مواضيع

طلب السحرة الأجر على عملهم من فرعون

<وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ 113 قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِين>

انتشر الضباط والجنود التابعين للنظام الذين بعثهم فرعون الطاغية المتجبر في جميع المناطق والأنحاء في مصر، فساقوا السحرة المهرة الحاذقين والمدربين على فنون السحر والعارفين بدقائق أسراره وخفاياه وخباياه إلى العاصمة السياسية حيث يقيم الملك ومركز الحكم، بهدف مبارزة موسى الكليم (عليه السلام) بالسحر والتغلب عليه وفضحه وكشف سره وإبطال دعوته ورسالته.

فلما حضر السحرة إلى العاصمة، ومثلوا بين يدي فرعون الذي هو في عرفهم ودينهم الرسمي الرب الأعلى لجميع أهل مملكته، وعقدوا معه بحضور معاونيه اجتماع عمل، وكان عدد السحرة يقارب بحسب بعض الروايات الخمسة عشر (15) ألف، وقيل: غير ذلك، وكانوا عارفين تمام المعرفة بالمهمة الخطيرة المكلفين بها، وعارفين بأهميتها البالغة وأهمية النتائج التاريخية والمصيرية المترتبة عليها، على صعيد النظام والدولة والمجتمع المصري والملك، ومتهيئين لها ومستعدين كامل الاستعداد. فتوجهوا إلى فرعون قائلين: <إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ>[1] أي: هل لنا مكافأة وأجراً عظيماً على عملنا؟ أو ينبغي أن يكون لنا أجراً عظيماً خاصاً، أو جدير بك أن تجعل لنا أجراً عظيماً على عملنا إن كنا نحن الغالبين والمنتصرين في المبارزة على موسى.

لقد كان السحرة يدركون خطورة المهمة أو المبارزة التاريخية الفاصلة التي سيدخلونها مع موسى الكليم (عليه السلام)، ويدركون أبعادها الفكرية والنفسية والعملية الواسعة، ونتائجها العظيمة التاريخية الفاصلة وانعكاساتها على النظام والدولة والمجتمع والملك شخصياً، ويدركون حاجة فرعون الشخصية الماسة إليهم وإلى عملهم في هذه الظروف الحساسة والرياح العاتية والمأزق الخطير الذي يمر فيه مع نظامه ودولته وجهازه الحاكم برمته، وبالتالي استعداده الكبير والتام للبذل من أجل إنقاذ نفسه وملكه ودولته ونظامه، فأراد السحرة أن يستفيدوا من الفرصة غاية الاستفادة، وأن يضمنوا مقدماً لأنفسهم المكافأة الكبيرة المستحقة لهم بعملهم الثمين والمتميز في هذه الظروف المتميزة والفرصة الذهبية من النظام والملك شخصياً.

ويعتبر التنكير في لفظ «أجراً» دليل على التعظيم وإبراز الأهمية، لما في التنكير من إخفاء الماهية والنوعية، أي: أن السحرة طالبوا فرعون أن يعطيهم أجراً خاصاً عظيماً وعوضاً مهماً مقابل عملهم إذا كانوا هم الغالبين والمنتصرين في المبارزة على موسى الكليم (عليه السلام)، وذلك بعد الفراغ من أصل استحقاقهم للأجر والمثوبة، فمن المفروغ منه استحقاقهم للأجر، ولكن المطالب به هو الأجر الخاص العظيم والعوض المهم نظراً للأهمية الاستثنائية لعملهم في الظرف الاستثنائي. وهذا هو دأب الانتهازيين والنفعيين الأنانيين والسماسرة الخسيسين الذين يظهرون الولاء للأنظمة الدكتاتورية الفاسدة والحكومات المستبدة الجائرة، وينافقون من أجل مصالحهم الدنيوية الأنانية الخاصة، على حساب الدين والمبادئ والقيم والمنطق والحقائق الدامغة والمصالح العامة، ويساومونهم على الأثمان التي يقبضونها مقابل خدماتهم وبيع أديانهم وضمائرهم، لا سيما في أوقات الشدة والأزمات وكلما ظهرت الحاجة إلى خدماتهم العلمية والتقنية والأدبية والسمسرة، لإرضاء غرور الحاكم المستبد وأنانيته وإشباع رغباته ونزواته الحيوانية؛ لأن علاقة هؤلاء السفلة الحمقى مع النظام الدكتاتوري الفاسد، والحاكم المستبد الظالم، تقوم في الأساس على تبادل المصالح وسياسة الإخضاع عن طريق الترهيب والترغيب التي يلجأ إليها الحاكم المستبد معهم، ولا صلة لها بالقناعة الفكرية والمصلحة العامة والدين والمبادئ والقيم الإنسانية والمنطق والحقائق ونحوها، وهي بدون شك حالة غير إنسانية ومخالفة للعقل والمنطق والفطرة والطبع السليم، وتتنكر لعزة النفس والكرامة الإنسانية والنبل والشرف، وتؤدي إلى إضعاف الدول والمجتمعات وتخلفها وتحللها وانحطاطها الفكري والروحي والتربوي والحضاري، ولا يلجأ لها إلا خسيس الطبع، فاسد الفطرة، عديم الضمير والوجدان.

يقول الشيخ محمد جواد مغنية: «كان السحرة في ذلك يمثلون الدين، فساوموا صاحب السلطان والجاه والمال ضد نبي الله، وفي كل عصر يوجد من يتسم بسمة الدين، ويساوم عليه المترفين والملوك والشياطين»[2] أي: لهم أشباه ونظائر في كل عصر ومصر يساومون على دينهم وضمائرهم كل من يدفع الثمن لهم مقابل خدماتهم التي يقدمونها له ويقتطعونها في الحقيقة من دينهم ووجدانهم وضمائرهم الرخيصة جداً عندهم، ويقومون بتحريض وحث شديد منهم على تشكيل الهيئات والجمعيات الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفنية والأدبية والأحزاب والنقابات باسم الدين والمبادئ والحقوق والوطن والقومية ونحوها، من أجل خدمتهم وتحقيق أهدافهم، وقد تنطلي لعبتهم القذرة وأهدافهم الخبيثة على البسطاء من الناس، ولكن سرعان ما تنكشف لعبتهم ويفتضح أمرهم وتظهر عوراتهم أمام الجميع، ويصبحوا مسبة ولعنة على لسان كل واع مخلص، ثم يحشروا في يوم القيامة مع الذين كانوا يعملون لأجلهم وبئس المصير.

والنظام الدكتاتوري الفاسد، والحاكم المستبد الظالم، يشتريان من هؤلاء السفهاء الحمقى المفلسين، الدين والمذهب والوجدان والضمير والخدمات الفكرية والفنية والأدبية والعلاقات العامة وغيرها في سوق النخاسة السياسية، ويدفعان إليهم الثمن بحسب قواعد السوق، لا سيما قاعدة العرض والطلب، فتكون الأثمان كبيرة وضخمة جدًا في وقت ازدياد الطلب وقلة العرض في أوقات الأزمات والشدة، مثل: الأوقات التي تنشط فيها حركة المعارضة الإصلاحية والثورية، وتزداد الاحتجاجات الشعبية وتزداد المخاطر، وفي وسائل الإعلام العالمية والمحافل الدولية، وأن تكون الشخصية ذات مكانة دينية أو علمية أو وجاهة اجتماعية أو صحفي بارز ونحو ذلك، أي: لكل شخص ثمنه، ثم يرميان بهم في الزبالة بعد الاستغناء عن خدماتهم، أو كما ترى النواة بعد أكل الثمرة؛ لأنه لا قيمة لهم ولا حرمة ولا كرامة في أنفسهم، ولما لديهم من العلم والخبرة والمكانة؛ لأنهم تنازلوا عنها طائعين، وباعوها بثمن بخس في سوق النخاسة السياسية، وقيمتهم فقط فيما يقدمونه من خدمات وبحسب مقدار الحاجة فقط، وهناك من يورث هذه التبعية لأبنائه وأحفاده، حتى تنوجد عوائل من هذا النوع السافل الخسيس.

وقد أقر فرعون وهو رأس النظام والدولة للسحرة بأهمية الأمر، وبخطورة المهمة المكلفين بها، وبخطورة نتائجها التاريخية المصيرية الفاصلة، وأبعادها العملية المتشعبة وانعكاساتها الخطيرة جداً على النظام والدولة والمجتمع المصري وعلى شخص الملك وسلطته ومستقبله السياسي والديني والاجتماعي، وبناءً عليه ضمن لهم الأجر العظيم والمكافأة السخية الضخمة المادية والمعنوية التي طلبوها وزيادة عليها، إن هم حققوا الغلبة والانتصار على موسى الكليم (عليه السلام) وهزموه، فقال لهم: <نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ>[3] أي: نعم ستكون لكم مكافأة مادية سخية جداً وضخمة كما طلبتم، وزيادة على الأجر الذي تطلبونه أهم منه، ستكون لكم مكافأة معنوية في غاية الأهمية تقديراً لكم ولجهودكم في خدمة النظام والدولة (الملك) تقر بها عيونكم وترضون بها غاية الرضا، وهي أني سأرفع مكانتكم ومنزلتكم عندي وفي النظام الطبقي، وستكونون من المقربين لدي جداً، ومن أصحاب التبجيل والتكريم في مجلسي، وتكونون أول من يدخل عليَّ وآخر من يخرج من عندي. أي: وعدهم بأن يعطيهم الأجر العظيم الذي طلبوه منه، ويضيف عليه لهم ما يقل عنده ذلك الأجر ويزيد عليه في القيمة والأهمية، وهو أن يجري تعديلات مهمة جداً على النظام الطبقي الموروث، وعلى النظام في الديوان الملكي، على غرار ما يقوم به الفراعنة والملوك والحكام المستبدون الذين يتمتعون بسلطات مطلقة في الأنظمة والهيئات الدكتاتورية في زماننا هذا، بإجراء تعديلات دستورية وعلى القوانين والأنظمة والهيئات الإدارية، كلما دعت الحاجة لخدمة أوضاعهم الخاصة، ولإرضاء رغباتهم الشخصية وخدمة مصالحهم وتعزيز سلطاتهم، ولتمكين الأشخاص والأطراف والجماعات الموالية إليهم وتقويتهم، وإبعاد خصومهم وإضعافهم والحد من نفوذهم وسلطتهم والتضييق عليهم ومحاصرتهم، وكل ذلك باسم القانون والشرعية، وللمحافظة على هيبة الدولة ونظامها الدستوري، وحفظ مكانتها ودورها على الساحة الوطنية والقومية، وعلى المستوى الإقليمي والدولي والمحافظة على أمن المواطنين والمقيمين ومصالح أبناء الشعب وتحقيق الرفاه إليهم، ونحو ذلك، وبواسطة مؤسسات الدولة الصورية، مثل: البرلمان، والقضاء، ومؤسسات المجتمع المدني، ومنظمات حقوق الإنسان، والمؤسسات البحثية ونحوها التي يخضع جميعها فعلياً لإرادة الحاكم المستبد وتابعة له وتعمل باسمه، ثم تغرد له وسائل الإعلام وتطبل.

وبناءً على هذا التعديل وطبقاً له، سيجعل فرعون الطاغية المستبد، طبقة السحرة الذين قدموا له أفضل الخدمات في أصعب الأوقات وأشد الأزمات خطورة في منزلة أعلى ومكانة أسمى مما كانوا عليها من قبل، أكثر تبجيلاً وتكريماً وتمجيداً في مجلسه، وتقدم لهم التحيات الخاصة تقديراً لخدماتهم الجليلة للنظام والدولة والملك، وسيمنحون المناصب الكبيرة الاستشارية والتنفيذية ويتمتعون بالامتيازات الضخمة والصلاحيات الواسعة، ويلعبون أدواراً أكثر أهمية في صناعة القرارات، ونحو ذلك، رغم أن السحرة كانوا من قبل يحتلون مراكز مهمة ودرجات رفيعة ويشغلون وظائف دينية وسياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية في غاية الأهمية والحساسية، وكانوا يحظون بثقة الملك ويعتمد عليهم كثيراً، ويتمتعون بامتيازات ضخمة وامتيازات واسعة مستمدة من الحياة الكهنوتية، وكانت أعمالهم في السحر ذات تأثيرات كبيرة واسعة، ويقدمون خدمات جليلة للنظام الذي تمتزج فيه السياسة بالدين، وقد طغت موجة السحر على الحياة المصرية في عهد الفراعنة، وكانت مصر مهداً للمعارف السرية والأعمال الخفية الخارقة للعادة، وكانت الروزنامة الفرعونية تنطوي على أيام فأل وأيام شؤم، والأدوية الطبية في الثقافة الفرعونية تشفي المرض في بعض الشهور وتبقى بدون جدوى في شهور أخرى، وذلك وفق تقديرات السحرة والكهنة والمنجمين، وترافق الأدوية عند الاستعمال الرقي والتعويذات التي يقدمها الكهنة والسحرة، ويحرص الناس الذين كانوا يتمتعون بحس ديني رفيع على أن يحملوا التمائم والرقي والعوذ من أنواع ولأغراض عديدة، تتعلق بالصحة والحفظ والبركة ونحوها، ومع ذلك وعد فرعون السحرة بأن يمنحهم المزيد، فهو يتمتع بسلطات مطلقة، وكل الأمور في يده وتتوقف عليه.

الجدير بالذكر والتنبيه: أن مثل هذه الأعمال والطقوس، موجودة من حيث الشكل في التراث الإسلامي الشرعي على نطاق واسع لدى جميع الفرق الإسلامية، و أن كون الأدوية تشفي المرضى في بعض الشهور دون بعض، ربما يعود لأسباب طبيعية تتعلق بطبيعة الدواء وتركيبه، وبطبيعة المناخ وخصائصه، لإحداث التفاعل المطلوب، واستعمال العوذ والرقي للصحة والحفظ والبركة ونحوها، يمكن تفسيرها بتوظيف الأسباب النفسية والروحية في ذلك، فالأساس غير الأساس في الحالتين الفرعونية والوثنية والإسلامية التي تقوم على التوحيد والإيمان بعالم الغيب والشهادة.

ويعدُّ إجراء فرعون الطاغية للتعديلات على النظام الطبقي الوراثي والنظام الإداري والبرتكولي في الديوان الملكي لصالح السحرة، مكافأةً معنوية وعطاءً نوعياً وتكريماً خاصاً منقطع النظير للسحرة، وهو في الواقع وبالطبع، أعظم و أعلى و أسمى و أكثر أهمية من المكافأة المادية، المال والثروة والمنصب المجرد، مهما كانت المكافأة المادية ضخمة وسخية؛ لأن المكافأة المادية آنية أو مؤقتة، تزول وتذهب نتائجها وآثارها مع الوقت، على خلاف التعديل في الميزان الطبقي لصالح السحرة ورفع درجتهم ومنزلتهم ومكانتهم وتقريبهم من ساحة عظمة الملك والزلفى لديه، وما يصاحب ذلك من مزيد الاحترام والتقدير والتكريم والتبجيل، فإنها مكافأة معنوية باقية دائمة لا تذهب ولا تزول مع الوقت، وستعود عليهم بمردودات مادية ومعنوية كبيرة، وبامتيازات ضخمة وصلاحيات واسعة وخدمات ومكاسب لا تقدر بثمن وتصبح بذاتها منشأً دائماً للحصول على الأموال الكثيرة والثروات الضخمة.

ويعدُّ أيضاً إعطاء فرعون الطاغية هذه المكافأة الخاصة النوعية ذات المردودات المادية والمعنوية الضخمة وغير المحدودة في هذا الوقت بالذات وفي هذا المأزق الكبير، دليل واضح وصريح ولا لبس فيه ولا غموض، على شعوره العميق بالعجز الكبير أمام معجزة موسى الكليم (عليه السلام)، وإدراكه للخطر الوجودي على نظامه ودولته وملكه وشخصه من جهة موسى الكليم (عليه السلام) ورسالته ومطالبه الإصلاحية الدينية والسياسية والحقوقية وحركته التحررية، والأهمية الكبيرة للمهمة الإنقاذية التي يقوم بها السحرة ونتائجها التاريخية المصيرية الفاصلة وأبعادها وانعكاساتها الخطيرة على النظام والدولة والمجتمع والملك، مما يسبب فقره وضعفه وحاجته الوجودية إلى غيره؛ لقيام ودوام نظامه ودولته وملكه، مما يعني أنه بشر كسائر البشر، وليس بإله أو رب حقيقي.

كما أن فرعون الطاغية قدم كل هذا العطاء السخي جداً إلى السحرة، لكي يغريهم ويحثهم ويحرضهم أكثر على المزيد من الاجتهاد وبذل أقصى الوسع والطاقة، وتوظيف كافة علومهم وقدراتهم ومواهبهم الظاهرة والكامنة، وإخراج أفضل ما عندهم من أجل إلحاق الهزيمة لموسى الكليم (عليه السلام) والانتصار عليه. فهو يتعامل مع السحرة بمثابة المنقذين الحقيقيين له ولنظامه ودولته وحكومته، وهو يعلم علم اليقين وبوضوح تام بالتبعات الخطرة جداً والكلفة الضخمة الباهظة للخيارات الأخرى: الأمنية والعسكرية في حال فشل خيار المبارزة السلمي، وذلك بسبب ما يتمتع به من خبرة ودهاء كشفت عنها التجارب والمواقف.


المصادر والمراجع

  • [1]. الأعراف: 113
  • [2]. التفسير المبين، محمد جواد مغنية، صفحة 210
  • [3]. الأعراف: 114
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الأول | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟