم وعلاقتها بصلاح أنفسهم، وصلاح أوضاعهم وأحوالهم، وبخيرهم وكمالهم الإنساني وسعادتهم في الدارين الدنيا والآخرة، وذاقوا طعم حلاوة الإيمان واليقين بقلوبهم، وباشروها بأرواحهم الطاهرة، ورأوا ببصائرهم حسن العاقبة والمصير، فوطنوا أنفسهم على ما يتوقعون وما لا يتوقعون من عقوبات انتقامية جسمية ونفسية، وردوا على تهديدات فرعون الطاغية ووعيده بنفوس كريمة راضية مطمئنة، فقالوا: <إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُون>[1]، أي: إنك تهدد بالقتل والعذاب المؤلم الشديد؛ بسبب ما تنقم منا من الإيمان، ظناً منك بأن ذلك شرٌ لنا؛ لانقطاع حياتنا به ورحيلنا عن هذه الحياة الفانية، ولما قد نقاسيه من ألم العذاب وشدته، ولكن عليك أن تعلم وتتيقن، أنه لا ضرر علينا في الحقيقة من القتل وما يصيبنا من العذاب والأذى في سبيل الله تبارك وتعالى، ولا ينقصنا شيء بل على العكس، هو خير محض وفخر وشرف عظيم لنا، ونحن الكاسبون من وراء ذلك؛ لأننا صائرون بعد تعذيبك وقتلك لنا ظلماً وعدواناً إلى لقاء ربنا ورحمته، فيحاسبنا على أعمالنا، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ويحكم بيننا وبينك بالحق والعدل، ثم نحيا في جواره سعداء منعّمين في جنته مع أوليائه من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

وهذه الدنيا زائلة فانية والإنسان لا يملك حياته فيها، فهو راحل عنها حتماً، ولا يعلم في أي وقت ولا في أي مكان ولا لأي سبب، فإن لم نمت بسيفك وعلى مقصلتك، فقد نموت بسبب آخر وبشكل أبشع مما تنوي أن تفعله انتقاماً منا، فنحن لا نضمن حياتنا ولا نضمن الراحة والموت الرحيم، وعليه، فنحن بحسب العقل والمنطق، لا نبالي بالقتل وبعقوباتك ما دمنا مرضيين عند ربنا رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، فاقضِ ما أنت قاضٍ، وافعل ما شئت، فإنما تقضي هذه الحياة الدنيا الفانية، يقول الشيخ محمد جواد مغنية: «وهكذا كل مؤمن حقاً وصدقاً يستولي إيمانه على جميع مشاعره، وينسى ذويه ومنافعه، ويضحّي بنفسه في سبيل دينه والذود عنه»[2].

ونحن نعلم كما تعلم أنت عن يقين لا شك فيه ولا ريب ولا تردد، بأن دافعك لبغضنا وكراهيتنا وقتلنا والتنكيل بنا، ليس انتقاماً منا كما زعمت وضللت به الرأي العام بسبب أكذوبة المؤامرة، فنحن لسنا مشاغبين ولا متآمرين ولا متواطئين ضدك، ولسنا نريد الاستيلاء على السلطة والثروة والمقدرات وطرد المواطنين الأقباط من أرضهم وديارهم ووطنهم بغير حق للاستئثار بها، ولا غير ذلك من الإفك والافتراء والأكاذيب التي تروج لها من أجل تضليل الرأي العام وخداعه، فأنت تعلم أكثر من غيرك أنها أكذوبة لا أساس لها من الصحة، ولا واقعية لها تعتمد عليها للدخول إلى العقل بحسب المنطق الذي لا تؤمن به ولا تقيم له وزناً، ولا تأخذه بعين الاعتبار حين تفكر في تصفية الحساب مع خصومك، انتقاماً لذاتك وملكك، فصانع الأكذوبة أعلم بها من غيره، لكن دافعك وراء الانتقام والسخط علينا وقتلنا والتنكيل بنا، هو ما أعلناه من الإيمان لمّا ظهر لنا الحق وانكشف بالدليل القطعي من خلال الآيات الواضحات والمعجزات النيرات الباهرات العظيمة، التي جاء بها موسى الكليم (عليه السلام) من عند رب العالمين، فأجبنا راعي الله  (جل جلاله) ولبينا نداءه وآمنا به وأعلنا إيماننا أمام الجماهير استجابةً للواجب الديني والإنساني علينا، قولهم: <وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا>[3] فإيماننا هو ذنبنا الوحيد الحقيقي عندك، وما تعيبه وتطعن به علينا وتنقم منا بسببه، وهو عندنا الشرف العظيم وأصل كل منقبة وخير، وسبب اعتزازنا وفخرنا والطريق إلى حريتنا الحقيقية وكرامتنا وكمالنا الإنساني المقدر لنا واللائق بنا، وتحقيق سعادتنا الحقيقية الكاملة في الدارين الدنيا والآخرة، وعليه: فما تعدّه أنت جرماً وشراً، هو عندنا تكليفٌ شرعيٌ واجبٌ، وخيرٌ محضٌ كاملٌ، وحقيقٌ بالمدح والثناء والجزاء الحسن، وليس بالقدح والعقوبة، فأنت تظن جهلاً منك وطبقاً لرؤيتك المادية في الحياة، أن إيماننا شرٌ لنا؛ لأنه يبعدنا عن ساحتك وجوارك، ويحرمنا من عطائك ورعايتك، ويعرضنا لسخطك وعقابك وانتقامك، إلا أننا في الحقيقة والواقع نعتبر الإيمان بالتوحيد والمعاد والنبوة والطاعة المطلقة لله ذي الجلال والإكرام وللرسول والولي الأعظم موسى الكليم (عليه السلام) والفوز بالشهادة خير محض؛ لأنه يقربنا من ساحة قدس الله سبحانه وتعالى، والفوز برضاه، والأمن من غضبه، والحياة سعداء منعّمين في الجنة مع الصالحين من عباده، ونحن لا نكترث بك ولا يضرنا الابتعاد عنك وعن ساحتك، والحرمان من عطائك ورعايتك، ولا نبالي بسخطك وعقابك وانتقامك؛ لأنك عبد فقير ضعيف حقير مثلنا، لا تملك لنفسك ولنا ولغيرنا نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً ولا جزاءً، والابتعاد عنك وعن ساحتك، ابتعادٌ عن شركك وضلالك وخبثك، وعن علة النقص في إنسانيتنا وحريتنا وكرامتنا، وعن أسباب الضلال والانحلال والانحطاط في شخصياتنا، وعن طريق الشقاء والهلاك لنا في الدارين الدنيا والآخرة، وعقابك فخرٌ لنا وشرفٌ عظيمٌ؛ لأنك تعاقبنا على هدايتنا للحق وسلامة عقيدتنا وحسن أخلاقنا وصالح أعمالنا، فإذا كان ذنبنا عندك الموجب لسخطك علينا وعقابنا، هو إيماننا بالتوحيد والمعاد والنبوة والطاعة المطلقة لله سبحانه وتعالى ولرسوله الكريم ووليه (عليه السلام) فهو ذنبنا بحق وحقيقة، ونعترف به ونفتخر ونتحمل جميع تبعاته علينا، فاقضِ ما أنت قاض، وافعل ما شئت من عقوباتك، فإنا لا نأبه بك ولا نبالي بقتلك وعقوبتك لنا من أجل ديننا الحنيف وعدالة قضيتنا وشرعية مطالبنا الإصلاحية: الدينية والسياسية والحقوقية وغيرها؛ لأننا على بصيرة ويقين من سلامة طريقنا ومنهجنا ومن لقاء ربنا ذي الجلال والإكرام وعدله ورحمته الواسعة وإحسانه العظيم، وأنه سيجازينا بالمعروف والإحسان لما أصابنا من أجله وفي سبيله، ونحن بفضل الله تبارك وتعالى علينا، نعلم أنك إن تقتلنا فلن ننتهي إلى الفناء والزوال والفساد، بل نمضي شهداء سعداء في سبيل الله (عز وجل)، ونعود إلى ربنا ذي الجلال والإكرام الذي هو رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، الذي خلقنا وأنعم علينا بالوجود ورزقنا من فضله الواسع والقائم على تدبير جميع أمورنا، وتجب علينا طاعته وعبادته وحده لا شريك له، ثم يحشرنا في يوم القيامة مع الشهداء السعداء، ويجازينا على حسن عقيدتنا وصالح أعمالنا، ويحسن إلينا بما صبرنا وأصابنا من الأذى في جنبه، بما هو أهله، ونحيا عنده وفي جواره بحياة المقربين السعداء مع الخيرة الطيبة من أوليائه من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

وفي هذا الخيار كمال العقل والحكمة والخير والفضيلة والحرية والكرامة وكمال إنسانيتنا، وهو موافق للفطرة والطبع السليم، وفي المقابل ستعود أنت كذلك إليه؛ لأنه ربك على الحقيقة وإليه معادك وعليه حسابك وجزاؤك، وسيحاسبك ويجازيك بالعدل جزاءً موافقاً لعظيم جرمك وجنايتك، إذ ادّعيت كذباً وزوراً وبهتاناً وظلماً وعدواناً وبغير وجه حق وبلا حجة أو دليل أو برهان الألوهية والربوبية، واستوليت على الحكم والسلطة والثروة والمقدرات، ثم طغيت وتجبّرت وأفسدت في الأرض، وقتلت النفوس المحترمة بغير حقها، وظلمت العباد وانتهكت الحقوق والحريات والمقدسات، وخنت الحقيقة وأمانة الحكم والرعاية والمسؤولية، واستأثرت بالسلطة والثروة والمقدرات، ونحو ذلك من الجرائم والجنايات الشنيعة والمعاصي والذنوب الكبيرة والصغيرة، الظاهرة والباطنة، وسيجازيك على سوء صنيعك بنا، ولن ينفعك حينئذ سلطانك وجنودك وعتادك وبطانتك ومعاونوك وأنصارك، والانتهازيون الأنانيين والمتملقون الفاسدون من أصحاب الشهادات والكتّاب والصحفيون وغيرهم، الذين اشتريت ضمائرهم وأديانهم بأبخس الأثمان، وتدفع لهم من أموال الشعب وتمنحهم المناصب والوظائف العامة مقابل الولاء والتملق والتزلف؛ ليطبلوا لك ويزمروا ويملأوا الدنيا ضجيجاً، ويسوقوا لك ولمشاريعك الجوفاء، ويدافعوا عن فسادك وطغيانك وتجاوزاتك ويبرروها ويشاركوك بالأقوال في الظلم والبطش والفساد والعدوان على الحقوق والحريات والحرمات والمقدسات، لترمي إليهم بشيء من بقايا مائدتك وقمامتك.

والخلاصة: أننا قد آمنا بربنا الذي هو رب العالمين، رب موسى وهارون (عليهما السلام)، ونحن نرجو رحمته وإحسانه، وأن يقبلنا في صفوف عباده المؤمنين الصالحين، ولا نبالي إن نحن أسخطناك علينا بإيماننا بالتوحيد والدين الإلهي الحق وبحسن أخلاقنا وأعمالنا الصالحة، ولا نبالي بطردك لنا من قربك وساحتك، وحرمانك لنا من عطاياك، والانتقام منا بعقوباتك، والموت قتلاً بسيفك وعدوانك، ما دمنا مرضيين عند ربنا رب العالمين، فالله ذو الجلال والإكرام ورضوانه وحسن جزائه، خيرٌ لنا منك ومن رضاك وجوائزك وعطاياك ومن الدنيا بأسرها وما فيها ومن فيها، وساحته وجواره خيرٌ لنا من ساحتك وجوارك.

وعليه: افعل ما شئت أن تفعل بنا، واقض ما أنت قاض من عقوباتك، فلن تجد منا إلا الصبر والصمود والثبات، فقد اخترنا لأنفسنا ما نعتقد جازمين بأنه موافق للحق والحكمة والصواب والفضيلة، وفيه خيرنا المطلق وكمالنا وصلاح أنفسنا وأحوالنا وأوضاعنا وسعادتنا الحقيقية الكاملة في الدارين الدنيا والآخرة، ونحن على يقين من هدي نبينا وسلامة طريقنا وعدالة قضيتنا وموقفنا وشرعية مطالبنا الإصلاحية والثورية، وقد قررنا مصيرنا بأنفسنا وبمحض إرادتنا وكامل حريتنا ووعينا، بعيداً عن تجبرك وهيمنتك وسلطانك وترهيبك وترغيبك لنا من أجل افتضاض وشراء ضمائرنا، فاختر أنت لنفسك ما تعاقبنا به، فإنك إنما تختار في الحقيقة والواقع لنفسك، وتقدّر لها من الشقاء وكيفية الهلاك والعذاب منك على جناياتك وجرائمك في الآخرة، يقول الشيخ محمد جواد مغنية: «وكل من يؤمن بلقاء الله يقف هذا الموقف، بل يرى الاستشهاد سعادة ووسيلة لمرضاة الله وثوابه. أما الذين يخافون الموت في سبيل الله، ويتهيبون منه، فهم يؤمنون بلقاء الله نظرياً فقط، أما عملياً فإنهم به كافرون»[4] مع التنبيه إلى أن وصول الإنسان المؤمن إلى درجة تطابق أفعاله مع عقيدته، يحتاج إلى تربية ومراقبة ومحاسبة وتدريب حتى ينتهي الأمر إلى هذه الرتبة والمقام المحترم العظيم، وبناءً عليه: يتبين أن قول السحرة يتضمن التهديد والوعيد لفرعون بالخزي والعار في الحياة الدنيا، وبعذاب الله الشديد المؤلم والهلاك والشقاء الحقيقي الكامل في الآخرة، مقابل ما توعدهم به من الانتقام والتنكيل والتعذيب والقتل بسبب إيمانهم.

كما قابلوه بما يبطل كيده ويقطع حجته من دابرها، حين قالوا: <وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا>[5] أي:عدّوا الإيمان بالتوحيد والمعاد والنبوة وطاعة الرسول، بعد قيام الحجة، هو وحده الموافق للعقل والمنطق والفطرة والطبع السليم، وفيه خير الإنسان وصلاح نفسه وأحواله والحافظ لحريته وكرامته وحقوقه، وهو المسلك الوحيد في الحياة الذي يجدر بالإنسان العاقل وحقيقٌ به واللائق به أن يسلكه ولا يسلك غيره، وهو المسلك الوحيد في الحياة الذي فيه الخير المطلق للإنسان والعزة والحرية والكرامة والمجد والفخر والشرف العظيم والفضيلة والنقائب الحقة، والطريق الوحيد إلى الكمال الإنساني المقدّر والسعادة الحقيقية الكاملة في الدارين الدنيا والآخرة. وفي المقابل القول بألوهية فرعون وربوبيته ومالكيته، والخضوع لنظامه الفاسد وحكومته غير الشرعية وسلطته الجائرة، وما يصدر فيها من قوانين وتشريعات ظالمة تنتهك الحق والحقوق، أمر مخالف للعقل والمنطق والفطرة والطبع السليم، وفيه هدر لمعنى الإنسانية ولعزة الإنسان وحريته وكرامته ومجده وشرفه، وهو السبيل إلى التحلل والانحطاط الفكري والروحي والسلوكي، وإلى الضعف والتخلف والفساد، ويؤدي بالإنسان إلى الشقاء الحقيقي الكامل والهلاك في الدارين الدنيا والآخرة، ويجدر بالإنسان العاقل وحقيق به واللائق به أن يخالفه ويعارضه ويثور عليه ليعتدل، ولا يطيع شيئاً منه باختياره.

وبتعبير آخر، قالوا له: إنك تنكر منا وتعيب علينا بجهلك الخير المطلق الذي صرنا إليه، وهو حقيق بالمدح والثناء الكامل عليه عند العقلاء والحكماء والفضلاء، وتدعونا إلى ما هو شر مطلق وحقيقٌ بالعيب والإنكار عليه والذم له، وإنكارك علينا هو في الحقيقة والواقع إنكار إلى الحقيقة الموضوعية الواقعية، المستندة إلى الحجة البالغة والدليل الواضح والبرهان الساطع القاطع، وفيه تنكر للعقل والمنطق والفطرة والطبع السليم؛ لأنك لا تقيم وزناً للحقائق والمنطق والحجج والأدلة والبراهين، ولا تفكر في عواقب الأمور، وما ذلك إلا لأنك استغرقت في عالم الدنيا والمادة والمصالح الدنيوية والملذات الحسية والشهوات الحيوانية، مما يدل على نقصان عقلك وحكمتك وسفاهة أحلامك؛ لأنك تضع الأمور والأشياء في غير مواضعها، وعلى تضخم ذاتك وفرط أنانيتك وموت وجدانك وضميرك وإنسانيتك؛ لأنك لا تفكر في غير نفسك ومصالحك الدنيوية العاجلة الفانية، وعلى جهلك بالحقائق الإلهية والسنن الكونية والتاريخية وبعدك عنها والحيلولة التامة بينك وبينها، وانفصالك التام عن الواقع والمصير؛ لتعيش في عالم الأوهام والتمنيات والخرافات الموحش المظلم، وذلك كله بسبب ضعف منطقك وفساد طبعك وفطرتك وسوء نيتك وكامل عنادك للحق و استكبارك على الانقياد لأهله وأربابه، واعتمادك الكامل على العنف والقوة والإرهاب لفرض حكم الأمر الواقع على الناس وإخضاعهم إلى إرادتك والانصياع إلى نظامك ودولتك وحكومتك، وتسلب من الناس حقهم في الحرية واختيار نظام دولتهم وحكومتهم وتقرير مصيرهم بأنفسهم بغير وجه حق لك في شيء من ذلك.

وصيغة الجمع في لفظ الآيات: <بِآيَاتِ رَبِّنَا>[6] تدل على أنهم قد عدّوا أمر العصا متضمن لآيات عديدة وليس لآية واحدة، حيث تحولت إلى ثعبان حقيقي عظيم وهذه آية، ولقفت جميع ما صنع السحرة حتى تلاشى عن آخره ولم يبق له أثر بعد حين وكأنه لم يكن له وجود وهذه آية ثانية، ورجعت إلى حالتها وطبيعتها الأولى التي كانت عليها بعد أن أخذها موسى الكليم (عليه السلام) بيده ورفعها عن الأرض وهذه آية ثالثة، وربما أضافوا إليها معجزة اليد السمراء التي تتحول إلى بيضاء وتشع نوراً كنور الشمس الساطعة يملأ المكان، وربما نظروا إلى جنس الآيات.

والقول الصادر عن السحرة المؤمنين الكرام وخاطبوا به فرعون الطاغية، وهو الجبار العنيد رغم ما عرف عنه من الظلم والبطش والقسوة، يدل على اليقين الراسخ والبصيرة النافذة والرؤية الواضحة لديهم، والجرأة والشجاعة البالغة، والإيمان العميق الراسخ في النفس، المتمكن من العقل والقلب، واستيعاب لحقائق وأبعاد الإيمان، النظرية والعملية، رغم حداثة إيمانهم، مما يدل على أن إيمانهم ملهم، وأنهم مسددون ومؤيدون من رب العالمين الرحمن الرحيم سبحانه وتعالى، لما كانوا يتمتعون به من طيبة النفس وحسن السجايا والطهارة الروحية، والصدق والإخلاص في النية، والاستعداد الكامل للتضحية بالنفس والنفيس في سبيل الله  (جل جلاله) والحق والعدل والخير والفضيلة والحرية والعزة والكرامة والشرف والمجد، وللوصول إلى منازل القرب والزلفى، والاستغراق الكامل في المحبوب ذي الجلال والإكرام والفناء فيه والبقاء به، وهي مفاتيح التوفيق والتسديد والتأييد الإلهي، قول الله تعالى: <وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ>[7].

كما يعتبر رداً بليغاً واضحاً وصريحاً على ما اتهمهم فرعون به، إذ نفى عنهم الطهارة الروحية وصدق النية في الإيمان، وأرجع إيمانهم لأهداف دنيوية سياسية واقتصادية، وهي الانقلاب على النظام السياسي ومؤسسات الدولة والحكومة والملك، وطرد أنصار فرعون من الوظائف العامة والمناصب العليا الحساسة، وطرد الأقباط الموالين للنظام والدولة والملك من أرضهم وديارهم ووطنهم، بهدف الاستئثار بالسلطة والثروة والمقدرات دونهم، مما يدل عنده على الخيانة العظمى التي يستحقون عليها أقصى العقوبات، ونحو ذلك من الأقاويل التحريضية والاتهامات الباطلة، التي ساقها فرعون الطاغية بدهاء منقطع النظير للكيد بالسحرة المؤمنين، من أجل تجريمهم تمهيداً للانتقام منهم وإنزال أشد العقوبات الجسمية والنفسية بهم؛ ليكونوا عبرة لغيرهم، والحد من تأثيرهم الكبير على الناس، ولكي يضمن تأييد الرأي العام الشعبي له ومناصرته ودعم الإجراءات العقابية التي يعتزم اتخاذها ضدهم، بدلاً من التعاطف معهم على أساس المظلومية والقسوة التي وقعت عليهم. فأراد السحرة الكرام لفطنتهم ونفاذ بصيرتهم نفي التهمه عن أنفسهم وإيضاح الحقيقة كاملة للجماهير؛ ليكونوا على علم ووعي وبصيرة ويقين بحقيقة الأمر من الجانبين، إيمانهم، وسخط فرعون عليهم ومعاقبته لهم، لكي لا يضلهم فرعون بالأكاذيب فيخطؤوا الطريق والموقف.

ويعدُّ ثبات السحرة المؤمنين الكرام على موقفهم الإنساني البطولي الشجاع، أمام عوامل الترغيب والترهيب وسياسة الإخضاع الفرعوني غير الإنسانية، وتحملهم لأشد حملات تشويه الصورة والسمعة في حرب الأكاذيب، وتحملهم لأشد العقوبات الجسمية والنفسية للانتقام منهم والتنكيل بهم، وما أظهروه وتجلى في سلوكهم ومواقفهم وأقوالهم من الاشتياق إلى الموت والشهادة في سبيل الله (عز وجل) والحق والعدل والخير والفضيلة والحرية والعزة والكرامة والمجد والشرف ولقاء المحبوب ذي الجلال والاكرام، ليدل بما لا يدع مجالاً للشك والريب والتردد عند كل من له عقل سليم ومنطق متين وقلب صافي وروح طاهرة تحمله على الإنصاف، على أن السحرة الكرام كانوا يتمتعون ببصيرة نافذة، ورؤية واضحة للدين، ويقين راسخ، وعلم واسع، وقول بليغ، وإيمان صادق، ونية خالصة، وأمانة بالغة، وقلوب طاهرة ونفوس سامية، والمحبة الشديدة للناس، والصدق معهم، والإخلاص إليهم والحرص التام عليهم، والرغبة الصادقة الجامحة في إرشادهم وهدايتهم، وتمني الخير والصلاح والسعادة الحقيقية والنجاة لهم، والمحافظة على مصالحهم العامة والخاصة، وصيانة حريتهم وعزتهم وكرامتهم وكامل حقوقهم الطبيعية والمكتسبة، وفدائهم بأنفسهم والتضحية من أجلهم، كل ذلك قولاً وعملاً. على خلاف حال فرعون الطاغية، الذي يعاني من أمراض نفسية وروحية خطيرة جداً، مثل: تضخم الذات والأنانية المفرطة والاستعلاء على الناس والحق، والاستلذاذ بآلام الناس وعذاباتهم، وتسخيرهم بدون رحمة أو شفقة من أجل مصلحته وسلطته وأهوائه الشيطانية ورغباته وشهواته ونزواته وملذاته الحيوانية، بغير رقيب ولا حسيب، لا من الظاهر الاجتماعي والسياسي والقانوني، ولا في الباطن الوجداني؛ لأنه يعاني من موت الضمير والوجدان، ولا يؤمن بالغيب والرقابة الإلهية عليه، ويرفض كل أشكال الرقابة والمحاسبة القانونية والسياسية والشعبية، ويعتبر ذاته مصونة لا تمس، ويجب التسبيح بحمده وتقديسه، ولا يجوز نقده ولا مخالفته أو الاعتراض عليه، ويفرض إرادته وسلطته على الناس طوعاً أو كرهاً، بقوة الحديد والنار والعنف والإرهاب، فيعاقب كل ما يخالفه أو يعترض عليه، بأشد العقوبات ليكون عبرة إلى غيره، فلا يفعل مثل فعله، فهذا هو سبيله للحفاظ على ملكه وسلطته.

وقد مثّل السحرة المؤمنون الكرام بموقفهم الإنساني النبيل والبطولي الشجاع أمام جبروت فرعون وطغيانه وبطشه وقسوته، النموذج والأسوة الحسنة لكل مناضل شريف، ومؤمن صادق في إيمانه وواع بحقيقة الإيمان ومقتضياته وأبعاده الفكرية والروحية والتربوية والحضارية، إذ يستولي الإيمان الراسخ المشرق النقي على كامل المشاعر والعواطف، ويسمو بالإنسان فكرياً وروحياً فوق عالم الدنيا والمادة، وفوق ذاته ومصالحه الدنيوية العاجلة الفانية، ليحلق في عالم الملكوت والطهارة، في ساحة القدس في جوار الملائكة المقربين، فيهدي الله تبارك وتعالى قلبه ويسدد منطقه ونطقه وموقفه، ويلهمه الحقائق الإلهية الحقة العظيمة، ويريه بقلبه وبصيرته عواقب الأمور في الدارين الدنيا والآخرة، فيقول كلمة الحق والعدل والصدق والخير والفضيلة في المحافل العامة والخاصة، ما كانت الحاجة إليها قائمة والاستفادة منها موجودة، فيقولها خالصة لوجه الله الكريم ومن أجل المصلحة العامة إلى الناس، ويبتعد عن الفضول في القول، وقول الزور والرياء والسمعة ونحو ذلك، ويقف المواقف البطولية الحقة المطلوبة بمقتضى الحكمة والشجاعة والبطولة، ولا يجبن أو يتردد خوفاً أو طمعاً، ويضحي بنفسه وراحته ومصالحه الدنيوية الفانية كلها وبأعز ما يملك فيها، من أجل رضوان ربه ذي الجلال والإكرام، والدفاع عن الدين الإلهي الحق وحدوده وعن المبادئ والقيم والحرمات والمقدسات والحقوق إعلاء لكلمة الحق والصدق والعدل والخير والفضيلة، وصيانة لحرية الإنسان وكرامته والمحافظة على المصالح العامة للعباد، ونحو ذلك.


المصادر والمراجع

  • [1]. الأعراف: 125
  • [2]. التفسير المبين، محمد جواد مغنية، صفحة 211
  • [3]. الأعراف: 126
  • [4]. تفسير الكاشف، محمد جواد مغنية، جزء 3، صفحة 381
  • [5]. الأعراف: 126
  • [6]. نفس المصدر
  • [7]. العنكبوت: 69
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الأول | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟