مواضيع

تقرير المصير

من كتاب قراءة في بيانات ثورة الإمام الحسين لأستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

المناسبة

علم الإمام الحسين (ع) أن الخليفة الأموي (يزيد بن معاوية) قد أسند ولاية موسم الحج إلى (عمرو بن سعيد بن العاص) وجعل معه عسكرا كثيرا، وأوصاه بأن يفتك بالإمام الحسين (ع) ولو كان متعلقا بأستار الكعبة، فعزم على الخروج من مكة المكرمة قبل إتمام الحج، كراهية أن تستباح به حرمة البيت الحرام، ويضيع دمه هدرا، فطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، واحل من إحرامه، وجعلها عمرة . وكان خروجه في يوم الثلاثاء بتاريخ: (8 / ذي الحجة / 60هـ) الموافق (10 / سبتمبر ـ أيلول / 680 م) صباحا متوجها إلى العراق، وخرج معه أهل بيته وأصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة وبعض شيعته (من الحجاز والبصرة والكوفة) الذين انضموا إليه أيام إقامته في مكة .. وقبل أن يخرج قام خطيبا في الناس فقال:

نص البيان

« الحمد لله، وما شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على رسوله وسلم . خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلاة بين النواويس وكربلا، فيملأن مني أكرشا جوفا وأجربة سغبا، لا محيص عن يوم خط بالقلم . رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس، تقر بهم عينه، وينجز بهم وعده . ألا ومن كان فينا باذلا مهجته، موطنا على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإني راحل مصبحا .. إن شاء الله تعالى».

قراءة في البيان

يتضمن البيان الكثير من الحقائق والأفكار .. وهي كالتالي:

أولاً ـ قوله (ع): « الحمد لله، وما شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على رسوله وسلم».

يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة تكشف عن منهجه الثوري، وبالتالي عن منهج الثوار المؤمنين .. وهي:

النقطة الأولى: أن الإمام الحسين (ع) يرى بأن الخير فيما يختاره الله تبارك وتعالى لعباده .

النقطة الثانية: أن لا شيء يقع في الحياة والوجود إلا ما يريده الله جل جلاله.

النقطة الثالثة: أن الإمام الحسين (ع) في حالة تسليم مطلق لإرادة الله تبارك وتعالى ورضا تام كامل بقضائه وقدره .

روي عن الإمام الصادق (ع) أن آخر الآيات في سورة الفجر .. قول الله تبارك وتعالى: <يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ 27 ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً 28 فَادْخُلِي فِي عِبَادِي 29 وَادْخُلِي جَنَّتِي> نزلت في حـق جـده الإمام الحسين (ع).

وهذا يعني أن الإمام الحسين (ع) يمثل مصداقها الأتم .

النقطة الرابعة: أن الإمام الحسين (ع) يسير في الحياة على منهج الرسول الأعظم الأكرم (ص) وهديه .

قال الرسول الأعظم الأكرم (ص): « حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا، حسين سبط من الأسباط « (صحيح الترمذي.ج2. ص307) .

ثانياً ـ قوله (ع): « خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلاة بين النواويس وكربلا، فيملأن مني أكرشا جوفا وأجربة سغبا، لا محيص عن يوم خط بالقلم».

يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة .. منها:

النقطة الأولى: حتمية الموت، وأن أحسن الموت وأشرفه هو القتل في سبيل الله تبارك وتعالى وأنه من سعادة المؤمن ومواطن الأنس والبشرى والشكر لديه، والقتل في سبيل الله تبارك وتعالى في رؤية الإمام الحسين (ع) والثوار المؤمنين، بالنظر إلى حتمية الموت الذي يحيط بالإنسان، هو بمثابة القلادة الجميلة التي تحيط بعنق الفتاة، والتي تضعها الفتاة في عنقها (أساسا) من أجل الزينة والجمال .

وهذا القول يدل على أمور عديدة .. منها:

الأمر الأول: شديد حب الإمام الحسين (ع) والثوار المؤمنين للشهادة في سبيل الله تبارك وتعالى.

الأمر الثاني: أن كل من يرفض الذل والهوان ويطمح إلى النصر على الأعداء، لا يخاف الموت أو القتل .. وأن شعاره في الحياة: هو الشهادة .

الأمر الثالث: أن الإمام الحسين (ع) في حالة تصميم تام على المضي في ثورته المباركة من أجل تحطيم النظام الطاعوتي المستبد وإحياء الدين .

النقطة الثانية: شوق الإمام الحسين (ع) للقيا جـده الرسـول الأعظـم الأكرم (ص) وأمه وأبيه وأخيه الحسن (ع) وعم أبيه الحمزة، وعمه جعفر الطيار، والشهداء من أصحاب جده وأبيه وأخيه (رضوان الله تعالى عليهم) في الفردوس الأعلى في الجنة .

قال الله تعالى: <وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا 22 مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا . لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا>.

وقال الله تعالى: <وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ 169 فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ 170 يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ>.

النقطة الثالثة: أن الإمام الحسين (ع) يعلم بمصيره، وهو القتل في سبيـل اللـه تبارك وتعالى ويعلم مكان وزمان مصرعه وما يجري عليه وعلى أهل بيته بعد المصرع .. ويؤكد على حتمية ذلك المصير.

في الحديث: أن الإمام الحسين (ع) لما عزم على الخروج من المدينة، أتته أم المؤمنين أم سلمة (رضي الله عنها) فقالت: يا بني لا تحزن بخروجك إلى العراق، فإني سمعت جدك يقول: يقتل ولدي الحسين بأرض العراق، في أرض يقال لها كربلاء.

فقال لها: يا أماه: وأنا والله أعلم ذلك، وإني مقتول لا محالة، وليس لي من هذا بد، وإني والله لأعرف اليوم الذي أقتل فيه، وأعرف من يقتلني، واعرف البقعة التي أدفن فيها، وإني أعرف من يقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي، وإن أردت يا أماه أريك حفرتي ومضجعي .

ثم أشار إلى جهة كربلاء، فانخفضت الأرض حتى أراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره، وموقفه ومشهده .. فعند ذلك بكت أم سلمة بكاءُ شديدا وسلمت أمره إلى الله.

فقال لها: يا أماه: قد شاء الله عز وجل أن يراني مقتولا مذبوحا ظلما وعدوانا، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشردين، وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصرا ولا معينا».

ويدل هذا المقطع من البيان على أمور عديدة .. منها:

الأمر الأول: صبر الإمام الحسين (ع) وتلقيه للمصير المفجع المحتوم المعلوم له بكل تفاصيله المفجعة، بنفس راضية مسلمة لأمر الله جل جلاله وخيرته . وقد تعلم الثوار المؤمنون الذين يرون مصارعهم على أيدي أعدائهم شاخصة بين أعينهم، من الإمام الحسين (ع) الذي رسم لهم منهج الثورة، الصبر والتسليم لأمر الله تبارك وتعالى وعدم الخوف من الموت، وفرحهم بالشهادة كفرح الطفل بمحالب أمه .

الأمر الثاني: سعي الإمام الحسين (ع) لكسر حاجز الخوف وترسيخ ثقافة المقاومة والفداء في عقلية الأمة الإسلامية، واستنهاض مخزونها الروحي، استنادا إلى المسؤولية والتكليف الديني، والعقل والفطرة والقيم الإنسانية الرفيعة، من أجل إشعال الثورة للتخلص من الظلم والاستبداد والاضطهاد وانتهاكات حقوق الإنسان، وإقامة نظام سياسي عادل، يقوم على أساس التوحيد . إن السلطات المستبدة الظالمة تلجأ (دائما) إلى سياسة التخويف من أجل إيقاف مسيرات الشعوب نحو الحرية والعدالة والفضيلة، وتنشر الدعاية التخويفية بين أبناء الشعوب المستضعفة لهذا الغرض الخبيث وغير الإنساني، وتقع الكثير من القيادات الشعبية والتيارات السياسية تحت تأثير هذا الدعاية التخويفية، فتستسلم وتقبل بالأمر الواقع، وليس لذلك من مبرر إلا الخوف من الموت وعدم الرغبة في تقديم التضحيات اللازمة للثورة أو الإصلاح والتطوير في المجتمع والدولة، فتمارس الرقابة الذاتية على نفسها، وتشارك في الجهود الدعائية لترويج ثقافة التخويف تحت عنوان الدبلوماسية والحكمة، ليتحول الخوف والحذر من عقاب السلطة إلى ثابت من ثوابت الدبلوماسية والحكمة لدى هذه الشريحة من السياسيين والقيادات الجبانة المرعوبة . إنها في الحقيقة تحمل ثقافة الخنوع والذل واليأس، والشعور بالعجز أمام طغيان السلطات المستبدة وإمكانياتها في ممارسة القهر والاضطهاد لأبناء الشعوب، والخوف من الموت وعدم الاستعداد إلى تقديم التضحيات اللازمة للتغير والإصلاح والتطوير .. وهي (بحسب تقديري وفهمي) ثقافة غير مبدئية، ولا واقعية، ولا دينية، وتمثل أكبر عائق يقف في وجه الشعوب المستضعفة لمقاومة الاستبداد والظلم والاضطهاد والفساد وانتهاك حقوق الإنسان .

ونصل على ضوء الثقافة الثورية التي بثها الإمام الحسين في عقل الأمة إلى بعض النتائج المهمة التالية:

النتيجة الأولى: أن السبيل إلى تحطيم حاجز الخوف في قلوب أبناء الشعوب المستضعفة، هو نشر الوعي الثوري المبدئي لديها، وتوفر القيادة المبدئية الواعية والقوية، التي تمتلك كامل الاستعداد لتقديم أعز التضحيات .. وفي مقدمتها: التضحية بالنفس والأحبة .

النتيجة الثانية: أن السلطات المستبدة الظالمة، لا تستطيع أن تقف في وجه الشعوب التي تتبلور لديها رؤية الرفض وتمتلك الحس الثوري الذي يتحول بصورة تلقائية إلى فعل . إن السلطات المستبدة الظالمة تستطيع أن تمارس القتل والإرهاب، ولكنها لا تستطيع أن تمنع النصر وتحقيق العدالة ونشر الفضيلة إذا توفرت لدى الشعوب جرأة الرفض والانطلاق في الثورة أو الإصلاح .

النتيجة الثالثة: إن الثقافة الدينية عامة، والثقافة الدينية الإسلامية خاصة، هي أقوى الثقافات وأقدرها (إطلاقا) على تربية الحس الثوري التحرري المنتج لدى الشعوب المستضعفة .. وعليه: ينبغي رعاية هذه الثقافة ونشرها بين الشعوب المستضعفة من أجل حصولها على الحرية والانعتاق، وعدم التفريط (قيد شعرة) في الصبغة الإسلامية في حركات المعارضة: الإصلاحية والثورية في البلدان الإسلامية، لأسباب دينية تعبدية، وأسباب سياسية تتعلق بفرص نجاح الحركات في أهدافها .

سؤال مهم: إذا كان الإمام الحسين (ع) يعلم بمصيره، وهو القتل في كربلاء، فلماذا أرسل ابن عمه (مسلم بن عقيل) إلى الكوفة؟

الجواب: لقد كان للإمام الحسين (ع) تكليفان .. وهما:

الأول – التكليف الظاهري: ويعمل فيه بحسب الظاهر من الأمور . فأهل الكوفة قد أظهروا الولاء والانقياد له والطاعة لأمره، وأمام هذا الظاهر ليس له عذر (وهو من أئمة الهدي المكلفين بهداية البشرية) في عدم الاستجابة لهم، وتخليصهم من مخالب الضلال والاستبداد والاضطهاد والظلم اليزيدي، وتجميعهم على الحق، وهدايتهم إلى الله تبارك وتعالى وتطبيق أحكام الله عز وجل وإقامة النظام الإسلامي العادل فيهم، بحجة ما جبلوا عليه من الغدر والخيانة، فتكون لهم الحجة عليه يوم القيامة، وهذا خلاف وجوده كحجة لله تبارك وتعالى على الخلق، وتكليفه بهداية البشرية إلى صراط الله المستقيم، وإقامة نظام اجتماعي عادل، يقوم على أساس التوحيد وتطبيق أحكام الله تبارك وتعالى العادلة فيهم .

قال الله تعالى: <إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا 163 وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا 164 رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا>.

وقال الله تعالى: <وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى>.

وقال الله تعالى: <وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ 155 أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ 156 أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ>.

الثاني – التكليف الواقعي: ويعمل فيه بحسب علمه (اللدني) وما أخبره به جده وأبيه، في الإقدام على الموت صابرا محتسبا، وتعريض أهله وعياله وأطفاله للأسر والفجائع العظيمة كذلك، من أجل فضح الباطل الذي كان عليه الخلفاء الأمويين، وإثبات الحق الذي عليه أئمة الحق من أهل البيت الطيبين الطاهرين (ع) وإنقاذ المسلمين من مخالب الضلال والظلم والاستبداد والشر والاضطهاد الأموي، وهدايتهم إلى الحق وتمهيد الطريق إلى حكومة ولي الله الأعظم العادلة في الأرض .

ثالثاً ـ قوله (ع): « رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين».

يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة مهمة في المنهج الثوري للإمام الحسين (ع) التي يرسم من خلالها منهج الثوار المؤمنين .. منها:

النقطة الأولى: الالتزام المطلق للأئمة من أهل البيت (ع) بأمر الله تبارك وتعالى ونهيه، وأنهم معصومون، وإرادتهم (دائما وأبدا) من إرادة الله عز وجل ومعها . فليس لهم إرادة في التشريع أو العمل على خلاف إرادة الله عز وجل وأن إرادة الله تبارك وتعالى تتحد (دائما وأبدا) مع إرادتهم . وهذا يدل على التزام الثوار المؤمنين (دائما وأبدا) بشريعة الله تبارك وتعالى والقيم الإسلامية الرفيعة، فلا يخالفون أمر الله تبارك وتعالى ونهيه في شيء من تفاصيل عملهم الثوري .

النقطة الثانية: أن التزام الأئمة من أهل البيت (ع) والثوار المؤمنين الدائم والمستمر بأمر الله تبارك وتعالى ونهيه في عملهم الثوري، يحتاج إلى الصبر والتضحية، وأنهم شرطوا لله تبارك وتعالى ذلك، وعلم منهم الإجابة فقبلهم وقربهم وباركهم .. وأنه يوفيهم أجورهم بغير حساب .

قال الله تعالى: <قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ .. إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ>.

رابعاً ـ قوله (ع): « لن تشذ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس، تقر بهم عينه، وينجز بهم وعده».

يتضمن هذا المقطع من البيان على نقاط عديدة مهمة .. منها:

النقطة الأولى: أن منهج الإمام الحسين (ع) من منهج جده الرسول الأعظم الأكرم (ص) وانه لن يشذ عنه أبدا مهما كلفه ذلك من تضحيات .

النقطة الثانية: أن سير الإمام الحسين (ع) على منهج جده الرسول الأعظم الأكرم (ص) في الدنيا، يؤدي إلى الكون معه في الآخرة، وهذا ينطبق على الثوار المؤمنين الذين يوفون بالتزاماتهم في الثورة الإسلامية .

قال الله تعالى: <وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ 169 فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ 170 يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ>.

النقطة الثالثة: أن سير أهل البيت (ع) والثوار المؤمنين على منهج الرسول الأعظم الأكرم (ص) يؤدي إلى فرحه وسروره بهم، ويؤدي إلى إنجاز الأهداف الرسالية للدين الإسلامي الحنيف في الحياة، وأن تمام ذلك يقع على يد الإمام القائم المهدي (عج) في آخر الزمان .

خامساً ـ قوله (ع): « ألا ومن كان فينا باذلا مهجته، موطنا على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإني راحل مصبحا .. إن شاء الله تعالى».

بعد أن أسس الإمام الحسين (ع) عقائديا وسياسيا وأخلاقيا إلى السلوك الثوري الاستشهادي ورغب فيه، وكشف عن منهجه الذي هو منهج الرسول الأعظم الأكرم (ص) وعاقبة الثوار المؤمنين السائرين على هذا المنهج الرباني المقدس العظيم، وأنهم مجموعون مع الرسول الأعظم الأكرم (ص) في حضيرة القدس، دعا الناس إلى نصرته والسير معه في طريق الثورة على النظام الأموي المستبد الظالم، مؤكدا على أن مصير من يلحق به هو الشهادة وليس المغانم المادية .

ويدل هذا المقطع من البيان على أمور مهمة عديدة .. منها:

الأمر الأول: أن السير في طريق الثورة ونصرة الحق والعدل والفضيلة تتطلب من الثوار الصدق والإخلاص والعمل الدؤوب المستمر والتضحية بكافة أشكالها .

الأمر الثاني: ضرورة المحافظة على الصبغة العقائدية في العمل السياسي والثوري الإسلامي وعدم التفريط فيها قيد شعرة .. وذلك للأسباب التالية:

السبب الأول: إبراز التمسك بالمنهج والقيم الإسلامية في العمل.

السبب الثاني: لكي يبارك الله تبارك وتعالى عملهم، ويفتح لهم أبواب النصر.

السبب الثالث: لكي يكونوا مستحقين للثواب في الآخرة.

السبب الرابع: توظيف المخزون الروحي للمحافظة على تماسك الجماعة وقوتها وصلابة مواقفها .. وعليه:

زيادة فرص نجاحها كما أثبتت التجارب.

الأمر الثالث: ضرورة التأسيس (إسلاميا) من الناحية الفكرية والسياسية والأخلاقية والاجتماعية للأنشطة والمواقف السياسية والثورية الإسلامية . وقد سبق القول: بأن المواقف السياسية والثورية الغير مؤسس لها، هي مواقف بدون هوية، وتمثل شكلا من أشكال العبثية والضياع في الحياة .

الأمر الرابع: ضرورة الشفافية والمكاشفة بحقائق الأمور في المواقف والأوضاع بين القائد والجماهير، فلا يصح من القائد أن يعطي نصف الحقيقة ويخفي النصف الآخر، إلا إذا تعلق الأمر بأمن القضية وسلامتها، فالحقيقة ملك عام للجماهير وليس للقائد وحده، وعلى مدى المكاشفة ووضوح الحقيقة لدى الجماهير، يتم التمييز بين الإتباع الواعي المحمود، والإتباع الأعمى المذموم، والمكاشفة تدل على صدق القائد ووضوح الرؤية الكاملة لديه، وغيابها قد يشكل نموذجا للخيانة ودليلا على عدم وضوح الرؤية لدى القائد، والإتباع بدون المكاشفة ووضوح الحقيقة يدل على السذاجة والضياع (قطعا) ولا يتلاءم مع كرامة الإنسان وحريته، وتعتبر الشفافية والمكاشفة بين القيادة والجماهير، سمة جوهرية من سمات المنهج الإسلامي الثوري.

إن تصريح الإمام الحسين (ع) بالمصير المحتوم الذي ينتظره (وهو القتل) يكشف عن أمر في غاية الأهمية في المنهج الإسلامي للثورة، وهو الوضوح والصراحة مع الجماهير، لكي يكون إتباعها للقائد عن وعي وبصيرة وإرادة حرة واعية، وليس عن تقليد أعمى أو قهر يتنافي مع كرامة الإنسان وحريته، وهذا يعطي الثورة مصداقيتها، ويجعلها مطابقة لتعاليم ومبادئ وقيم الإسلام العظيم . فالإمام الحسين (ع) لم يوعد الناس ويمنيهم بالمغانم والمكاسب المادية من وراء الثورة، لكي يتبعوه ويحقق بهم أكثرية عمياء ينتصر بها على خصمه (يزيد بن معاوية) وإنما صارحهم بأن مصيره ومصير كل من يتبعه هو القتل في سبيل الله تبارك وتعالى وهذه الصراحة والشفافية هي مما يمتاز به المنهج الإسلامي السياسي والثوري عن غيره من المناهج، التي تعتمد الكذب والغموض والمراوغة والخديعة وغيرها من الصفات الرذيلة كأسلوب في العمل، وذلك لأن العمل والنظم السياسية المادية، مرتبطة بالدنيا ومنافعها، وغلبة الأهواء والرغبات على الحق والعدل والفضيلة، وغلبة المصالح الشخصية والخاصة على المصالح العامة للدين والمجتمع والدولة .. وعليه: فإن التوسل بالكذب والخديعة والتملق أمر طبيعي لدى أتباع هذه المناهج، حيث لا يعقل أن تكون الوسيلة لهدف يخلو من النبل والشرف .. متصفة بالنبل والشرف . بينما المنطلق في العمل الإسلامي (الثوري والسياسي) هو الإخلاص لله تبارك وتعالى والغاية منه تحصيل رضاه جل جلاله وتثبيت دعائم الأخلاق والفضيلة، والقضاء على الظلم والجور والفساد، وتأسيس مجتمع عقائدي يقوم على أساس التوحيد، الأمر الذي تتحقق به السعادة للإنسان في الحياة الدنيا والآخرة .. وعليه: فإن الوسائل يجب أن تكون شريفة ونبيلة ومتوافقة مع الحق والعدل، لأن الحق لا يمكن أن ينتصر بالباطل، وأن انتصار الحق بالباطل، هو انتصار للباطل وليس للحق . فليس في الإسلام غير الحق والعدل والصدق والفضيلة والنبل والشرف والخير .

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): « الطالب بالشر مغلوب، المحارب للحق محروب».

المصدر
كتاب قراءة في بيانات ثورة الإمام الحسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟