تهديد فرعون ووعيده بالانتقام منهم
<قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُون>
كان موقف السحرة الكرام، لما رأوا بعقل مفتوح ونفس زكية طاهرةٍ من الأغراض الدنيوية الدنيئة، ابتلاع عصا موسى الكليم (عليه السلام) لكل ما جمعوه من الحبال والعصي وأتوا به من السحر الذي سحروا به أعين الناس واسترهبوهم، وأدركوا الفرق الكبير الذي لا يمكن قياسه بين السحر القائم على الحيلة والخداع، وبين المعجزة الإلهية العظيمة، وعلموا علم اليقين الذي لا يقبل الشك والريب والرد استناداً إلى ما لديهم من العلم والخبرة والمهنية في السحر، بأن ما جاء به موسى الكليم (عليه السلام) ليس من السحر ولا مشابه له، بل هو آية إلهية كبرى ومعجزة عظمى أتت بها وتقف وراءها قوة غيبية أزلية مطلقة، فوق الطبيعة وفوق البشر، وهو رب العالمين، مالك ومدبر العالم بأسره، وهو رب موسى وهارون (عليهما السلام) الذين بعثهما رحمة للعالمين وأيدهما بما يثبت صدقهما، وأن العقل والمنطق والفطرة والطبع السليم، كلها توجب وجوباً عينياً على كل إنسان عاقل، أن يعبده ويقدسه ويطيعه ويخضع له خضوعاً تاماً صادقاً مطلقاً بدون قيد أو شرط، ويستقبح العقل والمنطق معصيته والاستكبار عليه وجحود نعمته، فخرُّوا تلقائياً وبدون تكلف أو تخلف أو تردد ساجدين لله رب العالمين ذي الجلال والاكرام الرحمن الرحيم معلنين بشكل واضح وصريح وبشجاعة منقطعة النظير، الإيمان بالتوحيد والمعاد، ومصدقين بنبوة موسى وهارون (عليهما السلام) ورسالتهما العالمية الشاملة الجامعة لكل ما يحتاجه الناس من المعارف الإلهية الحقة والتشريعات والمواعظ والسيرة في دورتها الرسالية، وبعدالة قضيتها وشرعية مطالبها الإصلاحية الدينية والسياسية والحقوقية، وعازمين عزماً جازماً على الامتثال إلى الأوامر والنواهي الإلهية والنبوية، وناقمين لصفتي الألوهية والربوبية عن فرعون الطاغية المتجبر وأمثاله، ومتهمين له بالكذب والافتراء؛ لأنه ادعى ما ليس له بحق عن علم ويقين، وبالخيانة؛ لأنه خان الحقيقة وأمانة الحكم والرعاية والمسؤولية والكلمة، وبالفساد؛ لأنه طغى وتجبر ومارس الظلم والجور والتمييز والاضطهاد والاستعباد والاستحمار، واستولى على الملك والثروة والمقدرات واستأثر بها دون الناس بغير حق ولا حجة ولا برهان، وفرض إرادته السياسية والتشريعية عليهم بدون رضاهم وعلى خلاف مصلحتهم، وأعلنوا التمرد على النظام الملكي الفرعوني الفاسد، والأسس الفكرية والدينية التي يقوم عليها، وعلى الدولة الفرعونية والحكومة الفرعونية المستبدة الظالمة؛ لأنها جميعاً لا تقوم على أساس عقلي منطقي صحيح، وتنتهك حقوق الإنسان وحريته وكرامته، وتعمل على غير مصلحته.
وفي المقابل كان موقف فرعون الطاغية: فهو بسبب الاستغراق في عالم الدنيا والمادة والمصالح الدنيوية الفانية، وفي حب الذات المتضخمة والأنانية المفرطة، والابتلاء بجنون العظمة والوقوع تحت تأثير غرور الملك والسلطة والقوة والثروة، ولفساد فطرته وخبث طبعه وضعف منطقه، لا ينظر إلى الأمور ويقيمها من جهة الحقائق الواقعية الموضوعية، ولا بحسب العقل والمنطق وما تقوم عليها وتستند إليها من حجج وبراهين وأدلة، ولا بحسب المبادئ السامية والقيم الإنسانية العالية الرفيعة والمصالح العامة المشتركة بين الناس، أو نحو ذلك، وإنما ينظر إليها ويقيمها بأنانية مفرطة من جهة ذاته المتضخمة ومصلحته الدنيوية الخاصة ومصلحة نظامه ودولته وحكومته بما هي متعلقة به وتدور في فلكه وتخدم مصلحته الخاصة وتشبع شهواته ورغباته الحيوانية وترضي أهواءه الشيطانية، لا بما هي مؤسسات ضرورية للحياة الاجتماعية للإنسان، وتصب في المصلحة العامة المشتركة بين الناس، وتعبر عن قناعتهم وإرادتهم ووسيلة إلى تحضّرهم ومدنيتهم وتطورهم، وإن ذكر شيء من ذلك في المناسبات، فمن باب التشدق، وليس عن قناعة وإيمان ورغبة جادة في العمل بها وتطبيقها. فهو يرى نفسه رب المصريين الأعلى ومالكهم وسيدهم ورازقهم ومدبر أمورهم وأحوالهم وأوضاعهم وكافة شؤونهم الخاصة والعامة، وبيده لا بيد غيره مصيرهم وله السلطة المطلقة عليهم، فقوله مطاع وأمره نافذ، ولا يحق لأحد منهم أن يخرج لأي سبب كان عن قوله وحكمه، أو يتصرف بشيء أو يعمل أو يقول شيئاً من دون إجازته وإذنه وعلى خلاف إرادته ورغبته، لأن رأيه وقوله هما عين الحقيقة والحكمة والصواب. حتى الإيمان الذي هو قضية مصير وجودي للإنسان، تتوقف عليها نجاته أو هلاكه، سعادته أو شقاؤه، ويعبر عن جوهر كرامة الإنسان ومكانته الوجودية بين كافه المخلوقات، وهو من أعمال القلوب، ويجب أن يخضع لحكم العقل والمنطق والبرهان والدليل، وينبع من وجدان الإنسان وضميره، وقد لا يكون للإنسان فيه اختيار، وليس له عليه سلطة؛ لأنه متى ظهر الدليل وبان للعقل، فرض نفسه عليه وانعقد، ولا يملك الإنسان إلا أن يكون مقتنعاً به في داخل نفسه، حتى وإن أنكره في الظاهر بلسانه.
قول الله تعالى: <وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا>[1] أي: نفوا وأنكروا بألسنتهم ما ثبت وقر بالدليل، وأيقنت بصحته قلوبهم، فلم يكن جحودهم به عن شك أو جهل، بل مع العلم واليقين بأنه حق، وذلك تعدياً منهم على الحقيقة والمنطق، وظلماً لأنفسهم؛ لأنهم أوردوها بذلك موارد المهالك، واستكباراً منهم على الحق، وأنفةً عن الانقياد لأهل الحقيقة وأربابها، وطلب التفوق والتميز بغير وجه حق، ومع ذلك فإن فرعون الطاغية المتجبر، الغارق في جنون العظمة والتسلط وفي ظلمات الأنانية المفرطة وحب الذات المتضخمة، يريد لفساد رأيه وضعف منطقه، أن يكون الإيمان بإذنه وإجازته، كما هو منطق الطغاة الذي لا يقوم على المنطق والحجة، فلا يحق لأحد أن يكفر أو يؤمن أو يعبر عن رأيه بدون أمره وإجازته، وعلى خلاف إرادته ورغبته.
وعليه: استنكر فرعون الطاغية على السحرة الكرام الإيمان بالتوحيد الذي دعا إليه موسى الكليم (عليه السلام) والمعاد، وبنبوة موسى وهارون (عليهما السلام) ورسالتهما، وبعدالة قضيتهما وشرعية مطالبهما الإصلاحية، الدينية والسياسية والحقوقية، استناداً إلى الحجة الواضحة والدليل الساطع والبرهان القاطع، قبل أن يأمرهم بذلك ويأذن لهم به، قوله تعالى: <آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ>[2] وقال ذلك تأنفاً واستكباراً، وهو إخبار يفيد بحسب المقام الإنكار والتوبيخ، أو استفهاماً إنكارياً أو توبيخياً محذوف الأداة؛ لأنه ربهم الأعلى، وله سلطات مطلقة عليهم، وإليه يجب أن تخضع أجسامهم وعقولهم وقلوبهم، وليس لهم أن يخالفوه أو يعارضوه في شيء من أعمال الأجسام أو العقول أو القلوب، مثل: الإيمان والتفكير والعمل، أو يقرروا مصيرهم العام أو الوجودي بأنفسهم بدون إذنه وإجازته وعلى خلاف رغبته وإرادته، استناداً إلى الحقائق الواقعية الموضوعية التي تنكشف لأبصارهم بالنظر والمعاينة، أو لعقولهم بالحجة والدليل والبرهان، أو لقلوبهم بالمشاهدة والتجلي والعرفان، ويتساوى في ذلك جميع أهل المملكة العامة والنخبة، الدينية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والفنية وغيرهم، ويعتبر التصرف المخالف لرغبته وإرادته في شيء من أعمال الأجسام أو العقول أو القلوب، من سوء الأدب معه، والجرأة على مقامه وعظمته وسلطانه، وخروج على الدين الرسمي والأعراف والتقاليد والدستور والقوانين المعمول بها في البلاد، فذاته مصونه لا تمس. وهذا في الحقيقة أمر في غاية الاستعباد والاستحمار، ويمثل أقصى درجات الانتهاك لحقوق الإنسان وحريته وكرامته، بأن يكون الشعب بأسره مقيداً وأسيراً بيد الحاكم المستبد الجائر، إلى درجة لا يملك أحد حق التفكير المستقل والإيمان بعقيدة والتعبير عن الرأي بخلاف إرادة الحاكم المستبد ورغبته، وباسم الدستور والقانون، ومن أجل المحافظة على رمزية الحاكم المستبد وهيبة الدولة والأمن والاستقرار ومصالح الشعب!! وتفرض الرقابة الشديدة وراء الأسوار الحديدية المعلقة على كل شيء، لا سيما وسائل الإعلام والأجهزة الثقافية والمنابر الدينية ونحوها؛ لكي لا يصل نور العلم والمعرفة والهداية الحقة إلى أبناء الشعب، فيعلنوا رفض حكم الأمر الواقع والظلم والجور والاستعباد والاستحمار والانتهاك لحقوق الإنسان، ويتمردوا على النظام الفاسد والدولة الجائرة والحاكم المستبد، ثم تتمكن الأجهزة الحكومية الدينية والثقافية والإعلامية والسياسية والحقوقية وغيرها، الخاضعة بالتمام والكمال للحاكم المستبد، من عملية غسيل جماعي للأدمغة من أجل إخضاعها للتبعية، وهذا بلاء عظيم، وشكل للانحطاط: الفكري والروحي والسلوكي، والتحلل الأخلاقي والاجتماعي، وسبب كافٍ للتخلف الحضاري الشامل بين الأمم.
وقيل: أراد فرعون الطاغية من التعبير عن موسى الكليم (عليه السلام) بالضمير، في قوله <آمَنْتُمْ بِهِ>[3] التحقير والاستهانة بشأنه والازدراء به، في مقابل ما يتمتع به من الأبهة والعظمة والجلال، علماً بأن مجرد دخول الإيمان إلى قلوب السحرة وغيرهم من أهل مملكته بغير إذنه وإجازته، وعلى خلاف رغبته وإرادته، دليل على ضعفه ومحدوديته وحقارته، وبطلان ألوهيته وربوبيته وإثبات كذبه وخيانته، وعدم استحقاقه للملك وتولي المناصب العامة وتحمل المسؤولية.
وقيل: أراد فرعون الطاغية من التوبيخ والاستنكار على السحرة إيمانهم قبل أن يأمرهم ويأذن لهم بذلك أمور عديدة، منها:
أ. أن يصف نفسه بالأمانة والنزاهة والموضوعية والتجرد في طلب الحقيقة وتحريها والبحث عنها، وإثبات رجحان العقل وقوة المنطق والخبرة والحكمة العملية، والمعرفة بخبايا الأمور والمؤامرات ونحوها لنفسه.
ب. أنه لم يتبين له بالدليل الصحيح، وهو الخبير والراجح عقلاً، صدق موسى الكليم (عليه السلام) فيما يدعيه من النبوة والرسالة عن إله عظيم هو رب العالمين كما يزعم، ولو تبين له صدقه، لكان بطبيعة الحال وبحكم المسؤولية التاريخية عن شعبه أول المؤمنين به، ولأذن للسحرة ولجميع الناس بالإيمان به وحثهم وشجعهم عليه.
وبناءً على ما تقدم: فإن مسارعة السحرة إلى الإيمان بالتوحيد والمعاد والتصديق بنبوة موسى وهارون (عليهما السلام) ورسالتهما وعدالة قضيتها وشرعية مطالبهم الاصلاحية، يدل على التهور وعدم التبين والتثبت ومخالف لحكم العقل ولمقتضى الحكمة والصواب، بسبب عدم الرجوع إلى أهل العلم والخبرة والبصيرة في مسألة جوهرية ومصيرية وذات أبعاد جمة واسعة، عملياً ونظرياً، وانعكاسات خطيرة جداً على النظام والدولة والحكومة والدين والثراث والثقافة ومصالح الشعب، متجاهلاً كون هذه المسألة من المسائل التي يجب أن يستقل بها الإنسان عن غيره، وأن مكانته الوجودية كإنسان تتوقف على هذه الاستقلالية، وبفقدان الاستقلالية يفقد إنسانيته ومكانته. كما اعتبر فرعون في إيمان السحرة قبل أمره وبدون إذنه وإجازته، إساءة للأدب مع مقامه وعظمته، وجرأة مفرطة على سلطته، وسعي لتحطيم هيبته الشخصية وهيبة النظام والدولة، وتشجيع العوام والجهلة والهمج الرعاع على التمرد وتحريضهم على ذلك، وهذا من شأنه أن يهدد الأمن والاستقرار ويضر بمصالح الشعب ويستحق فاعله أشد العقوبات.
ولأن الموقف جاء من السحرة وهم من العقلاء ومن خيرة النخبة في الدولة، فهذا يدل على أنه لم يكن عملاً عفوياً، بل هو عمل مدروس ومخطط له، فهو يكشف عن حيلة وعن مؤامرة خبيثة مدروسة وكاملة الأركان، قد تم تدبيرها وتبييتها منذ مدة، وتواطأ عليها السحرة المجرمون الخونة مع معلمهم الأكبر وقائدهم الأوحد الذي علمهم السحر وهو موسى الكليم (عليه السلام) قبل أن يخرجوا إلى ميدان المبارزة في الصحراء، ولعلماء التفسير قولان حول وقت إعداد المؤامرة ومكانها، فمنهم من قال: أن مكانها كان العاصمة بدليل قوله: <فِي الْمَدِينَةِ>[4] في اجتماع عقده موسى الكليم (عليه السلام) مع السحرة قبل خروجهم إلى ميدان المبارزة في الصحراء، ومنهم من قال: أن المؤامرة قد تم إعدادها وتوافق عليها موسى الكليم (عليه السلام) مع السحرة قبل مدة طويلة، وأن ادعاء موسى الكليم (عليه السلام) للنبوة والرسالة، كان جزءً من المؤامرة، وأن لفظ المدينة لا يدل على العاصمة كما ذهب إليه أصحاب الرأي الأول، وإنما يدل على عموم البلاد مصر. وعلى كل حال فإن تهمة التآمر مع الأعداء والخيانة العظمى هي من التهم التي دأبت على توجيهها الأنظمة الدكتاتورية الفاسدة والحكومات المستبدة الظالمة لمواجهة مطالب المعارضة العادلة، الإصلاحية والثورية، بهدف تضليل الرأي العام وتشويه سمعة المعارضين وتبرر معاقبتهم والانتقام منهم والقضاء عليهم، وهذا مما ينبغي فهمه وحسن التعامل معه.
وقد بيّن فرعون بأن هدف المؤامرة هو الانقلاب على النظام الفرعوني الشرعي القائم والمدعوم والمبارك من الآلهة، وعلى الدولة والحكومة والملك والشعب والدين والتراث، وإسقاط النظام والدولة وجميع مؤسساتها المدنية والأمنية والعسكرية، وتغيير الدين والتراث، والسيطرة على الأوضاع في البلاد، واستلام زمام السلطة والقيادة، وإقصاء الملك وأعوانه وأنصاره وإبعادهم عن جميع المناصب العليا والحساسة، وطرد الأقباط من أرضهم ووطنهم وديارهم من أجل الاستئثار بالحكم والثروة والمقدرات دونهم، وقد جرى إعداد المؤامرة والسعي في تنفيذها في غفلة من الملك وأجهزة الدولة ورجال الأمن المخلصين الشرفاء من المواطنين الموالين للشرعية، وكلها جرائم وذنوب كبيرة يستحقون عليها أشد العقوبات، قوله: <إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ>[5] أي: تعلمون ما أحل بكم من العقوبة به جزاء مكركم وخيانتكم العظمى وجرائمكم الكبيرة بعد اكتشافها وقيام الدليل عليها وإدانتكم بها.
وهذه التهمة الباطلة من كيد فرعون بالسحرة، من أجل معاقبتهم ليكونوا عبرة لغيرهم لكي لا يفعلوا مثل فعلهم. فهو يعلم علم اليقين، بأن موسى الكليم (عليه السلام) لا علاقة له بالسحر، ولم يلتق بالسحرة قبل أن يراهم في ميدان المبارزة في الصحراء في يوم الزينة، ولا يعرفهم ولا يعرفونه. فموسى الكليم (عليه السلام) قد تربى في قصر فرعون وتحت نظره منذ كان رضيعاً إلى أن خرج من مصر خائفاً على نفسه يترقب القتل بعد قتله للرجل القبطي عن طريق الخطأ، فهو يعرف موسى الكليم (عليه السلام) عن قرب، ويعرف خصائص شخصيته وطبائعه وأخلاقه واستقامة سلوكه. وبعد رجوعه إلى مصر، دخل مباشرة إلى قصره يحمل إليه رسالة رب العالمين ولم يلتق بأحد فيها قبله غير أخيه وشريكه في النبوة والرسالة هارون (عليه السلام) وأن فرعون وملئه هم الذين اختاروا مواجهة موسى الكليم (عليه السلام) بالسحرة، وجمعوا السحرة المحترفين المهرة عن طريق ضباط وجنود الجيش الموالين لفرعون والنظام من جميع مناطق وأنحاء مصر، وعقدوا معهم اجتماع عمل قبل المبارزة، وحثوهم وشجعوهم وحرضوهم ضد موسى الكليم (عليه السلام) وجعلوا المبارزة في الصحراء في يوم الزينة (يوم العيد) ونشروا الاعلانات والدعايات من خلال كافة وسائل الإعلام الرسمية والشعبية، وحثوا الناس من خلال الرموز والمنابر الدينية لضمان حضور أكبر عدد ممكن من الناس، وذلك لثقتهم التامة وكامل اطمئنانهم بأن النصر والغلبة ستكون حتماً للسحرة.
ولم يلتق أحد من السحرة بموسى الكليم (عليه السلام) إلا في يوم وميدان المبارزة في الصحراء، ولم يكن يعرفهم أو يعرفونه من قبل، وكان السحرة يؤلهون فرعون الطاغية، وساهموا بفاعلية كبيرة في تعزيز حكمه ونفوذه وبسط سلطته وتحكيمه في رقاب العباد، عن طريق الأدوار التي كانوا يمارسونها في الحياة العامة للمصريين، الدينية والعلمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفنية وغيرها، وباسم الدين والعلم والثقافة والفن والقومية والدستور والقانون وغيرها، ومارسوا الكذب والتضليل والخداع والتمويه على نطاق واسع وشامل في سبيل ذلك، كما هو دأب النخبة الزائفة من المثقفين والفنانين وأصحاب الحرف ورجال الأعمال وحملة الشهادات العليا ونحوهم، المتملقين للنظام الدكتاتوري الفاسد والحاكم المستبد الظالم، وتبرير أخطائهم وفسادهم وجرائمهم والدفاع عنهم وعما يتمتعون به من امتيازات وصلاحيات واسعة وسلطات مطلقة، ويثنون عليهم ويحمدونهم بما لم يفعلوا، وينسبون إليهم كل إنجاز وتطور ويختصرون الأمة كلها فيهم، وينفون عنهم كل خطأ وتقصير ويضعونهم في صفوف الأصفياء والقديسين، وذلك بدافع أنانيتهم ومن أجل مصالحهم الخاصة، وللحصول على الفتات من موائدهم ومن قمامة منازلهم، متنكرين للدين الحنيف والعقل والمنطق والمبادئ السامية والقيم الرفيعة والمصالح العامة، الإنسانية والدينية والقومية والوطنية العليا، فتباً لهم وتعساً.
ولو كان موسى الكليم (عليه السلام) هو كبير السحرة وعظيمهم وأستاذهم الذي علمهم السحر كما يزعم فرعون الطاغية، لوجب أن يكون معروفاً ومشهوراً في جميع الأماكن وبين أكثر الناس إن لم يكن جميعهم، بحكم الأمر وطبيعته، لما يتمتع به السحرة من مكانة رسمية وشعبية، ولما يقومون به من أدوار مهمة وكبيرة في حياة المصريين العامة والخاصة، ولم يكن إنساناً بسيطاً مطموراً بين ركام الحياة.
وقد بذل السحرة أقصى وغاية مجهودهم، وأخرجوا أفضل ما عندهم من العلم والمعرفة والخبرة والمواهب والقدرات والمهارات الفنية والحذق في صناعة السحر، ونثروا كل ما وسعته جعبتهم من فنون الكذب والخداع والتمويه والتضليل، ولم يدخروا شيئاً يملكونه من أجل تحقيق الغلبة على موسى الكليم (عليه السلام) لإثبات تفوقهم عليه والتقرب إلى فرعون الإله والفوز برضوانه ومكافأته العظيمة النوعية المادية والمعنوية التي وعدهم بها، ولكنهم عجزوا بعد الاجتهاد وبذل أقصى الوسع والطاقة وفشلوا في الوصول إلى ما قصدوا، وانتصر عليهم موسى الكليم (عليه السلام) بالرغم عنهم، وكانت الهزيمة النكراء غير المتوقعة التي فاجأتهم، هي الواقعة التي فاقت كل المقاييس، وكشفت عن حقيقة أن ما جاء به موسى الكليم (عليه السلام) ليس من السحر ولا مشابه له، بل هو آية إلهية كبرى ومعجزة إلهية نيرة عظمى، تقف وراءها بالتأكيد قوة غيبية أزلية أبدية مطلقة، فوق الطبيعة وفوق البشر، فتبين لهم الحق وعرفوه، وتيقنوا منه بشكل قاطع لا شك فيه وواضح لا لبس فيه ولا غموض ولا شبهة عليه، بما هم أهل العلم والخبرة المحترفين في الفن، مستندين في علمهم ويقينهم إلى الدليل المنطقي الصحيح والمشاهدة العلمية المنهجية الواضحة والتامة، فخضعوا للحقيقة حين عرفوها وتيقنوا منها، وسلموا لها ولم يكابروا كما يفعل أهل العناد، وأعلنوا إيمانهم إلى الناس بتلقائية وبدون تكلف أو تخلف أو تردد، وبجرأة وشجاعة منقطعة النظير.
وقد وطنوا أنفسهم على تحمل جميع العواقب والتبعات، واستعدوا لإنزال العقوبات المتوقعة وغير المتوقعة؛ انتقاماً منهم، وهو موقف إنساني بطولي نبيل، تقتضيه الحكمة والكرامة الإنسانية، وتستدعيه الفطرة والطبع السليم، ويحكم به العقل والمنطق والدين الحنيف، لكن الطواغيت الضالين والفراعنة والطغاة المتجبرين، والحكام المستبدين الظلمة، والمترفين المستغلين، والانتهازيين الأنانيين، والنفعيين الفاسدين، كلهم لا يعرفون معنى للإنسانية والحرية والكرامة، ولا يقيمون وزناً للحقائق والدين الحق والعقل والمنطق والمبادئ والقيم، ومنطقهم الوحيد هو منطق العنف والإرهاب وسياسة الحديد والنار، وأسلوبهم الوحيد هو الترغيب والترهيب لفض وشراء الضمائر، وإذا غُلِبوا بالحقائق والحجة والدليل والمنطق، ردوا بلغة الحديد والنار ومنطق العنف والإرهاب والقوة، لفرض حكم الأمر الواقع، المخالف للعقل والمنطق، والمعاكس للإنسانية والحرية والكرامة وحقوق الإنسان الطبيعية في الحياة.
وعليه: فإن دعوى الإلتقاء والتآمر والتواطؤ بين السحرة وبين موسى الكليم (عليه السلام) أكذوبة مفضوحة لا يقتنع بها إلا الجهلة والمغرضين من التابعين والموالين للنظام والملك، ولا تستند إلى حجة صحيحة ولا برهان.
وقول فرعون الطاغية: <آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ>[6] مشبع بالأنانية المفرطة، والتعجرف والأنفة والكبرياء والتجبر، ويكشف عن ذات في غاية التغول والتضخم، والاعتقاد لنفسه بالسلطة المطلقة على الناس، بغير وجه حق وبلا حجة أو دليل أو برهان، كما هو حال جميع الطواغيت والفراعنة والحكام المستبدين الظالمين والمترفين المستغلين الواقعين تحت تأثير غرور السلطة والقوة والثروة والمناصب على طول التاريخ وعرض الجغرافيا.
ولأن فرعون الطاغية رأى، بأن استقلال السحرة بالإيمان وإعلانه قبل أمره وبدون الرجوع إليه وإلى إذنه وإجازته، قد لا يكون مبرراً كافياً عند عامة الناس لإنزال العقوبة بالسحرة والانتقام منهم، وقد يعتقد البعض بأن ذلك حق لهم أو أنهم معذورون، رغم تربية أجهزة الدولة الفرعونية للناس على الطاعة المطلقة العمياء لفرعون والخضوع لإرادته، لكن التجارب علمته بأن الناس في أنفسهم وبحسب منطقهم الطبيعي وفطرتهم، قد ينكرون ذلك ولا يرضونه ويتعاطفون مع الضحية تحت عنوان المظلومية ونحوها، أي: أن فرعون وإن كان يعتقد في نظر نفسه ويوافقه ملؤه وأنصاره ومعاونوه، بأن مجرد إيمان السحرة وإعلانهم له بدون إذن فرعون وإجازته، يعد سبباً كافياً لمعاقبتهم والانتقام منهم؛ لأنهم خالفوا مقتضى الإيمان بألوهية فرعون وربوبيته وتحدوا سلطاته المطلقة عليهم، ونالوا من هيبته ومقامه وعظمته، ولما يشكله موقفهم من خطر جسيم وتهديد للنظام والدولة، إلا أنه يهتم في مثل هذه الظروف الحساسة والصعبة بالغة الخطورة بالرأي العام، لا إيماناً منه به في نفسه، بل لحاجته الملحة إليه في هذه الظروف.
وعليه: فقد بحث عن أسباب إضافية لتكون مبرراً كافياً لمعاقبته السحرة والتنكيل بهم؛ لأنه في حاجة سياسية وأمنية بالغة لإنزال أشد العقوبات بالسحرة، لكي يجعلهم عبرةً لغيرهم، فلا يفعل أحد مثل فعلهم، ولكي يبطل مفعول إيمانهم الخطير جداً في الناس، فيفكر الناس في كيفية الانتقام منهم، أكثر من تفكيرهم في حقيقة إيمانهم ودوافعه، وذلك لما يمثله إيمان السحرة من تهديد جدي وبعيد المدى على النظام والدولة يجب وقفه والقضاء عليه في مهده، لما يتمتع به السحرة من مكانة دينية وعلمية وثقافية وسياسية واجتماعية واقتصادية، والأدوار الخدمية التي يقوم بها السحرة في الحياة العامة والخاصة للمصريين. فقد تحدى السحرة بموقفهم الإنساني البطولي صفة فرعون الدينية ومقام عظمته وسلطانه، وحطموا الهالة القدسية الوهمية التي أحاط بها نفسه وأحاطه بها ملؤه وبطانته وأعوانه وجوقة المتملقين والمتزلفين من الانتهازيين الأنانيين والنفعيين الفاسدين بغير وجه حق ولا حجة وبرهان.
لقد رأى فرعون الطاغية وتيقن بدهائه وخبرته العملية، بأن الانتقام من السحرة وإنزال أشد العقوبات الجسمية والنفسية عليهم والتنكيل بهم، هو السبيل الوحيد أمامه، والوسيلة المثلى لإنقاذ نظامه الملكي الفاسد ودولته الجائرة عن الحق والعدل وحكومته المستبدة الظالمة وملكه ومصالحه وصلاحياته وامتيازاته غير الشرعية وغير الواقعية والمخالفة للعقل والمنطق ولكرامة الإنسان وحقوقه والمصلحة العامة. وقد شاركه ملؤه ومعاونوه وأنصاره وكامل جهازه الديني والأمني والعسكري والسياسي والإداري والفني الرأي؛ لأن الانتقام وإنزال أشد العقوبات الجسمية والنفسية والتنكيل البشع بالسحرة، يشغل الناس بالتفكير في الانتقام والخوف منه، أكثر من اشتغالهم بالتفكير في حقيقة إيمانهم ودوافعه بل يصرفهم عنه تماماً، وإذا لم يفعل فرعون ذلك، ولم يظهر ردة فعل عنيفة وقاسية جداً وفورية إزاء جرأة السحرة وشجاعتهم في إعلان إيمانهم أمام الجماهير وبحضرته مع ملئه ومعاونيه وأنصاره وكامل جهازه، فإن الأمر سينتهي حتماً إلى إيمان غالبية الناس وإظهار إيمانهم وإعلانه اقتداءً بالسحرة ومتابعة لهم، وهي سابقة خطيرة جداً، يفقد معها النظام والدولة والحكومة والملك لهيبتهم في نفوس الناس، ويظهر الناس الجرأة عليهم، وذلك لأسباب عديدة، منها:
1. ظهور الآيات الواضحات والمعجزات النيرات الباهرات على يد موسى الكليم (عليه السلام) وهي دليل قاطع على صدق نبوته ورسالته وعدالة قضيته وشرعية مطالبه الإصلاحية الدينية والسياسية والحقوقية.
2. المكانة العالية الدينية والعلمية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يتمتع بها السحرة في المجتمع المصري القائم على التقسيم الطبقي الوراثي، والدور البارز الواسع الذي يقوم به السحرة في الحياة: العامة والخاصة، والخدمات الكبيرة التي يقدمونها للمصريين على كافة الأصعدة الدينية والمدنية.
3. لأن فرعون وملأه قد جاؤوا بالسحرة من كل المناطق والأنحاء في مصر، وتحدوا بهم موسى الكليم (عليه السلام) لإبطال دعوته وإخماد فتنة دينه وثورته، وجعلوهم الحجة بينهم وبين موسى الكليم (عليه السلام) في فصل الخصومة والاختلاف.
فإذا لم ينتقم فرعون من السحرة وظهرت مفاعيل إعلانهم لإيمانهم وانتشرت بين الناس، فستكون السيطرة على الأوضاع وإرجاعها إلى سابق عهدها في غاية الصعوبة، بل غير ممكنة مما يهدد النظام والدولة والحكومة بالسقوط، ويهدد ملك فرعون وسلطانه بالزوال.
ولما كان فرعون الطاغية لا ينظر إلا إلى نفسه، ولا يفكر إلا في مصالحه الخاصة، ولا يقيم وزناً لدين ولا حقيقة ولا منطق ولا حجة ولا برهان ولا مبادئ ولا قيم ولا مصالح عامة ولا لشيء آخر على هذا النحو، فقد سارع بدهائه ولوضوح الصورة والعواقب لديه، إلى اتهام السحرة بالخروج على الدين الرسمي والشعبي، وعلى الأعراف والتقاليد والقوانين المعمول بها في البلاد، ونفى عن إيمانهم بكل صلافة وعنجهية ووقاحة وصفاقة وتعجرف صفات البراءة والطهارة والصدق والقناعة المستندة إلى انكشاف الحقائق بالدليل والبرهان، ونسب إيمانهم وإعلانهم إلى دوافع دنيوية تآمرية خبيثة، ليثبت بحقهم الجناية والجريمة والخيانة العظمى، فقال لهم وهو يستشيط غيظاً: <إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ>[7] أي: أنتم كافرون بالنعمة والدين الرسمي للدولة ومتآمرون على النظام والدولة والحكومة والملك والشعب، ومفسدون في الأرض، وما حصل منكم من الإيمان وإعلانه إلى الناس بحضرتي قبل أن آمركم به وآذن لكم فيه، لم يكن عن قناعة حقيقية، بل هو حيلة خفية ومؤامرة خبيثة دبرتموها بليل في غفلة من رجال الدولة وأجهزتها ورجال الأمن والمخلصين الشرفاء من المواطنين الموالين للنظام والملك، وتوافقتم عليها وتواطأتم مع موسى الذي هو كبيركم وعظيمكم وأستاذكم الذي علمكم السحر وقائدكم الأوحد، على أن يغلبكم بسحره ثم تعلنوا إيمانكم به وتصدقوا برسالته وتأخذوا بحركته، التي هي على خلاف الدين الرسمي والشعبي للدولة والنظام، وعلى خلاف الأعراف والتقاليد والقوانين المعمول بها في البلاد، وعلى خلاف الإرادة الملكية، وتكشف عن خيانتكم وسوء أدبكم مع الإرادة والمقام الملكي العظيم، فيتبعكم في ذلك الجهلة من الناس، تحت تأثير الكذب والخداع والتمويه والتضليل، ويعصوا ربهم الأعلى ويخالفوا الأعراف والتقاليد والقوانين المعمول بها في البلاد، ويعلنوا الخروج والتمرد على الإرادة الملكية والنظام والدولة، تحت عنوان الدين الجديد والثورة على الظلم والفساد والدفاع عن المستضعفين والمحرومين ونحو ذلك من العناوين البراقة التي تستهوي وتجذب إليها الجهلة والرعاع من الناس، وبهذا يتحقق لكم ما أردتم وقصدتم من الانقلاب، وتتم المؤامرة الخبيثة ويسقط النظام وكافة أجهزة الدولة، الدينية والمدنية والأمنية والعسكرية، وتسيطروا على الحكم والثروة والمقدرات، وتغيروا الأوضاع بما يحقق أهدافكم وفيه مصلحتكم، وتبعدوا أنصار النظام عن المناصب العليا الرئيسية والحساسة، المدنية والأمنية والعسكرية، وتطردوا الأقباط وتخرجوهم من أرضهم وديارهم ووطنهم؛ لتستأثروا بالسلطة والثروة والمقدرات كلها فتكون لكم خالصة دونهم، وبذلك تنتقمون من النظام والدولة والحكومة والملك والموالين جميعاً في ضربة تاريخية واسعة واحدة.
وقد أراد فرعون الطاغية من وراء نفي صفات الصدق والطهارة والأمانة، وتوجيه الاتهامات الباطلة إليهم، تحقيق مجموعة من الأهداف الرئيسية، منها:-
أ. أن يقلب بمكره ودهائه الحقائق ويكيد بالسحرة، فيوهم الرأي العام بأن ما أظهره السحرة من الإيمان بالتوحيد والمعاد والتصديق بنبوة موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) ورسالتهما إلى الناس من رب العالمين وعدالة قضيتهما وشرعية مطالبهما الدينية والسياسية والحقوقية، لا علاقة له بالحقائق الموضوعية والقناعة العقلية اعتماداً على الدليل والبرهان، وإنما هو حيلة ومؤامرة مدبرة بليل في غفلة من الملك وأجهزة الدولة ورجال الأمن والمخلصين الشرفاء من أبناء الشعب، وقد انكشفت المؤامرة وبدت خيوطها وأبعادها إلى العيان من خلال الموقف في ميدان المبارزة.
ب. أن ما ينزله من العقاب الشديد بالسحرة، ليس فيه انتهاك لحقوق الإنسان ولحرية العقيدة والضمير؛ لأنه ليس انتقاماً منهم لأنهم مارسوا بزعمهم حقهم في التعبير عن الرأي وحرية المعتقد والضمير، حتى وإن كان فيه إساءة الأدب لمقام الملك الإله الذي هو ربهم الأعلى وله السلطة المطلقة عليهم ولا تجوز لهم معصيته ومخالفته والخروج عن أمره ونهيه، وإنما هو جزاء عادل يطالب به العقلاء على جريمة الخيانة العظمى النكراء والتآمر الخبيث في السر للانقلاب على النظام الشرعي القائم المدعوم والمبارك من الآلهة والسيطرة على أجهزة الدولة والإمساك بزمام السلطة، ووضع اليد على الثروة والمقدرات والاستئثار بها، وإبعاد أنصار النظام ومحبيه عن الوظائف والمناصب العليا والحساسة في الدولة وطرد الأقباط الموالين الحاليين للنظام والدولة من أرضهم وديارهم ووطنهم.
ج. إدخال الخوف الشديد والفزع العظيم في قلوب المعارضين، لكي لا يحذوا حذو السحرة ويفعلوا مثل فعلهم، فيحدّ بذلك من عدد المناصرين لموسى الكليم (عليه السلام) والمنخرطين في حركته الإصلاحية ومساحة تأثيره في قلوب الموالين للنظام، لكي يوهمهم بالعواقب السيئة الوخيمة، ويحجبهم الخوف والفزع عن الإيمان بنبوة موسى وهارون (عليهما السلام) والتصديق برسالتهما من رب العالمين وبعدالة قضيتهما ومشروعية مطالبهما الإصلاحية الدينية والسياسية والحقوقية، وعن التعاطف معهما ومع بني إسرائيل تحت عنوان المظلومية والحرمان ونحو ذلك، ولكي يستفزهم لمناهضة موسى الكليم (عليه السلام) ومحاربته، ويحرضهم على الوقوف إلى صف النظام ومناصرته وتأييده في جميع الاجراءات العقابية؛ للانتقام من السحرة ومن بني اسرائيل وعموم المؤمنين ومن موسى وهارون (عليهما السلام).
وهذه هي السياسة الخبيثة الماكرة التي دأبت عليها الأنظمة الدكتاتورية والحكومات المستبدة في العالم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا مع المعارضين لهم، وعليه: أصدر فرعون الطاغية حكمه الملكي القاضي بوجوب معاقبة السحرة بأشد وأقصى العقوبات والانتقام منهم أشر انتقام، والتنكيل بهم غاية التنكيل؛ ليعلموا عاقبة تآمرهم الموهوم الذي فصّله وألبسهم إياه كما يريد، فقال: <فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ>[8] أي تعلمون ما أحله بكم من العقوبات القاسية، جزاء جريمتكم وخيانتكم العظمى وجرأتكم على سيدكم الملك الإله وربكم الأعلى، لتكونوا عبرة إلى غيركم فلا يفعل أحد مثل فعلكم؛ لأن الجميع سيعلمون بأن سلامتهم ستكون في قبول حكم الأمر الواقع والخضوع التام إليه، وأن معارضته والخروج عليه سيُعد فساداً في الأرض، وتهديداً للأمن والاستقرار في البلاد، وتحدي للهيبة والمقام والإرادة الملكية ولسلطة الدولة، والإضرار بالتنمية وبمصالح الشعب الجوهرية والحيوية، وهي أمور لا يمكن التسامح والتساهل بشأنها؛ لأن التسامح والتساهل في هذه الحالة، يأتي على خلاف الحكمة والعقل والمنطق، ونقيض الغاية منها، ونقيض مسؤولية الحكم وأمانة الرعاية والسياسة والتدبير، فيجب إنزال أشد وأقصى العقوبات على كل سفيه أحمق وخائن تسول له نفسه الخبيثة معارضة النظام الشرعي والدولة القائمة والحكومة الرشيدة والملك العظيم، والانخراط في أية حركة إصلاحية أو ثورية أو حقوقية سلمية أو غير سلمية، حتى وإن كان من العلم والطهارة الروحية والقداسة والمنزلة الرفيعة والمقام العظيم، وكان من الأصفياء والأولياء الصالحين، مثل: موسى الكليم وهارون (عليهما السلام)، أو كان من الفقهاء والمعارضين والمجاهدين الشرفاء النجباء المخلصين، مثل: الشهيد الصدر والشهيد السيد قطب، ونحوهما، أي: أن المعارضة للنظام الدكتاتوري والحاكم المستبد الظالم، ستكلف صاحبها أياً كانت منزلته ومكانته الدينية والعلمية والاجتماعية حياته وأعز وأنفس ما يملك؛ لأنه لا قيمة للشخص بما هو عليه في نفسه من العلم والطهارة والخيرية والصلاح، وإنما قيمته بما هو موالٍ للنظام ونافع له أو على الأقل لا يشكل خطراً عليه.
وفي ظل ذلك وعلى خلفيته، توعد فرعون الطاغية السحرة بأشد العقوبات التي تنزل عادةً بالمفسدين في الأرض، وهي جريمة وهمية اخترعها وألبسها السحرة كما يريد على حسب رغبته ظلماً وعدواناً، من أجل مصلحته ومصلحة نظامه ودولته وحكومته وإرضاءً لأهوائه وغروره بدون حجة أو برهان، وعلى خلاف العقل والمنطق وكرامة الإنسان وحريته وحقوقه، فقال في غرور تام وأنانية مفرطة: <لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ>[9] أي: قرر أن ينفذ في السحرة المؤمنين المجاهدين الأبطال حكم الإعدام عن طريق قطع الأطراف من خلاف، أي: قطع الرجل اليمنى مع اليد اليسرى، أو قطع الرجل اليسرى مع اليد اليمنى، ليكون القطع من الجانبين أبشع، ثم يصلبهم على جذوع النخل ليفتضحوا بزعمه، ويتركهم ينزفون حتى يموتوا موتاً بطيئاً بعد تعذيب جسدي ونفسي شديدين؛ ليتحملوا بهذه العقوبة الشديدة الجسمية والنفسية أكبر قدر ممكن من العذاب والألم، وقرر أن ينزل هذه العقوبة الجسيمة والنفسية القاسية والمؤلمة جداً بالسحرة جميعاً، فلن يستثني منهم أحداً أبداً؛ لأنهم جميعاً وقفوا متضامنين في جريمة الانقلاب والتآمر والخيانة العظمى على النظام والدولة والحكومة والملك والشعب والدين والتراث القومي.
وهذا النوع من العقوبة القاسية الجسمية والنفسية والتنكيل الوحشي البشع، يهدف إلى أمور عديدة، منها:
1. الإشارة إلى عظيم الجرم وقبحه.
2. تشويه صور المعارضين للنظام وسمعتهم، وهدم مكانتهم المعنوية والاجتماعية في نفوس الناس.
3. تحطيم إرادة المعارضين للنظام وقتل روحهم المعنوية تماماً.
4. أن يكون الضحايا عبرة لغيرهم، حيث أن الصلب بعنف على جذوع النخل، وقطع الأطراف من خلاف، وتدفق الدم من الأجساد، والموت موتاً بطيئاً مع شدة العذاب والألم، مما يثير الرعب والفزع الشديد في نفوس الناس، لا سيما ضعفاء القلوب والعقيدة والإيمان بالقضية، فلا يفعلون مثل فعلهم، لكي لا ينزل بهم ما نزل بالضحايا وحل بساحتهم، وقيل: أن فرعون الطاغية هو أول من قطع من خلاف وصلب[10].
الجدير بالذكر: أن هذه الأساليب القمعية الوحشية وغير الإنسانية، التي لا تعرف معنى للإنسانية ولحرية الإنسان وكرامته، ولا تقيم للعقل والمنطق والمبادئ والقيم وزناً، التي تلجأ إليها الأنظمة الدكتاتورية الفاسدة، والحكومات المستبدة الظالمة في العالم، قد تفيدها في التعامل مع الفئات ضعيفة القلوب والعقيدة والإيمان بالقضية، التي ترخص نفسها أمام التهديدات والإغراءات، فتبيعها بثمن بخس في سوق النخاسة السياسية، أو تتخلى عن حريتها وكرامتها وتبتعد عن تحمل المسؤولية العامة الإنسانية والدينية القومية والوطنية، لكنها لن تفيدها بشيء مع المعارضين الشرفاء الأباة الأحرار، الذين ينطلقون في معارضتهم عن عقيدة ويقين ووضوح رؤية وبصيرة وقناعة تامة بصواب وسلامة مسلكهم الجهادي المعارض، وعدالة قضيتهم وشرعية مطالبهم الإصلاحية أو الثورية، وسوف يبقون يعارضون ويضحون ويقدمون القرابين من الشهداء الأحرار والسجناء المعذبين والمنفيين والمطاردين وغيرهم، حتّى ينتصروا ويحققوا أهدافهم ويحصلوا على تمام مطالبهم الإصلاحية والثورية وحقوقهم الطبيعية والمكتسبة كاملة غير منقوصة، ويقضوا على الدكتاتورية والاستبداد والظلم والفساد والانحراف والتخلف والضعف والتحلل والانحطاط، وتتحقق الإرادة الشعبية في اختيار نظامها السياسي وحكومتها وتقرير مصيرها بنفسها، ومنافسة الشعوب والأمم المتحضرة على التقدم والرخاء، وتكون حصيلة الحكّام المستبدين في نهاية المطاف ارتكاب الجرائم و التنكر للإنسانية بدون حدود، وتحمل عذابات الضمير، ثم يخسرون الملك ويخرجون من الدنيا وهم يحملون معهم الخزي والعار واللعنة وتبعات أعمالهم التي سودوا بها صفحات التاريخ ثم يردون إلى أشد العذاب في الآخرة.
وقد تفيد هذه الأساليب الوحشية القاسية وغير الإنسانية الأنظمة الدكتاتورية المستبدة إلى حين من الزمان، لكنها تتحول إلى عوامل فشل وتقويض لهذه الأنظمة والحكومات من الأساس على المدى البعيد، حتى تخرجها من عقول الناس وقناعاتهم وتقضي عليها إلى الأبد، وتلحق بالقائمين عليها وأهلها الخزي والعار واللعنة في الحياة الدنيا، وفي الآخرة أشد العذاب وبئس المصير، وفي الحديث: «بالظلم تزول النعم»[11]، «والملك يدوم مع الكفر ولا يدوم مع الظلم»[12].
لقد كان هدف فرعون الطاغية من التنكيل الوحشي بالسحرة – كما ذُكر – أن يضع حداً أخيراً للتأثر بهم في صفوف الناس الموالين والمعارضين، المواطنين والمقيمين، فلا يسلك أحد سلوكهم، ولا يفعل أحد مثل فعلهم؛ لكي لا ينتفض الناس ويتمردوا عليه ويثوروا على نظامه ودولته وحكومته، ويتركوه ويلحقوا بموسى الكليم (عليه السلام) ويؤمنوا بنبوته ودينه ويصدقوا برسالته، وينخرطوا في حركته الإصلاحية وثورة بني إسرائيل التحررية. وليس المهم في حساب فرعون السياسي الموقف القمعي التصفوي للسحرة، الحق والعدل وحقوق الإنسان وحريته وكرامته والعقل والمنطق والحجج والبرهان ونحو ذلك، فهو كدأب الفراعنة والحكام المستبدين الظلمة في العلم، لا يؤمن بشيء من ذلك ولا يقيم له وزناً لكن المهم لديه، أن يضع حداً نهائياً للمعارضة والمعارضين ويوقف تقدمهم ويقضي على خطرهم تماماً، ليدوم بقاؤه على العرش ويستمر بدون منغصات، بأي ثمن كان، وبغض النظر عن عدد الضحايا ومن يكونون؛ لأن الوصول إلى الحكم والبقاء فيه، له طريقان:
أ. الإرادة الشعبية.
ب. فرض حكم الأمر الواقع بالعنف والقوة والإرهاب والخداع والتضليل ونحوها من الأساليب الوحشية وغير الإنسانية وغير المنطقية وغير المعقولة وغير المشروعة، وعمليات فض شراء الضمائر.
ولأن الإرادة الشعبية لا يمكن توفيرها للأنظمة الدكتاتورية والحكومات المستبدة الظالمة على المدى الطويل، حتى وإن حصلت على التأييد الشعبي على المدى القصير، عن طريق ممارسة الكذب والتضليل والخداع وتبني بعض الشعارات البراقة ونحو ذلك، إلا أنها تخسر وتفقد شعبيتها وتتعرض للثورة و الانقلاب عليها والتمرد ضدها على المدى البعيد؛ لأنها مخالفة للعقل والمنطق والفطرة والطبع السليم والسنن الإلهية والمصالح العامة للناس، وتتنكر للحرية والكرامة والحقوق الطبيعية للإنسان، فلا يبقى أمامها للوصول إلى الحكم والبقاء والاستمرار فيه، إلا الطريق الآخر، وهو طريق القوة والعنف والإرهاب واتباع سياسة الترهيب والترغيب (العصا والجزرة)؛ لفض وشراء الضمائر من أصحاب النفوس الرخيصة، ضعفاء العقول وسفهاء الأحلام، وهذا ما لجأ إليه وسلكه فرعون الطاغية بالفعل، ويسلكه ويلجأ إليه على الدوام جميع الطواغيت الضالين والفراعنة الطغاة المتجبرين والحكام المستبدين الظلمة في العالم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا، فهم يمارسون نفس الجرائم والجنايات الشنيعة ضد المعارضين والمصلحين والمطالبين بالحقوق وبنفس الأساليب الإرهابية العنيفة والأساليب القذرة التي تختلف في الشكل وتتفق في المضمون والجوهر، بدون أي اعتبار للإنسانية والكرامة والعقل والمنطق والحق والحقوق والمبادئ والقيم، التي لا يؤمنون بشيء منها ولا يقيمون لها وزناً؛ لأن الغاية عندهم تبرر الوسيلة، وهنا تجدر الإشارة إلى بعض الأمور الرئيسية المهمة، وهي:
أ. أن الأنظمة الدكتاتورية والحكومات المستبدة لن تستطيع أن تقضي على المعارضة عن طريق القوة والعنف والإرهاب والقمع الوحشي وسياسة فض الضمائر وشرائها القذرة إلى الأبد، وإن نجحت فإلى حين، ثم تؤدي هذه السياسة وتعمل على زيادة دائرة الغضب الشعبي وتعميقه، حتى ينتهي الأمر حتماً إلى القضاء عليها وزوالها من الوجود إلى الأبد، مصحوبة باللعنة والخزي والعار.
ب. أن القمع وإرهاب الدولة ضد المعارضة، يؤدي ويعمل بشكل فعّال جداً إلى تقليص المعارضة المعتدلة والسلمية، وزيادة المعارضة المتشددة العنيفة، وانتشار الأفكار المتطرفة وزيادة المخاطر الإرهابية، وتقضي على فرص الحل السلمي، وإطالة زمن الأزمة، وزيادة حجم الخسائر المادية والبشرية والمعنوية، والدخول في طريق اللارجعة والطلاق البائن، وتعطيل فرص التنمية والازدهار في الدولة والمجتمع.
ج. أن تفجر العنف في الصراعات الداخلية بين الحكومات والمعارضة وطول أمدها، من شأنه أن يهدد دول الجوار ويفتح الطريق لنقل الأزمة إلى أراضيها، وقد يجرها إلى التدخل، فتتحول الصراعات الداخلية إلى حرب بالوكالة، وربما تتحول إلى حرب إقليمية واسعة النطاق وربما أكثر، وهذا ما أثبتته بوضوح تام التجارب التاريخية والمعاصرة.
د. قد يؤدي تطور الصراعات الداخلية وتفجر العنف، فيها إلى تدهور الأوضاع الإنسانية حتى تصل إلى معدلات خطيرة جداً تثير القلق العالمي، وتترتب عليها هجرات جماعية تدفع كلفتها دول الجوار والعالم بأسره.
وعليه: فإن العمل من أجل الإصلاح السياسي والحكم الرشيد، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، وتجريم التمييز، وفرض الشراكة الشعبية الحقيقية، ومشاركة جميع الأطراف في السلطة وصناعة القرار وتقرير المصير، وفرض حكم القانون، والمحافظة على الأمن والاستقرار، وتشجيع التنمية الشاملة، والقضاء على الفقر والمرض والجريمة المنظمة ونحوها في دول العالم، هي مسؤولية المجتمع الدولي كله، ويجب أن تحدث وفق معايير عادلة واحدة بعيدة عن التمييز والكيل بمكيالين بين الأصدقاء والخصوم ونحو ذلك، ولا يجوز للمجتمع الدولي أن يتخلى عن مسؤوليته في ذلك تحت حجة السيادة الوطنية أو نحوها، فالسيادة الوطنية لا يصح أن تأتي بأي حال من الأحوال على حساب حقوق الناس، الذي يؤدي انتهاكها إلى المساس بالإنسانية في نفسها، ويهدد الأمن والاستقرار العالمي، وهي أمور لا يجوز التساهل بشأنها، حتى وإن تطلب الأمر إحداث تغيير في المواثيق الدولية القديمة التي تخطاها الزمن؛ لأن التساهل في هذا الأمر من شأنه أن يشجع الأنظمة الدكتاتورية والحكومات المستبدة وأطراف المعارضة على المزيد من العدوانية وأعمال العنف والإرهاب، ويجعل الصراع أكثر دموية وأطول أمداً، ويهدد بانتشار الحروب الأهلية والإقليمية، وهذا ما تفرضه الطبيعة البشرية ومنطق الصراع وأثبتته التجارب التاريخية والمعاصرة، بما لا يدع أي مجالاً للشك والريب والتردد.
تعليق واحد