مواضيع

تعريف العلمانية

أولاً: العلمانية في اللغة

العلمانية ترجمة لكلمة سيكولاريزم (secularism) الإنجليزية، وهي مشتقة من الكلمة اللاتينية سيكلوم، وتعني: العصر والجيل والقرن والزمان والعالم المادي والدنيا، أي: أن العلمانية تهتم بالأمور الزمنية (الدنيوية) التي تحدث في هذا العالم المادي، ونزع القداسة عن كل شيء، في مقابل الأمور الدينية والروحانية والمقدسة التي تهتم بها الكنيسة ورجال الدين، وتتعلق أساساً بعالم الآخرة.

وقيل: العلمانية من العلماني، وهو المنسوب إلى العلم، ويقابله الديني أو الكهنوتي، وهو المنسوب إلى الدين، ويرى العلمانيون أن بين العلم وبين العالم المادي صلة وثيقة، لأن العلم يهتم أساساً بالبحث في العالم المادي من أجل الكشف عن قوانينه، وقد ظهر مصطلح العلمانية لأول مرة في العام (1648م).

تعليق على معنى العلمانية في اللغة

ونسبة العلمانية إلى العالم أو العلم، والتقسيم إلى ما هو علماني وما هو ديني، قائم على ثلاثة اعتبارات رئيسية باطلة، وهي:

التقارب بين الاهتمام بالعلم والاهتمام بأمور العالم المادي، والزعم بأن العلم بمعناه الحديث لم يظهر إلا بالتحول نحو انتزاع أمور الحياة من المؤسسات الدينية (الكنيسة في أوروبا) وتركيزها في يد السلطة الزمنية (الدولة)، متجاهلين في ذلك تطور العلوم الطبيعية مثل الكيمياء والطب والرياضيات والهندسة والفلك في الحضارة الفرعونية القديمة، التي كانت تقوم على أساس ديني، ودور الإسلام الحنيف في تقدم العلوم الطبيعية في الحضارة الإسلامية المزدهرة في زمن الخلافتين. الأموية والعباسية وما بعدهما.

الزعم بأن العلم يرتبط بالعالم المادي (عالم الطبيعة) وهو بطبيعته زماني، ولا يدعي لنفسه الخلود، وأن نتائجه قابلة للتصحيح والتطوير على الدوام، متجاهلين حقيقة كون العلم محايد لا علاقة له من قريب أو بعيد بدين، نعم تختلف الأديان في درجة اهتمامها بالعلوم الطبيعية ودورها في المساهمة في تقدمها وتطويرها، وقد ساهم الإسلام الحنيف مساهمة كبيرة وفعالة في تقدم وتطوير مناهج البحث العلمي ومنها المنهج التجريبي، وتقدم العلوم والفلسفة وتطويرها.

الاعتقاد بأن الدين مبني على بواعث قلبية (ذاتي) أو على أسباب عقلية غير كافية، بينما العلم مبني على بواعث موضوعية وأسباب عقلية كافية، وعليه جعلوا للعلم مجالاً أو دائرة، وللدين مجالاً أو دائرة أخرى، وقالوا: لا يصح لكل منهما العلم والدين أن يتدخل في مجال أو دائرة الآخر، وعرّفوا الإيمان: ما يطمئن له القلب من دون أن يؤيده أو يكذبه برهان منطقي صحيح مشاهدة حية، وفرّقوا بين الإيمان وبين اليقين: بأن الإيمان مستند إلى أسباب شخصية ذاتية، بينما اليقين مستند إلى أسباب موضوعية، وبهذا جعلوا بين الدين وبين العلم حاجزاً ودقوا بينهما إِسفيناً، و أوهموا كاذبين بأن كل منهما أي العلم والدين يدعو إلى شيء مختلف، وأنهما لا يلتقيان، فإذا اقترب الإنسان من العلم فقد ابتعد عن الدين، وإذا اقترب من الدين فقد ابتعد عن العلم، مما يفتح الطريق إلى الإلحاد والكفر بالدين أمام طلاب العلوم، وإن تمسك طالب العلم بالدين، فإنه يتمسك به بصفته مجرد هوية شخصية، وليس وراءه أية حقيقة فعلية موضوعية ذات مغزى جوهري في الحياة والسلوك، وهذا التقسيم جاء على خلفية الصراع بين الدولة وبين الكنيسة الكاثولوكية، و ربما هو يناسب الثقافة الدينية التي روجت لها الكنيسة لأسباب سياسية، و ولدت العلمانية من رحم هذا الصراع، لكن هذا التقسيم لا يناسب على الإطلاق الثقافة الدينية الإسلامية المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وسنة أهل البيت (عليهم السلام) التي على ضوئها تقدمت العلوم ومناهج البحث العلمي، ونظرت إلى عالم الطبيعة على أنه من آيات الله سبحانه وتعالى وتجلياته، وأن المعرفة بعالم الطبيعة تساهم في المعرفة بالله ذي الجلال والإكرام وتوحيده، قول الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} وقد أوجب الإسلام الحنيف إسناد الاعتقاد الصحيح إلى الدليل المنطقي السليم والبرهان الصحيح، قول الله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فكل عقيدة لا تستند إلى دليلٍ كافٍ وبرهانٍ صحيح فهي عقيدة خرافية باطلة، ولا يجوز عقلاً وشرعاً القبول بأية عقيدة خرافية باطلة، فيجب تطهير العقيدة من كل الأوهام والخيالات والخرافات الباطلة، وإزالة كل شبهة تعرض على العقيدة بأسلوب علمي دقيق وبرهان صحيح يحصل اليقين الحقيقي الفعلي.

ويؤكد علماء الشريعة المسلمين على التوافق التام والكامل بين العقل والعلم، وبين الدين الإسلامي الحنيف في عقائده وأخلاقه وأحكامه وجميع ما جاء به من العلوم والمعارف من عند رب العالمين، لأن الدين الإلهي – الذي يعتمد على الوحي النازل من عند الله رب العالمين خالق الكون ومدبره والواضع لسننه ونواميسه (قوانينه) – يستحيل أن يفترق مع العقل المخلوق لله سبحانه وتعالى الذي يعمل وفق النظام والقوانين والمنطق الذي فطره عليه في أصل خلقته وتكوينه، ومع العلم الذي يكشف عن الحقائق والسنن والنواميس الكونية التي وضعها الله(عز وجل)، لأن منزل الوحي وخالق العقل والكون وواضع نظام العقل وقواعد عمله وواضع القوانين والسنن الكونية واحد، وهو الله العزيز الحكيم، الذي لا يخطأ ولا يلهو ولا يعبث ولا يناقض ولا يخالف نفسه.

ثانياً: العلمانية في الإصطلاح

العلمانية مصطلح خلافي غير واضح المعاني والأبعاد، وله أكثر من معنى ومن بعد، ظهرت في أطوار زمنية وبيئات مختلفة، وقد أخفق علماء الاجتماع السياسي الغربيين وغيرهم، في بلورة مفهوم واضح واحد متفق عليه للعلمانية، مما أدى إلى غياب الرؤية واختلاف التطبيقات، وظهور مفاهيم عديدة مختلفة ومتعارضة في النظرية، وممارسات متغايرة جداً في التطبيق، وعليه سوف أذكر ما أرى بأنه المهم والجامع من هذه المفاهيم، وأشير إلى ما هو مناسب من الاختلاف في التطبيقات.

1- مفهوم العلمانية القانونية (العلمانية الجزئية)

وهو أول مفهوم عرف للعلمانية وأكثرها شيوعاً، ويعتبر العلمانية ظاهرة جزئية محدودة، ومجموعة أفكار وممارسات يتم تحديدها من خلال آليات قانونية وسياسية واضحة ومحددة، ويعني: فك الارتباط والفصل بين المؤسسات الدينية: البيع والكنائس والمساجد وما هو ديني (لاهوتي)، وبين المؤسسات السياسية: الدولة وأجهزتها وما هو دنيوي، ووجوب إبعاد رجال الدين والكهنوت عن مؤسسات صنع القرار السياسي، وتحرير المجتمع والدولة والفضاء العام، مما هو ديني ومقدس.

فهذا المفهوم يحصر العلمنة في دائرة الحياة العامة، ويلتزم الصمت (لا يعلن القبول ولا الرفض) إزاء ما هو ديني، أي ما يدخل في المجال أو الدائرة الخاصة بالدين، فالعلمانية القانونية الجزئية أو المحدودة لا تدعو إلى إلغاء الدين بل تدعو إلى إلغاء السلطة الدينية وهيمنتها على الشأن العام، على أن يترك ذلك للدولة الزمنية وأجهزتها التابعة لها، وعلى ضوء ما سبق يمكن لرجل الدين أن يشجب قانوناً ما ويسعى وفق القنوات الشرعية ( قواعد اللعبة السياسية) لنقضه، وأن يدين الممارسات التي يراها شاذة، مثل: الإجهاض وزواج المثليين والإفراط في التحرر الديني والأخلاقي ونحو ذلك من فوق المنبر الديني، ويصفها بالشذوذ والخطيئة والمعصية والجريمة الأخلاقية والإنسانية ونحو ذلك، ويدخل ذلك في حرية الرأي و التعبير، لكنه لا يأمر ولا يشجع على مهاجمة عيادة تمارس الإجهاض، أو حفل موسيقى صاخب، أو نحو ذلك، ويعد مهاجمتها جنحة يعاقب عليها القانون، وهذا يعني أمرين رئيسيين، وهما:

أ : أن المطلوب هو احترام القانون والنظام العام، وليس تساهل الشخص بشأن قيمه ومعتقداته الدينية وتكييفها مع القانون والنظام العام.

ب : أن عدم القبول الديني أو السياسي لا يعني اللجوء إلى العنف والقوة بل اللجوء إلى قواعد اللعبة المتوافق عليها قانونياً والمقبولة عند جميع الأطراف، وعليه لا يتحول الاختلاف الفكري والسياسي إلى اختلاف حول النظام السياسي العلماني الذي فصل بين ما هو ديني ومقدسي، وبين ما هو دنيوي سياسي، وجعل لكل منهما مجاله الخاص به، الذي لا يتدخل فيه الأخر، أي لا يتدخل الديني فيما هو دنيوي، ولا يتدخل الدنيوي فيما هو ديني، ويعرف كل منهما حدوده الخاصة به فلا يخرج عنها ويدخل في حدود الآخر، وقد ذهب بعض العلمانيين إلى القول: بأن ثمة فصل حتمي نسبياً بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية بشكل من الأشكال في كل المجتمعات الإنسانية المركبة أو غير البدائية، وأن عناصرالعلمنة موجودة في أي مجتمع في الهامش أو في حالة كمون، لأن كل جماعة إنسانية مهما بلغ تدينها وتمسكها بأهداف دينها، فإنها تتعامل مع الزمان والمكان والطبيعة والجسد، مثل: اختيار أعمال وموظفين على أساس الكفاءة المهنية (معايير زمنية) ولا ينظر إلى مستواهم الأخلاقي أو إلى معتقداتهم الدينية إلا بمقدار تأثيرها في أدائهم المهني، مما يدل على وجود عناصر العلمنة في الهامش وفي حالة كمون في المجتمع، ويمكن أن تنتقل من الهامش إلى المركز ومن الكمون إلى التحقق في اللحظة التاريخية والظروف المؤاتية، ويمكن أن يحدث هذا التحول والانتقال من خلال الحكومة المركزية في الدولة أو من خلال المؤسسات الأخرى ومنها: المؤسسات الدينية.

  • التعليق على مسألة الفصل الحتمي

أعتقد أن هذا فهم مغلوط، يريد أن يصور على خلاف الواقع والبرهان، بأن العلمانية لصيقة بالطبيعة البشرية وأنها الحالة النظرية للإنسان حتى قال أحدهم: «إن الناس علمانيون بالفطرة» فأزال الدين بوصفه ميل فطري لدى الإنسان وجعل مكانه المادية والدنيوية والعلمانية والنسبية ونحو ذلك. كما يريد هذا الفهم المغلوط أن يصور كل ممارسة طبيعية وتَمُت إلى الزمان والدنيا والواقعية وعالم الطبيعة وإشباع حاجات الجسد بسبب أو بصلة على أنها علمانية ودنيوية ومادية بحتة ولا تمت إلى الدين والروحانية والأخلاق والخير والشر بصلة أو سبب، وكأن الأمثال السماوية مثالية تماماً لا تعترف بالحس وعالم المادة، وروحية بحتة تتنكر لمتطلبات الجسد والدنيا تنكراً مطلقاً ولا تكون بما هي روحانية إلا كذلك!! وهذا خلاف الواقع والمعلوم بالضرورة عن الأديان السماوية وبشكل خاص عن الإسلام الحنيف، الذي فيه اعتراف ضمني بأن الإسلام الحنيف يتمسك بمنهج الاعتدال القويم، ويسلك الطريقة الوسطى المثلى، ويدعو إلى التوازن بين متطلبات الروح ومتطلبات الجسد، ومتطلبات عالم الدنيا ومتطلبات عالم الآخرة، ومتطلبات الأفراد ومتطلبات المجتمع فهو دين واقعي ويوافق الفطرة والطبيعة الإنسانية وتكوين الإنسان من روح وجسد مما يؤهله للبقاء والانتصار، وفي المقابل تعتبر نسبة كل ممارسة تمت إلى الدنيا وإلى عالم الطبيعة وإشباع الحاجات الجسدية والواقعية إلى العلمانية، طرح متطرف وغريب وغير واقعي وغير موضوعي ومخالف للفطرة الإنسانية ولأصل الخلقة وتكوين الإنسان من روح وجسد، ويدل على الجهل المطبق، والتعصب الأعمى والإنتقائية الفجة المغرضة، والعجز عن الفهم العلمي الموضوعي للأفكار والمفاهيم، وعن المواجهة الفكرية الموضوعية التي تواجه الحقائق كما حق عليه، مما يسقطه من الإعتبار العلمي البرهاني، ولا يصح الاحتجاج به والاعتماد عليه، ومصيره حتماً إلى الانطفاء والزوال، بل لا نور له ولا ضياء.

وعلى كل حال تتحد هوية العلمانية القانونية (الجزئية المحدودية) من خلال القوانين التي تصدرها الدولة عن طريق السلطة التشريعية (البرلمان) والإجراءات التنفيذية المستندة إلى القوانين التي تقوم بها الحكومة في إدارة الدولة وتدبير شؤونها، وكلها تعتمد على مبدأ الفصل بين المؤسسة الدينية وبين المؤسسة السياسية.

  • اختلاف الممارسة (التطبيق) بين الدول العلمانية

لكن الدول والأنظمة العلمانية في العالم، تختلف فيما بينها في التطبيق والممارسة فيما يتعلق بالموقف من الدين وتحديد حدوده، فالعلمانية في بريطانيا وأمريكا في الوقت الذي تؤكد فيه على ضرورة تحرير المجتمع والدولة والقضاء العام مما هو ديني ومقدس، إلا أنها لا ترفض الديني ولا تنكره مطلقاً، بل تأخذ العقيدة الدينية بعين الإعتبار ولا تطعن في عقائد دينية ولا تهدف إلى استبعاد المؤمنين من الحياة العامة، ولكنها تسعى فقط إلى تحديد مجال أو دائرة الآخر والتعدي عليه.

ففي بريطانيا: يوجد دين رسمي للدولة ويمكن لطالبات المدارس والجامعات والموظفات والشرطيات وغيرهن أن يرتدين الحجاب الإسلامي.

وفي أمريكا: الدولار الأمريكي متوج بعبارة «نحن نثق بالإله» وقيل: لا يمكن لرئيس في الولايات المتحدة أن ينتخب دون أن يتكلم عن الله سبحانه وتعالى!!

بينما العلمانية في فرنسا: ترفض ما يحدث في بريطانيا وامريكا بشكل تام، وتقصي الدولة كل ما هو ديني إلى خارج حدود الحياة العامة، فتمنع الطالبات في المدارس والجامعات من ارتداء الحجاب بقوة القانون بحجة أنه نتيجة لضغط اجتماعي يمارس على المرأة، ولا يعبر في الحقيقة عن حرية شخصية، وتمنع رجال الدين من ارتداء زيهم الديني في الشارع والمؤسسات العامة، وتسعى لإعداد ممتهن للشعائر الدينية: الأئمة والدعاة، مما يعني توغل الدولة وتدخلها في تنظيم الدين، ومراقبة الديني بواسطة السياسي مراقبة سلطوية، والسعي لفرض السيطرة السياسية للدولة على المؤسسة الدينية، ونحو ذلك، مما يعتبر تدخل الدنيوي في مجال أو دائرة الديني، ويعتبر بعض العلمانيين المتطرفين أن مجرد الحديث عن الدين والتعبير عن العاطفة الدينية هو تهديد للعلمانية وفضيحة كبيرة في سلوك العلماني.

وفي تركيا: البلد المسلم التي كانت حتى الأمس القريب (1923م) المركز للخلافة الإسلامية العثمانية، وتعتبر نفسها اليوم دولة علمانية على النموذج الغربي، ولا توجد في دستورها أية إشارة من قريب أو بعيد إلى مرجعية الإسلام الحنيف في التشريع، تعتبر أئمة المساجد موظفين رسميين لدى الدولة، شأنهم في ذلك شأن باقي الموظفين، تدفع لهم أجورهم وتحدد لهم واجباتهم وتكتب لهم خطبهم ومواعظهم وتفرط كغيرها من الدول الإسلامية المتعلمنة أو الدخيلة على العلمانية في توظيف الدين لصالح الدولة والنظام وشخص الحاكم والحكومة، مما يدل على توغل الدولة وتدخلها المقصود في الشأن الديني ومراقبة سلطوية وسيطرة تامة عليه وتوجيهه لصالح الدولة والسياسة، وهو أسلوب معادي في الأساس وعلى نحو مكشوف للدين، ومخالف لمقتضى مفهوم العلمانية القانونية الذي يقضي بالفصل بين الدين وبين الدولة وعدم تدخل الدولة فيما هو ديني وعدم تدخل الدين فيما هو سياسي ودنيوي، مما يعني امتناع الدولة عن التدخل في التنظيم الداخلي للديانات، ومنها: الأوقاف الشرعية، على قاعدة: «ما لله لله، وما لقيصر لقيصر» وقد تحسنت الصورة بعض الشيء من الناحية العملية لصالح الدين بعد وصول حزب العدالة والتنمية ذو الأصول الإسلامية (قريب من الإخوان المسلمين) إلى السلطة في تركيا.

2- مفهوم العلمانية كفلسفة (العلمانية الكلية الشاملة)

ارتبط مفهوم العلمانية القانونية بالمراحل الأولى لظهور العلمانية في أوروبا، ثم تراجع هذا المفهوم وهمش وأصبح نموذجاً ضعيفاً إلى أبعد الحدود، وحدثت تحولات بنيوية عميقة تجاوزت عملية فصل الدين عن الدولة، والديني عن الدنيوي، ومجالات السياسة والاقتصاد والتصورات الفكرية المحدودة، لتشمل التربية والتعليم والفلسفة وكل مجالات الحياة الخاصة والعامة ودخلت إلى وجدان الإنسان وفكره وسعت لإعادة صياغته، وتغلغلت في أفكاره وأحلامه ورغباته وقيمه ووجهت سلوكه وعلاقاته في الشأن الخاص والعام، فلم تعد هناك رفعة للحياة الخاصة مستقلة عن رفعة الحياة العامة، وظهر مفهوم العلمانية كفلسفة (مفهوم العلمانية الكلية الشاملة) الذي حاول أن يعطي مفهوماً شاملاً للكون والإنسان والحياة والقيم والمجتمع ونظام الدولة والتاريخ، ويصوغ سلوك الإنسان ويوجهه وجهة علمانية شاملة، أي العلمانية رؤية كونية ومنهج وسلوك، رؤية تفسّر الكون والحياة والإنسان تفسيراً مادياً بحتاً، وتنكر عالم الغيب والروح، وتذهب إلى أن الأخلاق والقيم لا بد أن تكون نسبية ولصالح الناس في الحياة الدنيا، وتستبعد كل الاعتبارات المستمدة من الإيمان بالغيب والإله والحياة الآخرة، ولا يترك أي مجال للديني، ولها مقتضيات عديدة، منها: وضع الأخلاق على أسس نفعية مادية دنيوية، و إقصاء النفوذ الكهنوتي عن الدولة، ونقل الوظائف العامة من رجال الدين والكهنوت إلى خبراء يتم تدريبهم تدريباً زمنياً لا علاقة له بالدين والإيمان والأخلاق ويتم اختيارهم على أساس الكفاءة وزيادة الإنتاج، وتصفية كل مضمون ديني وأخلاقي وإنساني مطلق في التعليم والقانون، ولها ثلاثة أهداف رئيسية، وهي:

تحرير الإنسان من الداخل وإعادة صياغته بحيث يتحررمن كل التراث الثقافي والأعراف والعادات والتقاليد والعقائد الدينية والموروثة، ومن كل مرجعية روحية وأخلاقية وقيم إنسانية مطلقة، أي: التحرر من المطلقات كافة، ويخضع للمرجعيات الدنيوية المادية، وأن تصبح كل العلاقات تعاقدية.

أن يلتف الإنسان حول ذاته ويتحرك بحثاً عن مصالحه الدنيوية ولذاته ورغباته.

أن يدين بالولاء للدولة فقط، ويغير قيمه ويتحرك بحسب ما يصله من الدولة من إرشادات وتعليمات، ويخضع لنظام الدولة وقوانينها، أي: تغول الدولة وأجهزتها بحيث تحكم قبضتها على الأفراد من الخارج بالسياسة والقوانين، ومن الداخل بالفكر والتربية والتعليم و تتم العلمانية، مثل: القوة واللذة والمنفعة.

ويعتمد مفهوم العلمانية الكلية الشاملة على الروح العلمية، وتمجيد العقل ومنحه سلطة مطلقة فوق الدين وفوق القيم ويدور مدار الواقعية والمصلحة وعالم المادة، وعلى فلسفة النوار (حركة التنوير) التي تقوم على تمجيد فكرة التقدم، والشك في التقاليد، واستبعاد المعايير التقليدية، والقيم المطلقة الدينية والأخلاقية والإنسانية عن جميع جوانب الحياة الخاصة والعامة، بحيث تنزع القداسة عن العالم والحياة ويتحول كل شيء إلى مادة استعمالية يمكن توظيفها لصالح الأقوى والمنفعة، ومعارضة الدين والإيمان بالإله والغيب والحياة الأخرى، والدعوة إلى التفكير الذاتي والتفاؤل بتأثير التعليم والعلوم في الإصلاح الأخلاقي ونحو ذلك، وعلى الديمقراطية والمساواة والحياد الديني للدولة، والإعتراف بحرية الاعتقاد وتغيير المعتقدات، وتقديم معرفة نقدية كاملة للواقع، تشمل جميع مظاهر الحياة والنشاط الإنساني، والترويج لأخلاق وقيم عقلانية، مثل: المادية والنسبية وأخلاق السوق وقانون العرض والطلب وتعظيم اللذة الجنسية والحسية وزيادة الإنتاج والمنفعة المادية والقوة والسرعة ونحو ذلك، في مقابل الأخلاق والقيم الدينية والإنسانية المطلقة وبدلاً عنها وتقويضها إلى الأبد وبدون رجعة، أي تقويض مفهوم الإنسانية المشتركة، وسيادة الواحدية المادية الموضوعية، ويعتبر رواد هذه المدرسة ودعاة هذا المفهوم، أن المسيرة البشرية سوف تنتهي حتماً إلى هذا الإتجاه العلماني الشامل في كل مناحي الحياة، حيث لا يكون أي مجال للدين، وهذه الحتمية على غرار الحتمية التاريخية في المدرسة الماركسية التي تنتمي إلى الشيوعية، لكن الحتمية الماركسية محكومة بقانون صراع الطبقات، والحتمية العلمانية محكومة بالعقل المادي، وبالميول الطبيعية للإنسان. وكما انكشفت حقيقة الحتمية التاريخية بكونها مجرد سراب، كذلك ستنكشف حقيقة الحتمية العلمانية بكونها مجرد سراب، يبصر حقيقتها أصحاب البصائر، ويلهث وراءها أصحاب الأوهام والخيالات الباطلة حتى يهلكوا!! لأنها تخالف العقل والمنطق والوجدان والطبيعة الإنسانية وأصل الخلقة والتكوين والميول الفطرية للإنسان.

  • المقارنة بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة

ومفهوم العلمانية كفلسفة (مفهوم العلمانية الكلية الشاملة) يقدم في الحقيقة والواقع نوع من الخطاب الإيديولوجي الذي يقدم العلمانية كدين وضعي بشري شامل: رؤية ومنهج وسلوك، وهو مفهوم يختلف اختلافاً جوهرياً عن مفهوم العلمانية القانونية الجزئي المحدود، الذي يقوم على الفصل بين الدين والدولة، وتحدد فيه ماهية العلمانية بالقوانين التي تصدرها السلطة التشريعية (البرلمان) والإجراءات السياسية والتنظيمية والإدارية التي تتخذها أو تقوم بها السلطة التنفيذية (الحكومة) في مجال الشأن العام، وعليه يمكن تعريف العلمانية الجزئية المحدودة: هي ما يمكن اسنباطه كمبدأ مشترك من مجموعة نصوص القوانين التي تعرف بها العلمانية في الدولة وتقوم عليها، وتستمد شرعيتها وصلاحيتها من إرادة المشرع (السلطة التشريعية والبرلمان)، فحقيقة العلمانية في مفهوم العلمانية القانونية حقيقة سياسية وقانونية بحتة: محدودة وجزئية، وليست منهجاً فكرياً أو رؤية كونية أو حالة عقلية أو فلسفية، ولا ترمي إلى استبدال القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية بقيم جديدة مادية ونسبية ودنيوية بحتة، كما هو الحال بالنسبة إلى مفهوم العلمانية كفلسفة، وتمتنع قانونياً على خلاف العلمانية كفلسفة عن الكلام في العقيدة الدينية. فنحن أمام مفهومين للعلمانية مختلفين اختلافاً جوهرياً كبيراً وواسعاً: مفهوم العلمانية القانونية، ومفهوم العلمانية كفلسفة، مع التنبية إلى أن مفهوم العلمانية كفلسفة غير متوافق عليه بين جميع العلمانيين، فهناك من يرفضه على مستوى المفكرين والدول في العالم، ويتمسك بمفهوم العلمانية القانونية مع الاختلاف في الدرجة سعة وضيقاً.

  • التلاقي بين الرأسمالية والاشتراكية

طرحت الاشتراكية في التأسيس باعتبارها نقيضاً فعلاً (فعلياً) للرأسمالية وتم تقسيم المجتمعات الصناعية الحديثة في الغرب إلى قسمين: رأسمالي واشتراكي، ويرى دعاة العلمانية كفلسفة: أن تلك الثنائية شكلية وليست جوهرية، وقد زالت تدريجياً بالفعل، بظهور سمات المجتمعات الرأسمالية في المجتمعات الاشتراكية، مثل: المنفعة والإباحية وزيادة الإنتاج وإشباع الحاجات المادية وتحقيق الذات وتعظيم الكفاءة واللذة وقيم الطبيعة وقوانين العلم المادية وتراجع الحديث عن العدالة والطبقية وتآكل الأسرة وضمور الحس الاجتماعي وتهميش الإيديولوجيا وضمور المطلق الأخلاقي والإنساني وانحسار العناصر الثورية ونحو ذلك، لأن المجتمعين: الرأسمالي والاشتراكي بنيا في الحقيقة على أصول مادية دنيوية مشتركة، فزالت الصورة والشكل وبقي الجوهر، أي: ظهر الإنسان المادي الطبيعي على طبيعته وجوهره، بحيث أصبح المثل الأعلى الرأسمالي، هو نفسه المثل الأعلى الإشتراكي، وأصبح الاشتراكي الذي يضحي بنفسه من أجل العدالة الاجتماعية والطبقة العاملة والحتمية التاريخية الشيوعية، يقبل تدريجباً على الحياة الدنيا والحاجات المادية ولا يفهم سوى منطق اللذة والقوة والمنفعة، ويعتبر الحديث عن المطلقات: الأخلاقية والإنسانية والإيديولوجية، حديث سخيف لا معنى له، تماماً مثل الرأسمالي، وهذا التحول والانتقال حتمي يفرضه العقل المادي والطبيعة، وسوف تنتهي جميع المجتمعات البشرية المركبة إلى نفس النتيجة بشكل حتمي وعلى نفس الأساس لأنه الخيار الوحيد الواقعي أمام الإنسان بحكم العقل والطبيعة.

ويرى بعض دعاة مفهوم العلمانية كفلسفة (العلمانية الكلية الشاملة) أن التلاقي بين الرأسمالية والاشتراكية قد بلغ ذروته، باطلاق جورباتشوف العنان للحريات، وظهور الرغبة المتصاعدة للحقوق بأمريكا، الأمر الذي وصفته ناتشر (رئيسة الوزراء البريطانية) بالثورة الحقيقية في الاتحاد السوفييتي، في مقابل ما وصفته بالانقلاب في العام 1917م وهو ما عرف بالثورة البلشفية.

وبهذا الالتقاء التاريخي بين الرأسمالية والاشتراكية، بنيت العلمانية كنموذج تفسيري مشترك لكل المجتمعات الصناعية الغربية الحديثة، وانتصرت الواحدية المادية الدنيوية النسبية، وتوارت المطلقات الأخلاقية والإنسانية والإيديولوجية وكل القيم التي تتجاوز الواقع الاقتصادي والمادي والطبيعي إلى الوراء وبدون رجعة ويقول الدكتور عبدالوهاب المسيري: «ومن المؤشرات الأخرى على مدى تقلص المطلقات واختفائها بالنسبة للإنسان السوفييتي عدد البغايا بين المهاجرين السوفييت إلى إسرائيل، إذ يبدو أن عدداً كبيراً من المهاجرات، ينظرن إلى النشاط الجنسي داخل إطار المرجعية المادية النهائية باعتباره نشاطاً جسدياً وحسب، منفصلاً عن أية قيمة مطلقة، أخلاقية كانت أم إنسانية، ومن ثم … فبالإمكان توظيفه اقتصادياً بطريقة تحقق اللذة للمستهلك والمنفعة للمنتج».

3- مفهوم الإصلاحيين للعلمانية

معظم رواد هذا المفهوم ودعاته من المسلمين الإصلاحيين، ولهم أشباه من المسيحيين واليهود، ويدعو رواد هذا المفهوم ودعاته إلى فصل الرسالة القرآنية عن تجسيدها العيني في تاريخ ومكان محددين، وتحرير الإسلام الحنيف من طابعه الثقافي، وليس تكييفه مع ثقافة جديدة كما يدعوا رواد العلمانية التقليديون، والخروج من الاستخدام العقائدي والعملي للنصوص، لأن الإسلام ليس مطالب بالإجابة على كل الاسئلة المعاصرة، مثل: الاسئلة المتعلقة بالمساواة بين الرجال والنساء، والمتعلقة بحقوق الإنسان والعلمانية والديمقراطية والرأسمالية والاشتراكية ونحوها، حيث يجب أن يتم تناول هذه المسائل خارج النص القرآني، مما يفتح المجال أمام العقل والتفسير (الاجتهاد) الشخصي للإسلام، ويعتقد هؤلاء: أن السلطة سبب لتحجر الإسلام بسبب استخدامه كوسيلة لتأييد النظام القائم، وليست وسيلة للمحافظة عليه والدفاع عنه، وهذا يتطلب الفصل بين الشأنين: الديني والسياسي، لإنقاذ الديني والروحي والمؤسسة الدينية العلمانية من قبضة السياسي وسلطته وهيمنته السلطوية، وليس لإنقاذ السياسي من قبضة الديني كما كان الحال في الصراع بين الدولة والكنيسة الكاثولوكية حين ولدت العلمانية وبزغ فجرها في أوروبا؛ ولإزالة التشويش القائم بين الإسلام والشأن السياسي بسبب توظيف السياسي الدين لأهدافه ورغباته السياسية البحتة، ويعتقد هؤلاء بأن وصول المؤسسة الدينية إلى السلطة، يعني أن ما هو في السلطة هو جهاز سياسي علمائي ديني يستخدم النظام الأخلاقي والروحي والديني للبقاء في السلطة والمحافظة على مصالحه السياسية البحتة، وليس الدين هو الذي يحكم ويقود، ويدعو هؤلاء الرواد والدعاة الإصلاحيون إلى بقاء المجتمع المدني مجتمعاً دينياً، لأن بإمكان المجتمع المدني المتدين أن يلعب دوراً محورياً في تحرير المواطن من سلطة الدولة المطلقة لصالح الدين واستغلال الأفراد، ويرون بأن عودة الأفراد إلى الإيمان المجرد، هو الذي سوف يسمح بإعادة بناء المجتمع الإنساني بناءً سليماً على أساس الدين.

ويرى الدعاة إلى هذا المفهوم من المسيحيين أن من واجب المسيحية الاهتمام بالدنيا كاهتمامها بالآخرة، وأن يتاح للإنسان في عالمه المادي فرصة تعزيز القيم الروحية والأخلاقية المسيحية ونشرها، وأنه يمكن اكتشاف المعنى الحقيقي لرسالة السيد المسيح(ع) وتحقيقه عملاً من خلال شؤون الحياة اليومية وواقع الحياة العلمانية في المدن الحديثة، فلا تعارض في واقع الأمر بين الدين والعلمانية، وأنه يمكنهما التعايش معاً في سلام ووئام وخلق التوازن بينهما، ولا ضرورة ولا حاجة للصراع بينهما، ولعل العلمانية تكون منطلقاً صالحاً للتجديد الديني بما يتلاءم مع مستجدات الحياة والواقع، لفصلها بين ما هو ديني وما هو سياسي، ولما تنتجه من حرية التفكير والاعتقاد والتعبير، وهذا ينسجم فقط مع مفهوم العلمانية القانونية، ولا ينسجم مع مفهوم العلمانية الكلية الشاملة أو العلمانية كفلسفة.

وذهب بعض الدعاة إلى المفهوم للعلمانية من المسلمين إلى القول بأن جوهر الإسلام علماني، لأنه قائم على غياب الكهنوت، ولأنه يهتم بالعالم المادي الطبيعي وشؤونه وبالحياة الدنيا، وبالإنسان بوصفه قلب العالم ومركزه، ولأن الإسلام يُعلي من سلطان العقل ومكانته ويجعله الركيزة الكبرى وله المرجعية الكلية والنهائية، وأن الدين بدوره يخضع لمعايير العقل ولا يختلف معه في عقيدة أو أخلاق أو شرعية، ويقول هؤلاء: أن كل المسلمين علمانيين لأنهم مشغولون بأمور العالم المادي وشؤونه، وبأمور المعاش في الحياة الدنيا وتنميتها وتطويرها وازدهارها وتحقيق الراحة والرخاء للناس في الحياة الدنيا، ونحو ذلك كثير. ويحاول هؤلاء التوفيق بين الإيمان والديمقراطية، بالقول: إن المؤمن يرجع إلى معيار إلهي ديني في حياته، لكن ذلك يصدر عنه من قرارة نفسه بما هو شخص مؤمن، وليس بإلزام من الدولة أو من المجتمع أو من المؤسسة الدينية ورجال الدين، وبدون أن يفرض على الآخرين ما يعتبره معياراً إلهياً، وبهذا يتماشى ويتواءم الإيمان المطلق مع مبدأ الحرية والتعددية، وأيضاً: لا توجد هيئة دينية (كهنوت) تفرض الإيمان على المواطنين، ولا تستولي على الدولة مؤسسة دينية بنوع خاص، ولا توجد رقابة دينية على الإرادة الشعبية، وتكون صناديق الإقتراع هي مصدر الشرعية السياسية الوحيد.

واعتبر العلمانيون التقليديون هذا التوجه الديني الإصلاحي لدى بعض المفكرين الإصلاحيين فرصة لرؤية فقه إسلامي ليبرالي، ويكشف عن القابلية للتلاؤم والتوافق بين الإسلام والعلمانية والديمقراطية، كخطوة رئيسية نحو الحتمية التاريخية التي سوف تنتهي حتماً إلى العلمانية الكلية الشاملة على أساس الواقعية في التفكير والعقل المادي والطبيعة الإنسانية.

ملاحظات على مفهوم الإصلاحيين

يلاحظ على مذهب الإصلاحيين النقاط الرئيسية التالية:

  1. أن الدعوة إلى تجريد الإسلام الحنيف من طابعه الثقافي وتجسيده العيني، له وجهان:

الوجه الحسن: فهو يسمح للتمييز المنهجي بين الوحي والنص المقدس، وبين الاجتهاد البشري في النص، الذي يقبل الخطأ والاختلاف في الرد، وهو تمييز ضروري يحمي الإسلام الحنيف من الجمود، ومن تبعات الممارسات الخاطئة للمسلمين، لا سيما الحكام المستبدين الظلمة الذين سيطروا على السلطة بالقوة أو بالانقلاب أو بالخداع والتضليل والكذب أو بالوراثة ونحو ذلك من الأساليب السيئة للوصول إلى السلطة والبقاء فيها، واعتمدوا على الأجهزة الأمنية والجيش والدعاية الاعلامية والسياسية لتحقيق أهدافهم، وسودوا بحق وحقيقة صفحات التاريخ وأساؤوا إساءة كبيرة ونوعية للإسلام الحنيف وللأمة الإسلامية والإنسانية، مع التنبيه إلى الحقيقة التاريخية الواضحة، وهي عدم تشكل حكومة إسلامية بالمعنى الدقيق للكلمة بعد حكومة الرسول الأعظم الأكرم(ص) وحكومة الإمام علي بن أبي طالب(ع) القصيرة جداً في التاريخ الإسلامي الطويل، حتى القرن العشرين وقيام الدولة الإسلامية في إيران.

ولكن يجب التنبيه في المقابل أيضاً: أن الشارع المقدس، في الوقت الذي أوجب أن يستند التعبد في الأصل والأساس إلى العلم اليقيني (الحكم الواقعي) أوجب على المكلف في زمن غيبة المعصوم، الرجوع إلى الفقهاء لأخذ الأحكام الشرعية الظاهرية والتعبد بها (العلم التعبدي التنزيلي)، وهنا يجب التمييز بين أمرين تمييزاً علمياً منهجياً:

أ – أن الفقيه يجب أن يتحلى بالموضوعية والنزاهة (التقوى) وأن يستفرغ وسعه في البحث حتى يحصل له اليقين العلمي بالحكم الشرعي قبل أن يفتي به.

ب – أن الحكم الذي يستخرجه الفقيه من أدلته الشرعية، رغم ما يتمتع به الفقيه من الموضوعية والنزاهة (التقوى) والكفاءة واستفراغ الوسع، يبقى حكماً ظاهرياً وظنياً في أكثر صوره، وقابلاً للخطأ ويجوز الاختلاف العلمي فيه ورده علمياً، لكن مع ذلك: يجب على المكلف الرجوع إلى الفقيه وأخذ الحكم الظاهري منه والتعبد به، لأنه الطريق الوحيد للتعبد الصحيح الواجب على المكلف، وحفظ المصالح والغايات والمقاصد التي يريدها الشارع المقدس له في أمور الدنيا والآخرة، وهذه الضرورة قد استدعت التنزل من لزوم تحصيل العلم بالحكم الشرعي الواقعي، إلى مرتبة التعبد بالحكم الشرعي الظاهري، وعليه: لا يصح عقلاً الطعن في الرجوع إلى الفقهاء والتعبد بالأحكام الظاهرية للضرورة الملجئة وانحصار التعبد في زمن غيبة المعصوم في هذا الطريق وحده، والبديل أو المقابل: هو تعطيل العمل بالشريعة، وضياع كافة المصالح والغايات والمقاصد التي جاء الدين والشريعة من أجلها، وهو أمر مخالف للعقل والمنطق والحكمة. وأما الوجه السيء: فهو حرمان الفكر من الوقوف على التطبيقات الصحيحة للدين، من قبل الرسول الأعظم الأكرم(ص) والأئمة المطهرون(عليهم السلام) والفقهاء العدول رضوان الله تعالى عليهم وهو الأمر الذي يقتضيه الاقتداء بهم، قول الله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وقول الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} والرسول أسوة حسنة في كل أحواله، في: عقيدته ويقينه، وأخلاقه وخصاله وصفاته الحميدة، وسلوكه ومواقفه وعلاقاته وفي قضائه وأسلوبه في الحكم والإدارة والتدبير، ونحو ذلك من أمور الدين والدنيا والآخرة، وإبراهيم والذين آمنوا معه، أسوة حسنة في عقيدتهم ويقينهم، وشدة ثباتهم وصبرهم وتحملهم، وحبهم وبغضهم لله، ونحو ذلك من مقتضيات حقيقة الإيمان وصدقه وكماله، وعليه: فإن تجاهل التطبيقات الصحيحة للدين في الشؤون العامة والخاصة، وتجاهل الاقتداء بالأسوات الحسنة في الدين والدنيا يفوت الكثير من المصالح والفوائد: الفكرية والعملية، ويؤثر تأثيراً سلبياً على فهم الدين الحنيف، ويصوره وكأنه دين مثالي مجرد بعيد عن الواقع ويعطل قيمته: التربوية والحضارية في الحياة، ويقلل من الاهتمام به عند الناس وانتشاره لعديم فائدته، لأنه مجرد حالة رمزية ليس أكثر وهذا يتطلب ضرورة التمييز منهجياً بين الممارسات الخاطئة التي يجب نقدها والتخلي عنها، وبين التطبيقات الصحيحة التي يجب العلم بها والاستفادة منها، وهو أمر ممكن بالرجوع إلى الفطرة وثوابت الدين الإسلامي الحنيف وأحكام العقل ونقد الممارسات الخاطئة وتركها، وتحليل التطبيقات الصحيحة والاستفادة منها: فكرياً وتربوياً وحضارياً والحرص على تكميلها وتطويرها.

2. أن المطالبة بالخروج من الاستخدام العقائدي والعملي للنصوص، يتعارض مع حقيقة خاتمية وعالمية وشمولية الدين الإسلامي، والتي يعتبر فتح باب الاجتهاد أحد أهم أركانها الواقعية. ولكن يجب التمييز بين الاجتهاد العلمي الذي يمارسه الفقهاء العدول المؤهلون: علمياً وروحياً وعملياً، وفق منهج علمي وبحثي صحيح، وهو ضروري في الدين الإلهي الشامل والخاتم في عصر غيبة المعصوم(ع) وفي زمن حضوره في المناطق البعيدة، وبين الاجتهادات الباطلة التي يمارسها غير المؤهلين: علمياً وروحياً وعملياً للاجتهاد الإسلامي، ووعاظ السلاطين المدجنين: فكرياً وسياسياً، التابعين للحكام المستبدين الظلمة، الذين يحققون إرادتهم الحائرة الباغية ورغباتهم الشيطانية والحيوانية، ولا يتحلون بالورع والتقوى، ولا يهتمون بحقيقة الدين والرسالة الإلهية وبمصالح الناس، وجل إهتمامهم منصب على إرضاء ولي نعمتهم السلطان، وحفظ مكانتهم ومصالحهم عنده، وتعتبر هذه الاجتهادات الباطلة من أهم أسباب الانحراف عن الدين الإلهي الحق وعن الصراط المستقيم وعن نهج الاعتدال القويم وعن الطريقة الوسطى المثالية في الحياة، والميل إلى التطرف الفكري والعملي، وإغواء المؤمنين وإضلالهم.

3. لا شك في وجود التوظيف السياسي من قبل الحكام المستبدين الظلمة للدين الحنيف وسوء استخدامهم له، وأن ذلك بالإضافة إلى عوامل موضوعية أخرى، من أهم أسباب تحجر الدين، وانحرافه عن طريقه وأهدافه ومقاصده وغاياته في الحياة، وظهور المذاهب والمدارس الفكرية والكلامية المنحرفة، وحركات التطرف والممارسات الشاذة من قبل جماعات من المسلمين، ونشر الفساد والظلم والتحلل، وتعزيز التخلف الحضاري الشامل في الأمة الإسلامية، ولكن يجب التمييز منهجياً بين الحكومات المستبدة الجائرة التي توظف الدين لخدمة أهدافها السياسية الخاصة، وبين الحكومة الإسلامية الرشيدة التي تطبق الدين تطبيقاً صحيحاً، ويقودها إمام عادل تقي ورع عارف بالدين وأحكامه وتطبيقاته الصحيحة وبأوضاع زمانه وحريص على الدين وحفظه وتطبيقه ويعمل به كما هو وعلى مصالح المسلمين والعالمين تمام الحرص النابع من التقوى وصدق الإيمان، وإقامة هذه الدولة واجب شرعي على المؤمنين متى توفرت الشروط وكانوا قادرين على ذلك، وهي ضرورية لتحقيق العدالة وإيصال الإنسان إلى كماله اللائق به والمقدر له وتحصيل سعادته الحقيقية الكاملة في الدارين: الدنيا والآخرة، والكشف عن واقعية الدين الإلهي الحنيف وأهميته وقيمته العملية: المعرفية والتربوية والحضارية في الحياة، وقدرته على تحقيق الأمن والاستقرار والاسراع بحركة التنمية والتمدن والتحضر وتحقيق الرخاء للإنسان والازدهار الشامل: الفكري والروحي والعملي في الحياة، وتجليات الرحمة الإلهية العظيمة في الدين الإلهي الحق وتطبيقاته وفي الدولة الإسلامية ونظامها وأحكامها وآثارها الإيجابية العميقة في الحياة.

4. لا إشكال ولا شك في أهمية بقاء المجتمع المدني مجتمعاً دينياً، ودوره في تحرير الإنسان المواطن من سلطة الدولة الجائرة والحكومة المستبدة، وليس لتحريره من سلطة الدولة مطلقاً والدولة الإسلامية الحقيقية خصوصاً، فإيمانه الصادق يمنعه من ذلك، ويحثه على تأييدها والدفاع عنها وحمايتها والتضحية من أجلها، وهي من أهم أهدافه في الحياة، وعليه: يجب التمييز بين أربع حالات:

  • التحرر من سلطة الدولة الجائرة وهو واجب وفضيلة.
  • دعم وتأييد ومساندة الدولة الجائرة لنفسها أو لمصالح خاصة وهو حرام ورذيلة.
  • التحرر من سلطة دولة الحق والعدل ومقاومتها ومناهضتها وهو حرام ورذيلة.
  • دعم وتأييد ومساندة دولة الحق والعدل والتضحية من أجلها وهو واجب وفضيلة.

5. إن اعتبار بعض الإصلاحيين لخصائص الاعتدال والوسطية في الدين الإسلامي الحنيف، مثل: الاهتمام بعالم المادة والطبيعة وشؤونه، وتلبيات حاجة الجسد وعالم الدنيا، والاهتمام بعامل الكفاءة في اختيار العمال والموظفين، ونحو ذلك، وهي خصائص موافقة للعقل والفطرة والطبيعة وأصل الخلقة والتكوين، وتدل على واقعية الإسلام الحنيف واستقامته وتوازنه، وتؤهله للبقاء والانتشار والانتصار في نهاية المطاف وقيادة المسيرة البشرية وتحقيق غاية وجود الإنسان في الحياة، على أنها دليل على علمانية الدين الإسلامي الحنيف، أو أنها عوامل علمانية موجودة في الهامش أو كامنة في المجتمعات الإسلامية، وأنها سوف تنتقل حتماً إلى المركز والتحقق الفعلي لينتهي المطاف بالمجتمعات الإسلامية للوصول إلى العلمانية الكلية الشاملة شأنها في ذلك شأن جميع المجتمعات البشرية المركبة، فيه إجحاف كبير وفاضح للحقيقة، وظلم بيّن للدين الإسلامي الحنيف، ويقوم على مغالطة وضعت موضع المسلمات بدون دليل، وجعلت كحكم مسبق حكم به دعاة العلمانية الكلية الشاملة، وهي: اعتبار العلمانية هي الأصل الذي تقتضيه الطبيعة والعقل المادي في حياة الإنسان، وهذا الحكم لا يستند إلى دليل صحيح، وهو محل اختلاف بين أقطاب الفكر والفلسفة في التاريخ الطويل، ولا حقيقة له مثبتة، بل هو مجرد سراب يجري وراءه الحمقى والجهلة بحسي رغباتهم الخاصة وخيالاتهم الوهمية ولا أساس لها في العقل والمنطق كما هو ثابت في سجالات الفلاسفة والمفكرين. فالفلسفة الحية في المعرفة التي تنكر عالم ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا – الغيب) ولا تعترف إلا بالمعرفة الحسية التجريبية وبعالم المادة والطبيعة، والفلسفة المادية التي تنكر الروح ومتطلباتها ولا تعترف إلا بمتطلبات الجسد، والدنيوية التي تنكر عالم الآخرة وتتجاهل متطلباتها ولا تعترف إلا بالمصالح الدنيوية، والنفعية التي تتجاهل القيم الدينية والروحية والأخلاقية والإنسانية ولا تعترف إلا بالمصالح والأرباح المادية الدنيوية المبنية على التجربة، والنسبية التي تنكر الحقائق والقيم والمبادئ المطلقة: وتؤكد على تغير الخير والشر بتغير الزمان والمكان وأنهما يدوران مدار المصلحة ولا أساس لهما في نفسيهما ولا ثبات لهما، وأن العقل البشري لا يستطيع أن يعرف كل شيء، ولا يستطيع أن يعرف حقائق الأشياء، فإذا عرف بعض الأشياء، لم يستطع أن يحيط بها إحاطة تامة، ويستحيل إدراك المطلق، لأن العقل لا يستطيع أن يعرف الشيء إلا من جهة ما هو متميز عن غيره من الأشياء، وهو المطلق لا يتصور وجود شيء خارجه حتى يعارض به ونحو ذلك، هذه هي المبادئ التي اختارها رواد العلمانية الكلية الشاملة، واعتمدوا عليهم فيما زعموا أنها رؤية كونية شاملة للعلمانية للكون والإنسان والحياة والمجتمع والدولة والتاريخ، وكلها مأخوذة من فلسفات قديمة قلّ مشتروها ومسوقوها، لأنها غير منطقية، ولا تستند إلى أدلة كافية وبراهين صحيحة، ومخالفة للميول الفطرية والطبيعية وأصل الخلقة والتكوين عند الإنسان وفي الحقيقة والواقع: لا توجد رؤية شاملة للكون والإنسان والحياة والمجتمع والدولة والتاريخ تستند إليها العلمانية، وما زعمه رواد مفهوم العلمانية كفلسفة من أنها رؤية كونية شاملة تقوم عليها العلمانية، هي أقوال قديمة من فلسفات ومذاهب عديدة، تم اختيارها والتلفيق بينها بدون أساس منهجي ومنطقي واحد مشترك بينها، وكل واحد منها محل اختلاف وسجال بين الفلاسفة والمفكرين، وليست هي في المركز الأقوى، ولم تصمد أيام البحث والنقاش والنقد العلمي البرهاني الصحيح، وقد تم اختيارها وتلصيق بعضها إلى بعض بدون أساس مشترك، لأنها توافق أهواء ورغبات وأحلام دعاة مفهوم العلمانية الكلية الشاملة، وهي في الحقيقة حالة فكرية هشة تشبه السراب، يعلم بحقيقتها أصحاب البصائر ويجري وراءها بلهفة الجهلة والحمقى حتى يهلكوا، وأرى أن الفلسفة الماركسية أكثر أصالة وتمثل حالة فكرية وفلسفية وعقلية أكثر تماسك وعمق ومتانة وصلابة، وهي أكثر جدارة بالبحث والدراسة والمناقشة مما يزعمون أنها فلسفة أو رؤية كونية شاملة للعلمانية، ومع ذلك فقد تلاشت الماركسية وزالت وتبخرت إلى الأبد، والعلمانية أولى منها بمثل هذه النهاية المأساوية الموحشة، وسوف تنتهي إليها حتماً، لأنها غير منطقية، ولأنها ملفقة وليس لها أساس منهجي واحد مشترك، ولأنها تخالف ميول الفطرة والطبيعة الإنسانية وأصل الخلقة والتكوين، وليس لها مشترون ومسوقون كثر، وقد فرغ الفلاسفة من إثبات بطلان المذاهب والمبادئ التي تقوم عليها من زمن بعيد، واعتقد بأن العلمانية الكلية الشاملة أسرع إلى الزوال من العلمانية الجزئية، غير أن العلمانيين بل جلهم غير متوافقين على العلمانية الشاملة، ولو توافقوا عليها لزالت العلمانية منذ زمن بعيد.

6. أن التوفيق بين الإيمان والديمقراطية ممكن عملياً، لأن الإسلام هو دين الشورى والمشاركة الشعبية في صناعة القرار في الأمور التي تعود إلى الناس وليس في الأمور التي تعود إلى الله سبحانه وتعالى ونزل بها الوحي، ولأن الإسلام يسمح للمؤمنين بالتوافق والتلاؤم عملياً مع الدولة العلمانية والقبول بقواعد اللعبة السياسية للديمقراطية، تحت عنوان: الضرورة الملجئة، من أجل حفظ مصالحهم الجوهرية ومنع وقوع الأضرار البليغة عليهم، ولكي تكون لهم مشاركة فعالة في النشاط العام، وتقليل وقوع الأضرار على الناس، وإيصال الخيرات إليهم إنطلاقاً من ثقافتهم الإسلامية والقيم التي يحملونها والأحكام الشرعية التي يتقيدون بها، وليس من خلال المبادئ التي وضعها الإصلاحيون، وتخالف بعضها ضروريات الدين الحنيف ومبادءه الثابتة، مثل: تهميش دور الفقهاء العدول ورجال الدين المحترمين والرجوع إليهم وأخذ الأحكام والرؤى الإسلامية منهم، وتعطيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي عرفت خيرية الأمة الإسلامية بها، قول الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} وهي فريضة على كل مؤمن ومؤمنة، وتمتد لتشمل جميع جوانب الحياة الخاصة والعامة، الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وعلى جميع المستويات: من أعلى هرم الدولة (الرئيس) حتى آخر مواطن ومواطنة، فلا تقتصر على مجال دون آخر، ولا على مستوى دون غيره، ولكن هؤلاء الإصلاحيين يدعون إلى تعطيل هذه الفريضة الإسلامية العظيمة، تحت عنوان: عدم فرض المؤمن ما يعتبره معياراً إلهياً على الآخرين ونحو ذلك، وليس فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يتعارض مع حرية الإعتقاد، لأنها تعني دعوة غير المسلمين للإسلام والدين الإلهي الحق بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، قول الله تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} وهو أمر موافق لسيرة العقلاء في العالم كله، ولأنها تعني دعوة المسلمين إلى الطاعة لله سبحانه وتعالى التي يعتقدون بوجوبها عليهم وحثهم عليها، مما يؤدي إلى تنبيههم من غفلتهم، وتقوية إرادتهم وعزائمهم وتثبيتهم على الحق ونصرته، والمحافظة على الدين وصفائه ونقائه، وعلى مصالح المؤمنين واستقامتهم مما يوصلهم إلى كمالهم وسعادتهم.

7. أن الدين الإسلامي الحنيف لا يكره أحداً على القبول بالدين الإلهي الحق والإيمان به، قول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} لأن الدين الحق قوي في ذاته ويوصل إليه بالدليل والبرهان المنطقي الصحيح، ولأن الإكراه يتنافى مع التكليف والجزاء اللذين يستندان إلى الإرادة وحرية الاختيار، ومع كرامة الإنسان التي عمادها ما يتميز به الإنسان عن غيره من الكائنات من العقل وحرية الإرادة والاختيار، فإذا أكره على عقيدة أو موقف أو سلوك، فقد انتهكت كرامته، وهو أمر لا يفعله أي إنسان يشعر بكرامته وإنسانيته، ويستحيل على الله سبحانه وتعالى الذي خلق الإنسان وكرمه وسخر له جميع الموجودات والكائنات، قول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} أن يأمر بإكراه الإنسان وانتهاك كرامته أو يرضى به!! ولكن ذلك لا يعني أبداً تعدد الحقيقة والتساوي بين الأفكار والقيم والأحكام والمواقف في الحقيقة والمضمون، ولا يجعل للأكثرية الحق في تقرير ما هو حق وما هو باطل، فالحقيقة واحدة والكثرة باطلة، والطريق إلى معرفة الحقيقة هو الدليل والبرهان الصحيح وليس الأكثرية البرلمانية أو المجتمعية أو نحوهما، وأن كمال الإنسان وسعادته تتوقف على معرفة الحقيقة والعمل بها، ولكن لا يجبر الإنسان على اتباع الحقيقة والعمل بها في الحياة الدنيا، ولكن تبين له ويقام الدليل عليها ويدعى لإتباعها والعمل بها ويترك له الاختيار، ثم يحاسب في الآخرة على اختياره ويجازى عليه الجزاء الموافق له، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

المصدر
كتاب الإسلام والعلمانية | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟