دروس وعبر مستفادة
ويستفاد مما سبق أمور مهمة رئيسية عديدة، منها:
أ. أن حملة الرسالات وقادة الإصلاح والثورة، يجب أن يتسلحوا أمام خصمهم بالحجج القاطعة والأدلة والبراهين الساطعة الواضحة الصحيحة، التي تثبت صحة رسالتهم وعدالة قضيتهم وشرعية حركتهم ومطالبهم الدينية والسياسية والحقوقية وغيرها، ولا يكتفوا بالمناكفة والتبريرات الباطلة ونحوها، فكل رسالة وكل دعوة وكل حركة وكل قضية وكل مطلب لا يملك أصحابها وأهلها والقائمون عليها الدليل القطعي الثابت على صحتها، فهي ساقطة من الاعتبار عن العقلاء والمنصفين ولا قيمة لها. لكن يجب التمييز بين صحة الدليل في نفسه وبالاعتبارات الموضوعية، وبين القول بفساده وتوهينه ورفضه عند المعاندين والمعارضين من الانتهازيين والنفعيين ونحوهم، الذين يتبعون أهواءهم الشيطانية ونزواتهم وشهواتهم الحيوانية، ويستغرقون في مصالحهم الخاصة وتأخذهم الحمية والعصبية الجاهلية، ويعتمدون على المناكفات والتبريرات الواهية والشبهات والأكاذيب لقلب الطاولة على الخصم ومضايقته وإحراجه والقضاء المادي والمعنوي عليه وتصفيته، ويتاجرون بالعلم والمنطق والشعارات من أجل الوصول إلى أهدافهم، ولا تنفع معهم حجة أو برهان، كما لمسنا ذلك في موقف فرعون وملئه من الآيات والبينات التي جاء بها موسى الكليم (عليه السلام) من عند رب العالمين.
ب. أن موقف السحرة الإنساني البطولي النبيل والشجاع، يكشف لنا عن الفرق الكبير بين إدراك العالم الخبير للأمور، وبين إدراك غير العالم، فالعالم يدرك من الحقائق والأبعاد العلمية والعملية ومن الدلالات المنطقية والمنهجية الصحيحة، ما لا يدركه غيره. فقد أدرك السحرة، وهم أصحاب العلم وأهل الفن والخبرة والصناعة وأساتذة كبار في فنون وصناعة السحر، وكانوا أعرف من غيرهم بفنون السحر وأسرار المهنة، ويملكون من الخبرة والتدريب والحذق والمهارة في السحر ما لا يملكه غيرهم، ولا يمكن أن يخدعوا أو يغلبوا فيه، أدركوا عن علم ويقين لا يقبل الشك والريب وبوضوح لا يدخله لبس أو غموض أو شبهة، الفرق بين السحر الذين هم محترفون له وأساتذة كبار فيه، وبين المعجزة الإلهية العظيمة التي تقف وراءها قوة أزلية أبدية مطلقة قادرة على كل شيء ولا يعجزها شيء من الممكنات العقلية.
فما جاؤوا هم به، هو سحر عظيم لا نظير له ولا مثيل في فنه، وما جاء به موسى الكليم (عليه السلام) هو آية كبرى ومعجزة عظيمة، لها حقيقة فعلية في الواقع الخارجي وفاعلية مؤثرة لا يتوفر السحر على شيء منها، تقف وراءها أو أتت بها قوة غيبية أزلية أبدية مطلقة، فوق الطبيعة وفوق البشر، فلا يقدر غير رب العالمين القادر على كل شيء والذي خلق الكائنات الحية النبات والحيوان والإنسان من التراب، والتي تجري جميع قوانين الطبيعة وفق مشيئته وإرادته، أن يأتي بمثلها، أي: لا يستطيع الإنسان أن يأتي بمثلها عن طريق المهارات والقدرات المكتسبة بالتعليم والتدريب والخبرة ولا بأي حالٍ من الأحوال ولا بأية صورة من الصور. وأن العقل والمنطق والفطرة والطبع السليم، كلها توجب الخضوع والخشوع والتقديس والعبادة والطاعة المطلقة لهذه القوة النورانية الغيبية الأزلية الأبدية المطلقة، أي: لله رب العالمين الجامع لصفات الكمال، صفات الجمال وصفات الجلال، وتقترن عنده القدرة المطلقة بالرحمة الغامرة الواسعة، ولا يستحق غيره العبادة والطاعة، وإنما يطاع غيره بإذنه ووفق إرادته وتشريعه، ولا يطاع غيره بشكل مستقل عنه أو مخالف لإرادته وتشريعه، على قاعدة لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ومخالفة هذه القاعدة، مخالفة للعقل والمنطق والفطرة والطبع السليم ولكرامة الإنسان وحريته، ويؤدي به إلى الهلاك والشقاء الحقيقي الكامل في الدارين الدنيا والآخرة.
وإدراك الفرق بين السحر والمعجزة قد يخفى على غير أهل الفن، وقد يحتاجون لإدراكه ومعرفته إلى بعض الوقت والمطالعة والبحث والتدقيق، وقد يداخلهم فيه اللبس والشك والغموض والشبهة، أما أصحاب الحرفة وأهل الفن، فإنه يكون عندهم في غاية الوضوح واليقين، وعليه: لا استغراب ولا تعجب من سرعة إعلان السحرة لإيمانهم بالتوحيد وتصديقهم بنبوة موسى الكليم وهارون (عليهما السلام) ورسالتهما من عند رب العالمين، الذي بعثهما وأرسلهما وأيدهما بما يثبت صدقهما، وأن يكون ذلك الإعلان أمام الجماهير الغفيرة المحتشدة، وبحضور فرعون وملئه ومعاونيه وكامل جهازه الديني والأمني والعسكري والسياسي والإداري والفني، وبكل وضوح وصراحة، وتوطين أنفسهم على تحمل كافة التبعات والمسؤوليات، وعدم مبالاتهم بالإجراءات الفرعونية العقابية، المتوقعة وغير المتوقعة؛ انتقاماً منهم.
ب. كشف الموقف الإنساني النبيل والشجاع للسحرة، عن طيب أنفسهم وسموهم وحسن طبعهم وسلامة فطرتهم ورجحان عقلهم، وقوة ومتانة منطقهم ومنهجهم في التفكير، فقد أدركوا الحقيقة كما هي عليه، وأدركوا أبعادها وتبعاتها العلمية والعملية، ووجوب التسليم بها والخضوع إليها والعمل بمقتضاها؛ لأن الوصول إلى كمالهم الإنساني المقدر لهم واللائق بهم وصيانة كرامتهم، وتحصيل ما فيه خيرهم وصلاحهم وإصلاح أحوالهم وأوضاعهم الخاصة والعامة، وما فيه مصلحتهم الخاصة، ومصالح الناس الجوهرية العامة في دورة الحياة الكاملة، وسعادتهم الحقيقية الكاملة في الدارين الدنيا والآخرة، كلها تتوقف على معرفة الحقيقة والتسليم بها والخضوع إليها واتباعها والعمل بمقتضاها، مما جعلهم يتغلبون على عوامل الخوف والطمع، ويتجاوزون الترهيب والترغيب والإغراءات والمصالح الآنية الضخمة، وكل ما به تكون عملية افتضاض الضمير الإنساني وسياسة الإخضاع اللاإنسانية، وهو الأمر الذي يفشل فيه الكثير من الناس من أصحاب النفوس الواطية والعقول الضعيفة والأحلام السفيهة من الانتهازيين والنفعيين الأنانيين من أدعياء الثقافة وحملة الشهادات وأصحاب الأقلام الرخيصة التافهة، الذين يتعلقون بعالم الدنيا والمادة، ويستغرقون في ذواتهم ومصالحهم الدنيوية الفانية، والشهوات والملذات الحيوانية، ويضعفون أمام التهديدات والاغراءات، وينسون الله ذا الجلال والإكرام والآخرة والدين الحنيف والمبادئ السامية والقيم العالية والمصالح العامة، ويبيعون كرامتهم ودينهم وضميرهم وما لديهم من الثقافة والفنون والعلوم والأدب والمواهب، رخيصة لمن يدفع إليهم الثمن في سوق النخاسة السياسية، وذلك لفساد طبعهم وفطرتهم وضعف منطقهم وانحراف منهجهم في التفكير، ولجهلهم بحقيقة أنفسهم ومبدئهم ومعادهم وما فيه خيرهم وصلاحهم وإصلاح أوضاعهم وأحوالهم ومصلحتهم الحقيقية، وما يوصلهم إلى كمالهم الإنساني المقدر لهم واللائق بهم، وسعادتهم الحقيقية الكاملة في الدارين الدنيا والآخرة.
وبناءً عليه: ليس كل من يعرف الحقيقة يسلم بها ويخضع إليها ويعمل بمقتضاها، قول الله تعالى: <وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا>[1] كما هم الحمقى السفهاء ضعفاء العقول سفهاء الأحلام فاسدي الطبع من الطواغيت الضالين والفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين الظلمة والمترفين المستغلين والانتهازيين الأنانيين والنفعيين الفاسدين الذين أفسد غرور السلطة والثروة والقوة والاستغراق في عالم الدنيا والمادة والمصالح الدنيوية الفانية والأهواء الشيطانية والشهوات والملذات الحيوانية، فطرتهم وطبعهم ومزاجهم وأضعف منطقهم وحرف منهجهم في التفكير عن جادة الصواب، وحجبهم عن رؤية نور الحقيقة الساطع، وكذلك حال الأتباع الضالين الذين يعيشون ويتصرفون تحت تأثير التعصب الأعمى الديني والمذهبي والعرقي، ويقبلون بالخنوع والمذلة والهوان بالخضوع للأمر الواقع المفروض عليهم على غير إرادتهم ومصلحتهم، ويخافون ويخشون من التغيير والإصلاح، وقد يتوهمون بأن الخير والصلاح في الأمر الواقع المفروض عليهم، فلا يهتدون للحق والصواب ولا تنفع معهم موعظة ولا حجة ولا برهان ولا منطق، ويبيعون دينهم وآخرتهم بدنيا غيرهم، ويسلم بالحقيقة ويخضع إليها ويتبعها ويعمل بمقتضاها ولا ينفك ولا ينفصل عنها ولا يخالفها العاقل الحكيم سليم الفطرة قوي المنطق الذي يضع الأمور في مواضعها الصحيحة.
ج. أن التغيير المفاجئ الذي حدث للسحرة الكرام، فكانوا مؤمنين بررة واصلين، بعد أن كانوا كفرة فجرة مطرودين مبعدين عن ساحة القدس الإلهي، وإعلانهم إيمانهم أمام الجماهير الغفيرة المحتشدة في الميدان، وبحضور فرعون وملئه وأعوانه وكامل جهازه الديني والأمني والعسكري والسياسي والإداري والفني، بكل وضوح وصراحة وشجاعة منقطعة النظير، موطّنين أنفسهم على تحمل التبعات والمسؤوليات كافة أمام الأجهزة الرسمية والرأي العام والتاريخ، غير خائفين ولا مبالين بالإجراءات الفرعونية العقابية والمتوقعة وغير المتوقعة؛ للانتقام منهم، يدل على أن نور الإيمان والهداية والتوحيد، موجود في قلب كل إنسان بفطرته، إلا أن التربية الاجتماعية المنحرفة، وبعض العوامل، مثل: غرور السلطة والقوة والثروة والمناصب العليا والمكانة المتميزة، الدينية والعملية والاجتماعية، والاستغراق في عالم الدنيا والمادة والمصالح والأهواء والشهوات والملذات الحسية والتعصب الأعمى الديني والمذهبي والعرقي ونحو ذلك، قد تحجب قلب الإنسان عن رؤية نور الإيمان والهداية والحجة والبرهان والموعظة، وتمنع الإنسان عن إعلان الإيمان وما يتقنه في أعماق نفسه من الحقائق. وقد يقف ضدها ويحاربها على أنها أباطيل وأوهام وخرافات، رغم يقينه في داخل نفسه من أنها حقائق. وقد تطول المدة أو تقصر، ثم تهب بعض العواصف وتحدث بعض الابتلاءات والمحن والتنبيهات والتحذيرات، فتزيح تلك الحجب ويسطع ذلك النور الإلهي في قلب الإنسان ويأخذ بالإبصار، فيهتدي الإنسان بعد الضلال، ويطيع ويخضع للحقيقة بعد المعصية والتمرد كما حصل للسحرة الكرام، وقد لا ينفع شيء من تلك الابتلاءات والمحن والتنبيهات والتحذيرات فتبقى تلك الحجب راسخة في مكانها رغم كل تلك العواصف، فيبقى صاحبها على الكفر والضلال حتى يرى العذاب الأليم كما حصل لفرعون وملئه وجنوده وأعوانه.
الجدير بالتنبيه: ليس غرور السلطة والقوة والثروة والمناصب العليا وحده، الذي يحجب القلب عن رؤية نور الإيمان ويمنع الإنسان عن التصريح به، وإنما غرور المكانة الدينية والعلمية قد يحجب القلب عن رؤيه نور الإيمان والحقيقة والبرهان، ويمنع الإنسان عن إعلانه والتصريح به، فيرى صاحب المكانة بأنه لمكانته فوق أن ينصح أو يهدى أو يُعلّم أو يغلب في حوار ونحوه، فيعاند ويكابر ويجادل بالباطل حتى يضل ويكفر عن علم ويقين، وقد يبرر ويصوّر الباطل في صورة الحق بسبب أنانيته، دفاعاً عن ذاته المتضخمة، وهذا مما كشفت عنه التجارب التاريخية والمعاصرة، وهو من شأنه أن يحمل الجميع، لا سيّما المعنيين، على الحذر الشديد، وفرض المراقبة والمحاسبة الدقيقة للنفس، والعمل على تصحيح الخلل إن وجد، من أجل النجاة من الهلاك والشقاء والوصول إلى الكمال الأسمى، وتحصيل السعادة الحقيقية الكاملة وما هو أفضل.
المصادر والمراجع
- [1]. النمل: 14
تعليق واحد