سياسة الإخضاع لدى فرعون الطاغية
<لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِين>
لقد اتبع فرعون الطاغية سياسة خبيثة وغير إنسانية لإخضاع السحرة لإرادته وسياسته، وهي سياسة فض الضمير عن طريق الترغيب والترهيب لفرض قناعات معينة نابعة من تأثيرات الخوف والطمع بدل أن تكون نابعة من الإقناع العقلي المعتمد على الحجة والدليل والبرهان، وفيها استلاب واضح لإنسانية الإنسان وحريته وكرامته وشرائه بثمن بخس، يطلق عليها في عالمنا اليوم: بسياسة العصا والجزرة، فحين قدم السحرة إلى العاصمة من أجل مبارزة موسى الكليم (عليه السلام) وقاموا بين يدي فرعون الطاغية، يعرضون عليه الولاء والإخلاص والخدمة، وطلبوا منه الأجر العظيم على عملهم وخدمتهم، فقالوا: <إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ>[1] فأجابهم بقوله: <نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ>[2] مما يكشف عن أساليب الطغاة والحكام المستبدين الظلمة في شراء عقول وضمائر الأذناب المتملقين من الانتهازيين الأنانيين والنفعيين الفاسدين، وتوظيف ما لديهم من العلوم والمعرفة والخبرة والمكانة لخدمة سلطتهم وتنفيذ سياساتهم وتبرير أخطائهم وتقصيرهم، والدفاع عن مفاسدهم وموبقاتهم، مقابل الفتات على موائدهم وبقليل من المال والمناصب والوجاهة ونحو ذلك، مما يدل على رخص أنفسهم عند أنفسهم، وتضييعهم لمعاني الإنسانية والحرية والعزة والشرف والنخوة والمكانة، يقول الشيخ محمد جواد مغنية: «وهكذا كل حكام البغي والضلال، لا يرمون بالفتات للأذناب، إلا أن يتخلوا عن دينهم وعقولهم وضميرهم ومروءتهم وأمتهم»[3] فبئس الإنسانية إنسانيتهم، وبئس العلوم علومهم، وبئس المعرفة معرفتهم، وبئس الثقافة ثقافتهم، وبئس الفن فنهم، وبئس الأدب أدبهم، وبئس الشعر شعرهم، وبئس العقول عقولهم، وبئس الضمائر ضمائرهم، وبئس الوجدان وجدانهم، وتباً لهم وتعساً وترحاً، وبئس الواقع والمصير واقعهم ومصيرهم.
فلما صحت ضمائر السحرة وعادوا إلى رشدهم وإنسانيتهم وكرامتهم، وأعلنوا إيمانهم، وتمردوا عليه وانقلبوا على نظامه ودولته وحكومته، وأنزل عليهم أشد العقوبات الجسمية والنفسية؛ انتقاماً منهم، وهذا ما يفعله الطواغيت والفراعنة والحكام والمستبدون دائماً حينما تصحو ضمائر بعض أذنابهم، ويعودون إلى عقولهم ورشدهم وإنسانيتهم وكرامتهم،لأي سبب كان من الأسباب، فإنهم ينتقمون منهم أشر انتقام، ويعاقبونهم بأشد العقوبات الجسمية والنفسية، بقسوة وبدون رحمة، ويطردونهم من ساحتهم وقربهم، ويعزلونهم عن وظائفهم ومناصبهم ويهينونهم، وإذا تطلب الأمر سجنوهم وعذّبوهم أو نفوهم من البلاد، وربما قتلوهم وتخلصوا منهم باسم القانون والعدالة، وتحت مظلة مؤسسات الدولة القضائية أو خارجها، أيهما أفضل للنظام والدولة والملك في التخلص منهم والقضاء عليهم، يفعلون ذلك بهم وكأن لا معرفة تجمعهم بهم، وفي الحديث الشريف: «صاحب السلطان كراكب الأسد يغبط بموقعه وهو أعلم بموضعه»[4]. أي: يغبطه الناس ويتمنون منزلته، وهو أعلم بموضعه من الخوف والحذر على نفسه من السلطان بأن ينقلب عليه ويغتاله.
وبمثل هذه السياسة اللاإنسانية الخبيثة، تتمكن الأنظمة الدكتاتورية والحكومات المستبدة الظالمة من غسل الأدمغة، وفرض إرادتها على الناس وإخضاعهم، وهي سياسة خبيثة لا يفلت من قبضتها إلا القلة القليلة جداً من النخبة الشريفة، التي تتمتع بالحكمة والصدق وقوة المنطق، وبالإخلاص والإباء وبوجدان وضمير حي وحس إنساني رفيع، وما أقلهم في ظل الأنظمة الدكتاتورية الفاسدة والحكومات المستبدة الجائرة الظالمة، التي تعمل بكل قوة ووسيلة؛ لإفساد أخلاق الناس وطبائعهم ومنطقهم؛ لأن بقاءها يتوقف على ذلك ويمثل صلاح أخلاق الناس وأديانهم وضمائرهم ومنطقهم أشد الخطر عليها، لما بين وجودها وصلاح الأديان والأخلاق والمنطق من تعارض.
وتمثل هذه السياسة اللاإنسانية الخبيثة، أعلى مراتب الاستعباد والاستحمار والانتهاك لحقوق الإنسان وحريته وكرامته، وهي السياسة التي تمحو كل معنى لإنسانية الإنسان وكرامته لديه، وبها يضل الأفراد ويشقون، وتتخبط الأمم وتتعرض للتحلل والانحطاط، وتكون فريسة الفساد والتخلف والضعف والفقر والمرض والتبعية، ولا يقوم لها قائمة ولا يكون لها وزن بين الأمم المتحضرة، وما يؤسف له حقاً أن وقودها هم النخبة الفكرية والفنية والأدبية والمهنية، وحملة الشهادات، ورجال الأعمال الفاسدين، وليس العوام والناس، بل العوام هم ضحايا خيانة هذه النخبة الفاسد.