التعريف بإسرائيل وبني إسرائيل
إسرائيل: لقب أطلق على نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وأمه رفقة بنت بتوئيل بن ناحور بن الأرامي، وهي ابنة أخ إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وجدته أم أبيه سارة بنت لاحج التي بشرتها الملائكة بأبيه إسحاق وبه من بعد أبيه، قول الله تعالى: <ولَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ 69 فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ 70 وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ 71 قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ 72 قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ>[1] أي: جاءت رسل الله تبارك وتعالى من الملائكة الذين أمروا بتدمير مدن قوم لوط وقراهم، وقيل هم: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وكروبيل، إلى نبي الله إبراهيم الخليل محطم الأصنام (عليه السلام) وكانوا في صور الغلمان من الآدميين، وقيل: كان عددهم تسعة، وقيل: أحد عشر، وقيل: ثلاثة بدون كروبيل، فحيوا إبراهيم الخليل (عليه السلام) بأحسن تحية، ورد عليهم التحية بأحسن منها، وكانوا على هيئة في غاية الحسن والجمال والهيبة والوقار، فقال: لا يخدم هؤلاء إلا أنا بنفسي، وهو من أخلاق المؤمنين الصالحين، وكان إبراهيم الخليل (عليه السلام) كريماً صاحب ضيافة يحب الضيوف ويقوم على خدمتهم بنفسه، ويكنى بأبا الضيفان، فبالغ في إكرامهم ظنّاً منه أنهم ضيوف من البشر، وأسرع في القيام بواجب الضيافة، وما أبطأ حتى هيأ وجاء لهم بعجل ذكي مشوي نضيج يقطر دسمه، فقال: كلوا، قالوا: لا نأكل حتى تخبرنا ما ثمنه؟ فقال: إذا أكلتم، فقولوا: بسم الله، وإذا فرغتم، فقولوا: الحمد لله، فالتفت جبرائيل إلى أصحابه وكان رئيسهم، فقال: حق لله أن يتخذ هذا خليلاً.[2] وفي عمل إبراهيم الخليل (عليه السلام) دليل على استحباب أن يعجل المضيف للضيف بالطعام، خاصة إذا كان الضيف مسافراً فإنه غالباً ما يكون متعباً وجائعاً وبحاجة إلى الطعام، فينبغي أن يقدم إليه الطعام عاجلاً، ليخلد بعده إلى الراحة.
إلا أن إبراهيم الخليل (عليه السلام) رأى أن الضيوف لا يمدون أيديهم إلى الطعام، فنكرهم؛ لأن الإحجام عن الطعام فعل جديد وغير معهود بالنسبة إليه وهو إمارة عداوة وإضمار الشر، أو لأنه أدرك بأنهم ليسوا من البشر ولم يعرف حقيقتهم ولا يعلم ما يريدون، فاستشعر في نفسه بشيء من الخوف، وصارحهم بذلك، فقال: <إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ>[3] وقيل: خاف أن يكونوا نزلوا لأمر أنكره الله (عز وجل) من قومه.
وقد عُرِف إبراهيم الخليل محطم الأصنام (عليه السلام) بالشجاعة والإقدام، فقد كسر الأصنام التي يعبدها قومه، وحاج نمرود الجبار، ولم يرتع أمام هول النار الموقدة لإحراقه بها، وعليه: فإن هو خاف من شيء، فإنما يخافه خوف حزم لا خوف جُبن وهلع، وهذا يدل على أن ما اعتراه من الخوف بشأن ما رآه من الضيوف، هو خوف طبيعي وليس بمذموم. فالخوف تأثر نفساني يعرض للإنسان بسبب تصور شر قريب الوقوع، أو توقع محذور من إمارة مظنونة أو معلومة، فيبعث النفس على التحرر والمبادرة إلى دفع الشر أو المحذور الدنيوي أو الأخروي، وقد فطر عليه الإنسان ليدفع به الشر والضرر الدنيوي والأخروي عن نفسه، كما فطر على الشوق والسرور لمشاهدة المحبوب ليجلب به الخير والنفع إلى نفسه في الدارين الدنيا والآخرة، ويحصل للإنسان إذا فاجأه أمر لا يعرف عواقبه، فهو ليس من الرذائل، ولا يخالف مقام النبوة والرسالة والإمامة والعصمة، وإنما الرذيلة: الخوف الذي يستوجب ظهور الفزع وبطلان الرأي والمقاومة والذهول عن التدبير ويستتبع الغي والانهزام وهو المعروف بالجبن، وكذلك الخوف المرضي من أشياء لا تبعث بطبيعتها على الخوف، مثل: الخوف من الظلام، أو من المكان المرتفع، أو من الحيوان الأليف، أو نحو ذلك.
ولما اطّلع الملائكة (عليهم السلام) على ما في نفس إبراهيم الخليل محطم الأصنام (عليه السلام) من الخوف، بادروا إلى دفع ما وقع في نفسه الزكية الطاهرة، فقالوا: <لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلىٰ قَوْمِ لُوطٍ>[4] أي: لنهلكهم بسبب ما دأبوا عليه من الفسوق والعصيان وجرائم ورذيلة اللواط التي لوثوا بها البشرية، ولم ينفع معهم نصح ووعظ وإرشادات نبيهم الكريم لوط (عليه السلام) وأخبروه بأنهم لا يريدون به ولا بقومه سوء، فعلم أنهم من الملائكة الكرام المنزهين عن لوازم البدن المادية، مثل: الطعام والشراب ونحوهما، وأنهم يرسلون لخطب جليل. ولما علم أنهم من الملائكة وماذا يريدون بشّروه بولادة إسحاق، ومن بعده بعقوب (عليه السلام) وقيل: البشرى كانت بهلاك قوم لوط لأنه كان مستاء جداً مما هم عليه من الفسوق والعصيان والتلوث برذيلة اللواط وكانوا من أفجر الناس وأكذبهم وأسوأهم طويةً وسلوكاً، وبولادة إسحاق ويعقوب (عليهم السلام).
وكانت زوجته سارة وهي ابنة عمه، وقيل: ابنة خالته، هناك قائمة بجوار إبراهيم الخليل (عليه السلام) وضيوفه الكرام تخدمهم. فلما علمت أنهم من الملائكة وعلمت ماذا يريدون وسمعت منهم البشارة بالولد والحفيد، ضحكت فرحاً وسروراً لزوال الخيفة وأن لا شر سيتوجه إليهم، ولهلاك قوم لوط الملوثين بالعصيان والآثام ولكثرة فسوقهم وفسادهم وإجرامهم وما دأبوا عليه من الجنايات والخبائث، ولما سمعت منهم من البشارة بالولد والحفيد، وقيل: لأن أضيافها لم يأكلوا من طعامها الذي أعدته لهم وقامت بنفسها على خدمتهم.
وقيل في معنى ضحكت: جاءها الحيض (العادة الشهرية النسائية) وكانت عجوزاً عقيماً قد يئست من الحيض منذ سنين عديدة، ولم يخطر ببالها أنها ستحيض وهي عجوز، ففاجأها أنها حاضت، والحيض هو الحدث المناسب الذي يقرب البشرى بالولد التي جاءت بها الملائكة لإبراهيم الخليل (عليه السلام) من عند الله رب العالمين إلى القبول بها، وآية باهرة تهيء نفس سارة وعقلها للإذعان بصدقها، لأن الحيض يدل على إمكان الإنجاب، فأكدت الملائكة البشرى لسارة: بأنها ستلد لإبراهيم الخليل (عليه السلام) ولدًا هو إسحاق (عليه السلام) وأن إسحاق (عليه السلام) سيولد له ولد اسمه يعقوب (إسرائيل) أي: بشرت الملائكة الكرام إبراهيم الخليل (عليه السلام) وزوجته سارة بالولد إسحاق وبالحفيد يعقوب (عليه السلام) وأن كلاهما سيكون نبياً رسولاً من الله تبارك وتعالى إلى الناس وفي العبارة دلالة على أن ولد الولد(الحفيد) ولداً، وقيل: سمي يعقوب؛ لأنه يعقب بحسب هذه البشارة أبيه إسحاق.
وكانت البشارة لإبراهيم الخليل (عليه السلام) وزوجته سارة من الملائكة الكرام (عليه السلام) بإسحاق ويعقوب (عليهما السلام) بعد ولادة إسماعيل الذبيح (عليه السلام) من زوجة إبراهيم الخليل (عليه السلام) هاجر بخمس سنين، وقيل: بأربع عشرة سنة. وكان عمر سارة في ذلك الحين تسع وتسعين (99) سنة، وقيل: ثمانية وسبعون (78) سنة، وقيل: تسع وثمانون (89) سنة، وعمر زوجها إبراهيم الخليل (عليه السلام) مائة (100) سنة، وقيل: مائة واثنا عشر (112) سنة، وقيل: مائة وعشرون (120) سنة، فتعجبت سارة من أن تلد وهي عجوز عقيم، وزوجها شيخ هرم، أي: أن يولد ولد من هرمين بالغين في الكبر، فإنه خارق للعادة ولم يعهد بين الناس مثله في الاستيلاد، فهو أمر عجيب بحق، وكانت بذلك الحال آيسة من الولد بشدة، وقيل: أنها لم تتعجب من قدرة الله سبحانه وتعالى، فهي تعلم أنه على كل شيء قدير، ولكنها أرادت أن تعرف: هل تتحول شابة، أم تلد على تلك الحال؟ فهو استعجاب بحسب العادة وليس بحسب القدرة الإلهية. فقالت: <يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ>[5] وذلك: لأنه غير مألوف ولم يعهد مثله بين الناس وربما حملهم على الضحك والاستهزاء!! فقالت لها الملائكة فوراً بإرادة إزالة التعجب عنها، فذكّروها بقدرة الله (عز وجل) وأفعاله الخارقة للعادة، وبنعمه العظيمة عليهم أهل البيت، فقالوا: <أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ>[6] استفهام إنكاري، أنكرت الملائكة فيه تعجب سارة من البشارة بالولد والحفيد؛ لأن التعجب إنما يكون للجهل بالسبب واستغراب الأمر، والأمر المنسوب إلى الله سبحانه وتعالى وهو الذي يفعل ما يشاء وهو على كل شيء قدير، لا وجه للتعجب منه، والمعنى: أتعجبين من قدرة الله سبحانه وتعالى أن يعطيكما ولداً وأنتما هرمان بالغان في الكبر؟ ألم تعلمي أن قدرة الله (عز وجل) قدرة مطلقة، وهو يفعل ما يشاء وهو على كل شيء قدير، فلا يمتنع عليه شيء من الممكنات العقلية مهما كانت غير مألوفة أو غير معتادة بين الناس، فمشيئته نافذة وأمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون من غير مخالفة أو منازعة. وهو مصدر كل نعمة على العباد، وكل خير وكل رفعة وكل فعل محمود يستحق به الحمد من عباده. وهو منشأ كل وجود وكرم وكثير الإحسان إلى عباده، يفيض من رحمته وبركاته على من يشاء من عباده بلا حدود وبدون استحقاق تفضلاً منه ورحمة. وأن رحمته وإحسانه وبركاته دائمة عليكم أهل البيت بلا انقطاع، وذلك بسبب النبوة والرسالة والإمامة والولاية والأعمال الصالحة، وقد خصّكم من نعمه وإحسانه ومواهبه العالية بالشيء العظيم الذي تنفردون به من بين الناس جميعاً، مثل: نجاة إبراهيم (عليه السلام) من النار بعد أن أُلقي فيها، فقال الله تعالى: <يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ>[7] وانتصاره على نمرود الجبار وجماعة المشركين وهو وحيد، وإلهامه البصيرة والاستقامة على الدين الحق والصراط المستقيم، ونحو ذلك.
وعليه: فلا عجب إن أضاف إلى ما مضى من نعمه العظيمة النازلة عليكم، نعمة عظيمة جديدة، يختصكم بها بين الناس، وهي ما بشرناك به، بأن يرزقكم الله تبارك وتعالى ويمن عليكم بإسحاق ومن بعده يعقوب (عليه السلام) وأنتما في هذا العمر المتقدم جداً الذي لا يولد في مثله ولد عادة، فهذه واحدة كأخواتها من النعم العظيمة التي أنعم الله تبارك وتعالى وامتن وأكرمكم بها يا أهل بيت النبوة والرسالة والإمامة والولاية والعصمة، فليس هذا هو مكان عجب، بل هو مكان شكر وحمد.
وقد أضافت الملائكة الأمر إلى الله سبحانه وتعالى لينقطع بذلك مورد كل استعجاب واستغراب؛ لأن ساحة الرب الجليل الحق، لا يشق ولا يمتنع عليها شيء من الممكنات العقلية. وذكّروا سارة الصالحة بأن الله تبارك وتعالى أنزل رحمته وبركاته عليهم أهل البيت دائماً بدون انقطاع، فليس من البعيد أن ينعم عليهم ويكرمهم بمولود من والدين هرمين بالغين في الكبر لا يعهد من مثلهما الاستيلاد عادة. وفي الحديث النبوي الشريف: «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد»[8].
ويحسن بنا الإشارة إلى مسألتين:
أ. فضيلة الضيافة: تكشف استضافة إبراهيم الخليل (عليه السلام) للملائكة الكرام (عليه السلام) عن فضيلة الضيافة، وكان إبراهيم الخليل يُكنى: أبا الضيفان. والضيافة من أحب الأعمال إلى الله تبارك وتعالى، وفضلها عظيم عنده، وثمرها جسيم، وبركاتها سريعة، وثوابها جزيل، فلا يدري أحد من الخلق ما لصاحب الضيافة من الأجر لا ملك ولا رسول إلا رب العالمين، وفي الحديث النبوي الشريف: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه»[9] فإكرام الضيف من الإيمان، وهي دليل على سمو النفس لما فيها من السخاء، وتعزز المحبة بين الناس، وترفع قيمة الإنسانية وترسخها في مقابل المصلحة والقيم المادية، حيث يكرم الإنسان ضيفه ويحسن إليه لإنسانيته أو لأنه أخوه في الإنسانية، مما يعود على صاحب الضيافة والمجتمع والمسيرة الإنسانية بالخير العظيم، وفي الحديث النبوي الشريف: «الضيف دليل الجنة»[10] وينبغي أن يقصد صاحب الضيافة من الضيافة التقرب إلى الله ذي الجلال والإكرام، والتسنن بسنة الأنبياء الكرام (عليه السلام) وإدخال السرور على قلب الضيف، وعليه أن يحرص تمام الحرص على السعي في إكرام الضيف ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فيظهر له طلاقة الوجه، وطيب الكلام، والتواضع وترك التكبر، والخروج معه إلى باب الدار، ونحو ذلك من مظاهر التكريم والاحترام والتقدير، وذلك لكي تؤتي الضيافة أكلها في الدارين الدنيا والآخرة. وينبغي لصاحب الضيافة أن يحذر حذراً شديداً من قصد الرياء والسمعة والمفاخرة والمباهاة، ومن الإساءة إلى الضيف بأي نحو كان، ونحو ذلك من الرذائل، لكي لا يضيع الأجر وتنعكس الآية، وفي الحديث النبوي الشريف: «ما من صاحب يصحب صاحباً ولو ساعة من نهار، إلا وسئل عن صحبته: هل أقام فيه حق الله تعالى أو أضاعه»[11].
ب. تعتبر عقوبة الهلاك والاستئصال لقوم لوط، دليل على مدى استهجان وفحش هذه الرذيلة عند ساحة القدس الإلهي، فهي من أقبح الأعمال وأحطها، وأشنع الفواحش والانحرافات وأخطرها، ووجودها في شخص، دليل على مرض نفسي وانحراف المزاج وفساد الطبع والخروج عن الفطرة، إلى درجة يفقد من كانت فيه توازنه وإرادته ويحس بالغربة عن نفسه ومجتمعه، وينحدر إلى درك الحيوانية والبهيمة، وهي رذيلة تعف عنها الحيوانات إلا أربعة أنواع: الإنسان والقرد والخنزير والقط، والإنسان الذي يمارسها أكثر الأربعة انحطاطاً وهذا شقاء عظيم. وهذه الرذيلة تقضي على نظام الأسرة، وتعطل النسل، وتخلق الأرضية النفسية لانحرافات أخرى، وتشكل خطراً جسيماً على تماسك المجتمع الإنساني وسلامته. وقد ذمها القرآن الكريم في مواضع عديدة، وعدها بمثابة الكفر، وجعل عقوبة مرتكبها القتل، وتعتبر عقوبة قوم لوط وعيداً من الله (عز وجل) لمن يرتكبها بالعذاب الشديد في الدارين الدنيا والآخرة، وقد حذر القرآن الكريم جميع الشعوب والأمم من العاقبة السيئة المذمومة لكل من يسقط في مستنقع هذه الرذيلة والجريمة الشنيعة، بأن يصيبهم مثل ما أصاب قوم لوط من العقاب الإلهي الشديد، وهو الهلاك أو الاستئصال، قول الله تعالى:<فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ 82 مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ ۖ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ>[12] وعليه: يجب على كل مرتكب لهذه الرذيلة الإقلاع عنها فوراً وبدون تأخير، حتى لو تطلب أمر الإقلاع عنها الاستعانة بالطبيب النفسي أو الجسمي أو غيرهما. ومن المؤسف جداً أن بعض الدول أخذت في الوقت الحاضر في شرعنة هذه الرذيلة تحت عنوان الحرية الشخصية وحقوق الإنسان، وهي غريبة تماماً عن حقيقة هذه العناوين، مما يدل بحق على انحراف المزاج وفساد الطبع والفطرة وضلال المعايير.
– إسرائيل: لقب اُطلق على نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن (عليه السلام) قيل: إنه مركب من لفظين: إسرا بمعنى عبد، أو صفوة، أو إنسان، أو مهاجر، أو محارب، أو مجاهد، وإيل، بمعنى: الله، فيكون معنى إسرائيل: عبد الله، أو صفوة الله، أو المهاجر إلى الله، أو المجاهد إلى الله، أو المحارب مع الله، ويكنى بإسرائيل الله بمعنى خالصه.
أمه: رفقة بنت بتوئيل بن ناحور الأرامي، وهي ابنة أخ إبراهيم الخليل (عليه السلام) وجدته أم أبيه: سارة بنت لاحج التي بشرتها الملائكة.
عاش في أوائل القرن الثامن عشر (18) قبل الميلاد مع أبيه إسحاق (عليه السلام) في فلسطين وقد طلبت منه أمه رفقة بنت بتوئيل أن يذهب إلى خاله لابان بأرض حاران في العراق، وأن يتزوج من بناته. وطلبت من زوجها إسحاق (عليه السلام) أن يأمره بذلك ففعل. فخرج يعقوب (عليه السلام) إلى أرض حاران في العراق، وأقام عند خاله لابان يخدمه وطلب منه أن يزوجه بابنته ليثه أو ليا، فزوجه إياها وأنجبت له ستة أبناء، ثم توفيت فزوجه خاله ابنته الأخرى راحيل، فأنجبت له ابنين. وكان لابان قد وهب لكل واحدة من ابنتيه جارية، فوهب لليثه جارية اسمها زلفه، ووهب لراحيل جارية اسمها بلهة، وقد وهبت كل واحدة منهما جاريتها إلى يعقوب (عليه السلام) فصارت له أربع زوجات، رزق منهن باثني عشر ولداً، كالتالي:
أ. من زوجته ليثه، رزق: رأوبين، وشمعون، ولاوي، ويهودا، ويساكر، وزبولون.
ب. من زوجته راحيل، رزق: يوسف، بنيامين.
ج. من زوجته بلهة، رزق: دان، ونفتال.
د. من زوجته زلفة، رزق: جاد، واشير.
وبعد عشرين سنة قضاها عند خاله بأرض حاران في العراق، عاد إلى أهله في فلسطين، وأقام فيها مع أبيه إسحاق (عليه السلام) في بلدة جبران التي تسمى في الوقت الحاضر الخليل. ثم هاجر من فلسطين مع جميع أهله (بني إسرائيل) إلى مصر في عهد حكومة ابنه يوسف الصديق (عليه السلام) ومات في مصر عن عمر يناهز مائة وأربعين (140) سنة، ودفن فيها.
وقد نص القرآن الكريم على نبوة يعقوب (إسرائيل) (عليه السلام) في مواضع عديدة، منها: قول الله تعالى: <قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ>[13] وقول الله تعالى: <إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا>[14] وقد أثنى الله تبارك وتعالى عليه وعلى أبيه إسحاق وجده إبراهيم الخليل (عليه السلام) في مواضع عديدة من القرآن الكريم، منها قول الله تعالى: <وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ 45 إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ 46 وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ>[15] وقد وصفهم بالقوة في طاعة الله ذي الجلال والإكرام وعبادته سبحانه وتعالى وإيصال الخير والنفع المادي والمعنوي إلى الناس، والبصيرة النافذة في دين الله الحق وقضايا الحياة وشؤون الأفراد والمجتمعات وسلوك سبيل العبودية إلى الله ذي الجلال والإكرام، أي: وصفهم بالعلم النافع والعمل الصالح بمقتضى العمل النافع، والخلق الكريم والاستقامة على الصراط و النهج القويم، والزهد في الحياة الدنيا والتخلص من الجمود على ظاهر الحياة الدنيا وزينتها وزخرفها، والجهاد في سبيل الله (عز وجل) بالنفس والمال والنفيس .. وهذه من صفات الكمال الجوهرية التي ينبغي للمؤمن الصالح الواعي الصادق في إيمانه أن يتحلى بها.
وأن الله تبارك وتعالى قد استخلصهم واصطفاهم للنبوة والرسالة والولاية والإمامة، بسبب فنائهم في الله ذي الجلال والإكرام، واستغراقهم في ذكر الآخرة، وركوز همتهم فيها دائماً، والاستعداد والتأهب التام لها بالإتيان بالأعمال الصالحة وإيصال الخير والنفع المادي والمعنوي إلى الناس وقضاء حوائجهم والقيام بخدمتهم، وإيثار الله ذي الجلال والإكرام والآخرة على كل شيء، وتذكير الناس بهما والعمل من أجلهما، للفوز برضوان الله ذي الجلال والإكرام وجواره ونعيم الله تبارك وتعالى الأبدي في الآخرة، مما يدل على التأثير البالغ لتذكر الله ذي الجلال والإكرام والآخرة في تطهير النفس وتزكيتها، والخضوع التام لأمر الله (جل جلاله) ونهيه، والسعي لتحصيل كمال المعرفة به، والإتيان بالأعمال الصالحة والنفع المادي والمعنوي إلى الناس، والارتقاء في مدارج الكمال الإنساني.
المصادر والمراجع
- [1]. هود: 69-73
- [2]. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، جزء ٦٣، صفحة ٣٦٨
- [3]. الحجر: 52
- [4]. هود: 70
- [5]. هود: 72
- [6]. هود: 73
- [7]. الأنبياء: 69
- [8]. كنز العمال، جزء 2، صفحة 176
- [9]. جامع السعادات، محمد مهدي النراقي، جزء 2، صفحة 116
- [10]. نفس المصدر، صفحة 117
- [11]. المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني، جزء 3، صفحة 328
- [12]. هود: 82-83
- [13]. آل عمران: 84
- [14]. النساء: 163
- [15]. ص: 45-47
تعليق واحد