التعريف بهارون: التيه في الصحراء ووفاة هارون (ع)
أمر الله (جل جلاله) نبيه الكريم موسى الكليم (عليه السلام) أن يخرج ببني إسرائيل من مصر، ويذهب معهم إلى الأرض المقدسة، أرض المعاد فلسطين المباركة، وكان عدد بني إسرائيل آنذاك حوالي ستمائة ألف إنسان، وذلك للإقامة فيها واتخاذها وطناً دائماً لهم، كما كانت لجدهم إسرائيل، وهو: يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل (عليه السلام) قبل هجرته منها إلى مصر في عهد حكومة ابنه يوسف الصديق (عليه السلام) قبل أربعمائة عام تقريباً، فامتثل موسى الكليم (عليه السلام) أمر ربه (جل جلاله)، وخرج ببني إسرائيل متوجهاً إلى الأرض المقدسة فلسطين، وقبل أن يدخلها أرسل رواداً من بني إسرائيل للاستطلاع عنها وعن أحوال أهلها وما هم عليه، فرجعوا إليه وأخبروه: بأن أهلها قوم من العمالقة الكنعانيين الجبارين الأشداء، وأن مدنها حصينة ومنيعة. فلما عرف بنو إسرائيل ذلك، ارتاعوا وتمردوا على أمر قائدهم وإمامهم موسى الكليم (عليه السلام) وهو أمر الله (جل جلاله) لهم بالدخول، وقالوا: إن في هذه الأرض عمالقة جبارين، شديدي القوة والبطش ولا طاقة لنا بمواجهتهم، فلن ندخلها ما داموا فيها، ولم ينفع معهم نصح وتشجيع المؤمنين المخلصين الشجعان، وأصرّوا على موقفهم، وقالوا بحماقة واستهتار واستهانة بالله (جل جلاله) وبمقام النبوة والرسالة وعلى خلاف العقل والمنطق والسنن الإلهية الحاكمة في الحياة وتدبير المسيرة التاريخية للإنسان: <فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ>[1] فشكى موسى الكليم (عليه السلام) أمرهم إلى الله (جل جلاله) قائلاً: ليس لي ولا لأخي ووزيري هارون (عليه السلام) سلطان على هؤلاء الجبناء الفاسقين العاصين، وليس لنا حيلةً أو سبيلاً لإقناعهم بالدخول إلى الأرض المقدسة ما دام العمالقة فيها فاقض بيننا وبينهم بالحق وأنت أحكم الحاكمين. فأخبره الله (جل جلاله): بأن دخولهم إلى الأرض المقدسة كلمة مقضية وحتمية الحدوث إلا أنها مشروطة بالصبر على الطاعة والصبر عن المعصية، ولأنهم عصوا أمر الله سبحانه وتعالى وأمر رسوله الكريم (عليه السلام) بأن الأرض المقدسة محرمة عليهم، وسيتيهون في صحراء سيناء والنقب لمدة أربعين سنة عقوبة لهم على معصيتهم، قبل أن يوفقوا إلى دخولها بعد التوبة وقبول الله تبارك وتعالى توبتهم ورضاه عنهم. وطمأن الله تبارك وتعالى نبيه الكريم موسى الكليم (عليه السلام) وقال له: لا تحزن على هؤلاء القوم الفاسقين العاصين للتكليف الشرعي الإلهي إليهم، من نزول هذه النقمة الإلهية عليهم؛ لأنهم فاسقون يستحقون بمعصيتهم لله (عز وجل) ولرسوله الكريم (عليه السلام) هذه العقوبة ولا ينبغي الحزن عليهم إذا أذيقوا وبال أمرهم، قول الله تعالى: <يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرض الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ 21 قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ 22 قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 23 قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ 24 قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ 25 قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الأرض فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ>[2] أي: قال موسى الكليم (عليه السلام) لبني إسرائيل بعد خروجهم من مصر: يا قومي!! ادخلوا الأرض المقدسة التي هي أرض فلسطين والشام كلها، المطهرة من الشرك والمباركة بكثرة خيراتها المادية والمعنوية والفيوضات الإلهية على أهلها، وكانت مستقراً للكثير من الأنبياء الكرام (عليهم السلام) ومهبطاً للوحي والتنزيل، ومحلاً لظهور الأديان السماوية، ومركزاً للتوحيد ونشر التعاليم والمعارف الإلهية الحقة ونحو ذلك، لفترات طوال من التاريخ، مما يجعل القتال وبذل التضحيات الجسيمة من أجل الدخول إليها أمراً راجحاً بحكم العقل والمصلحة والدين، وقد كتب الله (جل جلاله) في اللوح المحفوظ وقدّر وقسم لكم هذا الدخول والانتصار على عدوكم، لتسكنوا الأرض المقدسة وتعيشوا فيها في رغد ورخاء ورفاه، وتحكموها مطمئنين آمنين إن آمنتم وأطعتم وعملتم بتعاليم الأنبياء الكرام (عليهم السلام) لكم، فادخلوها ولا ترجعوا مدبرين خوفاً من قتال العمالقة الظالمين، أو ركوناً إلى الراحة والدعة والكسل، وعدم الرغبة الصادقة في الجهاد والتضحية في سبيل الله (عز وجل) والحرية والكرامة، فتنقلبوا بهذا القعود والتراجع مرتدين عن الدين الحق الحنيف، لمخالفتكم أمر ربكم (جل جلاله) وعصيان أمري وترك طاعتي وما أوجبته عليكم من فرض قتال الجبارين الظالمين، فيكون بذلك مصيركم إلى الذل والخزي والعار والخسران المبين في الدارين الدنيا بما فاتكم من النصر على عدوكم والتنعم بخيرات الأرض المقدسة المادية والمعنوية، والآخرة بما فاتكم من الثواب الجزيل والرضوان الإلهي بما استحققتم من العقاب الإلهي المؤلم والشديد في نار جهنم، أي: أن الامتناع عن دخول الأرض المقدسة، فيه فسق ومعصية ورذيلة، وخسارة مادية ومعنوية في الدارين الدنيا والآخرة، وما سبق يدل على أمرين:
أ. أن الحتميات التاريخية والإلهية، وتحقيق الإنجازات الحضارية الفكرية والفنية والأدبية والتكنولوجية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية ونحوها، وتحقيق الانتصارات على الأعداء، لا تأتي أو لا تتحقق من تلقاء نفسها أو صدفة أو بإرادة إلهية بحتة، وإنما يشترط فيها العمل والجهاد وبذل الوسع، ومن ذلك، حتمية دخول بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة التي كتبها لهم وقسمها في اللوح المحفوظ، فإنه مشروط بالجهاد وبذل التضحيات من المال والأنفس، وأن التطلع إلى الإنجازات والانتصارات والتطور والتقدم في الحياة ونحو ذلك، بدون عناء وتخطيط وعمل وتضحيات، أمر مخالف لمنطق العقل والواقع، ومخالف للسنن الإلهية الحكيمة الحاكمة في الكون والإنسان والحياة والتاريخ.
ب. أن الارتداد عن الدين الإلهي الحق الحنيف، له معنيان: المعنى الأول الكفر بالدين بعد الإيمان به، والمعنى الثاني التخلي العملي عن التكليف الإلهي والمسؤولية الدينية في الحياة، مثل: التخلي عن فريضة الجهاد، وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تحت تأثير الكسل والرغبة في الراحة والدعة، أو تحت تأثير الخوف والطمع أو نحو ذلك. وأن عاقبة الارتداد بنوعيه الكفر بعد الإيمان، والتخلي عن التكليف عاقبة سيئة مذمومة في الدارين الدنيا والآخرة.
إلا أن بني إسرائيل العصاة الفاسقين واجهوا طلب نبيهم وإمامهم وقائدهم موسى الكليم (عليه السلام) إليهم بقتال العمالقة الجبارين ودخول الأرض المقدسة مواجهة الجبناء الضعفاء الحمقى سفهاء الأحلام الذين يتمنون أن تتحقق لهم الإنجازات والانتصارات العظيمة من تلقاء نفسها أو عن طريق الصدفة أو المعاجز الإلهية، في ظل الكسل والدعة والراحة، بدون أن يبذلوا جهداً حقيقياً يُذكر، وبدون أن يبذلوا ويقدموا التضحيات من أنفسهم وأموالهم، فخالفوا بذلك العقل والمنطق والفطرة والطبع السليم والسنن الإلهية الحاكمة في الكون والإنسان والحياة والتاريخ، وعصوا أمر ربهم لهم بالجهاد، وتمردوا على أمر قائدهم وإمامهم موسى الكليم (عليه السلام) الذي كُلِّفوا بطاعته واتباعه والاقتداء به والجهاد معه من أجل مجدهم وعزتهم وكرامتهم، وقد أمرهم بالجهاد وقتال العمالقة والدخول فاتحين إلى الأرض المقدسة، وعللوا عصيانهم وبرروه، بقولهم: <إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ>[3] وهم العمالقة الكنعانيون الذين يتمتعون بالقوة والسطوة ولهم أجسام ضخمة، ويجبرون الناس على ما يريدون ويخضعونهم لإرادتهم بالقوة والبطش والعنف والإرهاب وأنه ليس لهم من الطاقة والقوة والإمكانيات لمقاومتهم والانتصار عليهم.
وعليه: فهم لن يطيعوا نبيهم وإمامهم وقائدهم الذي أمرهم بقتال العمالقة والدخول إلى الأرض المقدسة فاتحين، وأوقفوا دخولهم إليها بخروج العمالقة الجبارين منها، بقولهم <فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُون>[4] أي: إن يخرجوا منها طائعين من تلقاء أنفسهم، أو يخرجهم الله (عز وجل) منها مجبورين بعقوبة منه لهم كما فعل بآل فرعون، فإن فعل ذلك بهم، فإنا حينئذٍ سندخلها فرحين مسرورين، ولنا الرغبة الشديدة في دخولها، لأنها الأرض المباركة المقدسة، وفيها الكثير من النعم والخيرات المادية والمعنوية والفيوضات الإلهية، وكانت وطناً لجدنا إسرائيل (يعقوب) (عليه السلام) قبل هجرته إلى مصر في عهد حكومة ابنه يوسف الصديق (عليه السلام) قبل أربعمائة عام تقريباً، وعليه فإن سبب امتناعهم عن دخول الأرض المقدسة هو الخوف الشديد والجبن وعدم الرغبة في بذل التضحيات الكبيرة والصغيرة من الأنفس والمال من أجل تحرير الأرض المقدسة وتطهيرها، وتحصيل الحياة الكريمة التي تتجسد فيها الحرية والكرامة، وإقامة حكومة العدل الإلهي، ونحو ذلك من الإنجازات العظيمة المشرفة، فهم يريدون نصراً مريحاً لا يكلفهم قتيلاً أو جريحاً أو مالاً وتحقيق إنجازات عظيمة بدون جهد أو عناء.
ولا شك إن هذا منطق أحمق وتصرف غير مسؤول ومخالف للسنن الإلهية الحكيمة الحاكمة في الكون والإنسان والحياة، وهو يدل على ضعف قلوبهم وإيمانهم وهممهم وخور نفوسهم وسخافة تفكيرهم وسطحيته، وانحطاط أخلاقهم، وعدم اهتمامهم بأمر الله (عز وجل) ونهيه، وأمر رسوله الكريم (عليه السلام) ونهيه، ولو كانوا أصحاب منطق متين، وفكر رشيد، وهمة عالية، لعلموا بأن القوي حقيقة وواقعاً هو كل من أعانه الله (عز وجل) بقوة من عنده، والضعيف حقيقة وواقعاً هو كل من خذله الله (عز وجل)، وأن لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأن لا مؤثر في الوجود بشكل مستقل إلا غيره، فكل تأثير ينتهي إليه وحده لا شريك له، ولا أحد غيره يملك لنفسه أو لغيره نفعاً أو ضراً أو موتاً أو نشوراً. ولأقبلوا على الجهاد بنفوسٍ راضيةٍ مطمئنة، وهم يعلمون بأنهم سينتصرون حتماً على عدوهم، ويدخلون الأرض المقدسة فاتحين؛ لأن الله (عز وجل) قد وعدهم بذلك وعداً خاصاً.
ويعتبر هذا العصيان والخذلان والقعود عن الجهاد في سبيل الله (عز وجل) من الآثار السلبية المدمرة التي تركها النظام الفرعوني الغاشم في نفوسهم، في ظل غياب الإرشاد والتوجيه الرباني والتربية الرسالية الفاعلة، حيث استولى الخوف والذعر العميق على نفوسهم، وفقدوا الاستعداد للنهوض والتطور والبحث عن الحياة الطيبة الكريمة التي تتجسد فيها الحرية والعزة والكرامة، وذلك بسبب ما تعرضوا له من الاضطهاد والقمع والإرهاب والإذلال من قبل النظام الفرعوني الغاشم، وهي عينها الآثار السلبية المدمرة التي تتركها الأنظمة الدكتاتورية والحكومات المستبدة الغاشمة في نفوس الشعوب المستضعفة، ما لم تقاوم بفكر واضح نيّر وثقافة نهضوية، وقيم ثورية تضحوية، مثل: قيم الحرية والشجاعة والإباء ونحوها.
وقد انبرى لمناصرة خيار الجهاد وقتال العمالقة رجلان رشيدان من خيرة المؤمنين الصالحين، وهما: يوشع بن نون، وكالب بن يوحنا. وهما ابنا عم موسى الكليم (عليه السلام) ومن نقباء بني إسرائيل الإثني عشر الذين بعثهم موسى الكليم (عليه السلام) ليتعرفوا على أحوال الأرض المقدسة وأهلها، ويتصفون بالرشد والبصيرة النافذة في مسائل الفكر والعقيدة والأخلاق، وقضايا الحياة العملية، والمعرفة بالسنن التاريخية، ولديهم خبرة عسكرية واسعة، وقد أنعم الله عليهم بالإيمان الصادق والولاية الإلهية الحقة والتقوى والخوف من معصية الله سبحانه وتعالى ومعصية الرسول الكريم (عليه السلام) والتثبت والشجاعة والشهامة والمقاومة والصبر واليقين بالنصر الإلهي والظفر على الأعداء مع الالتزام التام بالتكليف الشرعي، والتوفيق لكلمة الحق والصواب والفضيلة في هذا الموطن الحرج الحساس، والخوف على مستقبل بني إسرائيل، بأن يصيبهم الضعف والمذلة والهوان، ويتلوثوا بالخزي والعار، ويكونوا عرضة للهلاك والشقاء، في الدارين الدنيا والآخرة، بمعصيتهم لله (جل جلاله) ولرسوله الكريم (عليه السلام) وبتركهم للجهاد في سبيل الله (عز وجل). وهذا يدل على رحمتهما بقومهما وشفقتهما عليهم وحرصهما الشديد جداً على كمالهم ونجاتهم من الهلاك والشقاء وتحصيل السعادة الحقيقية في الدارين الدنيا والآخرة. والصفات المذكورة هي صفات القيادة الربانية الرشيدة، وكل من لا يتحلى بهذه الصفات، فهو ليس أهلاً للقيادة أصلاً.
وعليه: قام الرجلان خطيبين في بني إسرائيل، وأخذا يدافعان عن التكليف الشرعي بالجهاد وقتال العمالقة الجبارين وفتح الأرض المقدسة وتحريرها وتطهيرها، ويرشدان قومهما ويحثونهم على السمع والطاعة لله (جل جلاله) ولوليه الأعظم ورسوله الكريم موسى الكليم (عليه السلام) ويحفزونهم ويشجعونهم ويحرضونهم على الزحف إلى الأرض المقدسة ومباغتة الجبارين واقتحام بلادهم من بابها، يعني: الاقتحام المباغت لأول مدينة من مدن الجبابرة مما يلي بني إسرائيل، وقيل: هي أريحاء، ووعدوهم بالنصر الإلهي، لأن الله (عز وجل) كتب لهم النصر على الأعداء ودخول الأرض المقدسة وتحريرها من قبضتهم وتطهيرها من الشرك ولا راد لحكمه، وكذلك جزاءً لهم على طاعتهم الصادقة وإخلاص نيتهم في الجهاد، وثقتهم التامة بوعد الله الصادق لهم بالنصر والثواب الجزيل في الآخرة، ولأن العمالقة لهم أجسام ضخمة وقامات طويلة ولكنهم لا يمتلكون قوة الإيمان واليقين في قلوبهم، فلا ينبغي للمؤمنين الأقوياء في دينهم ويقينهم أن يخافوا منهم، قول الله تعالى: <قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُون>[5] أي: باغتوا القوم واغزوهم في عقر دراهم، فينكسروا أمامكم، ويذلوا لكم، فليس بينكم وبين النصر على عدوكم وفتح الأرض المقدسة وتحريرها وتطهيرها، إلا أن تباغتوا أعداءكم بالهجوم عليهم، بالدخول إلى أول قرية أو مدينة من بلادهم، التي هي بمثابة الباب والمدخل إلى بلادهم كلها، فإذا فعلتم ذلك فإنهم سينهزمون أمامكم وستنتصرون عليهم إن شاء الله تعالى، وتلعب المفاجأة دوراً مهماً جداً قد يكون حاسماً حتى في المقاومة الحديثة، وقيل: الرجلان كانا من العمالقة الجبارين، أسلما وأحسنا إسلامهم، فمعنى <مِنَ الَّذِينَ يَخَافُون> هو من الذين يخافهم بنو إسرائيل وهم العمالقة الجبارين، وكانت نصيحتهم لبني إسرائيل بمباغتة العمالقة كأسلوب ناجع، مبنية على خبرة عملية ومعرفة مباشرة بأخلاق وصفات العمالقة الداخلية أو النفسية.
وما سبق يدل على أن حتمية دخول الأرض المقدسة التي قسمها الله (عز وجل) وكتبها لهم في اللوح المحفوظ، حتمية مشروطة بالجهاد.
وقد أمر الرجلان المؤمنان الصالحان الرشيدان أن بني إسرائيل بالتوكل على الله (عز وجل) والثقة به وبوعده الصادق بنصرته لهم على أعدائهم العمالقة الجبارين، وبينا لهم ضرورة الاعتماد على الله (عز وجل) في كل خطوة يخطونها، والاستمداد في مواقفهم كلها من روح الإيمان الصادق، وبينا لهم كذلك أن التوكل على الله (عز وجل) والثقة به وبوعده الصادق، هو من صدق الإيمان، وطريق إلى النصر وتيسير الأمور كافة؛ لأن الله (عز وجل) كاف عبده الذي يتوكل عليه دائماً، وكل من يخرج عن التوكل والثقة بالله (عز وجل)، يخرج من الإيمان حقيقة وواقعاً ويضعف ويتيه، وبحسب صدق إيمان العبد ويقينه، يكون توكله على الله (عز وجل) وثقته به، قول الله تعالى على لسانهما: <وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين>[6] وفيه إشارة إلى أن الجهاد في سبيل الله (عز وجل) من مقتضيات الإيمان والتوكل والثقة بالله سبحانه وتعالى، وفيه تطييب لنفوس بني إسرائيل، وتشجيع لهم على الجهاد والتضحية في سبيل الله (عز وجل)، وتحذير من المعصية وخذلان الرسول الكريم (عليه السلام) وترك الجهاد ضعفًا أو كسلاً أو نحو ذلك.
إلا أن بني إسرائيل لم ينفع معهم الكلام والنصح والوعظ والملامة، فلم يستجيبوا لله سبحانه وتعالى، ولأمر إمامهم وقائدهم الرباني موسى الكليم (عليه السلام) وهو الناصح الصادق الأمين على الوحي وعلى مصالحهم وسعادتهم في الدارين الدنيا والآخرة، ولم يسمعوا النصح ووعظ وإرشادات الرجلين المؤمنين الصالحين الراشدين، يوشع وكالب، وتجاهلوها تماماً وأعرضوا عنهما إهانةً لهما وتحقيراً، وأصروا على ترك الجهاد وعدم بذل التضحية بالنفس والمال في سبيل الله (عز وجل) والحرية والعزة والكرامة والحياة الطيبة في الدارين الدنيا والآخرة، وأكدوا رفضهم القاطع لقتال الجبابرة والدخول إلى الأرض المقدسة ما دام العمالقة الجبارين فيها، وقالوا جبناً وضعفاً وإياساً لموسى الكليم (عليه السلام) من أن يصر على تكليفهم بالقتال ودخول الأرض المقدسة: <قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا>[7] هذا هو موقفنا الثابت الذي لن نتراجع عنه ولن نغيره، فلا تطل الحديث معنا، ولن نطيل الحديث معك، وفي التوراة في الباب الرابع من سفر الأعداد، أنهم قالوا: (ليتنا متنا جميعاً في أرض مصر أو في الفلاة، فلماذا جاء بنا الرب إلى هذه الأرض لكي نقتل بحد السيف، وتسبى عيالنا وأطفالنا بعدنا، بل ذهبوا إلى ما هو أخطر وأفظع من ذلك، فقالوا بوقاحة وصلافة وجهلاً بالله سبحانه وتعالى وبصفاته، واستهتاراً بمقام الألوهية والربوبية والنبوة والرسالة والولاية، وجرأة على الله (جل جلاله) الكريم، وإهانة لرسوله الكريم (عليه السلام) وازدراءً بمقامه العظيم وبما ذكَّرهم به من أمر ربهم سبحانه وتعالى: <فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ> أي: لن نبرح هذا المكان، لن نتقدم معك ولن نتأخر عن هذا الموضع.
وقيل: كانوا على جبل نبو المشرف على أرض فلسطين من الأراضي الأردنية، (فاذهب) أنت وربك الذي أوحى إليك بهذا الأمر الذي هو فوق طاقتنا ووسعنا، ووعدك بالنصر على الأعداء العمالقة، فقاتلا وحدكما هؤلاء الأعداء الجبارين الأشداء، فإنا لا طاقة لنا على قتالهم ومقاومتهم، فإن انتصرتما عليهم، أخبرونا لكي ندخل إلى الأرض المقدسة، ولكن لا رغبة لنا في دخولها والتنعم بخيراتها المادية والمعنوية، إذا كان دخولها والحصول على الملك والعز فيها والتنعم بخيراتها المادية والمعنوية، يتوقف على قتال أهلها العمالقة الجبارين وبذل التضحيات الكبيرة من الأنفس والأموال. وهذا القول منهم لنبيهم وقائدهم وإمامهم في هذا الموطن الحساس والحرج جداً، في الوقت الذي يدل على الوقاحة والصلافة والاستهانة بمقام الربوبية والنبوة والرسالة، فإنه يدل أيضاً على انحطاط أخلاقهم، وضعف شعورهم بالمسؤولية الدينية والأخلاقية والاجتماعية والتاريخية، وضعف منطقهم وسخافة تفكيرهم، ولو كان لديهم شعور عميق بالمسؤولية ومنطق سليم لقالوا لنبيهم الكريم وقائدهم المخلص الأمين: إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، من بين يديك ومن خلفك، وعن يمينك وعن شمالك، كما هو دأب المؤمنين الواعين الصادقين في إيمانهم والمناضلين الأحرار في الأمم قاطبة طوال التاريخ، يقول الشيخ محمد جواد مغنية في تعليقه على قولهم <اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ>[8]: «إنه ربهم إذا خدم مصالحهم الشخصية، ولم يكلفهم بما يزعجهم، وقتل أعداءهم .. وهم (قاعدون) سالمون آمنون، أما إذا انزعج خاطرهم بأدنى تكليف فهو رب موسى، وليس بربهم .. ومعنى هذا في واقعه أن أهواءهم وشهواتهم وحدها هي ربهم وإلههم الذي يستحق منهم العبادة والتقديس بحمده».[9] والحق أن هذه الظاهرة المأساوية البائسة المفجعة، لا تخص اليهود وحدهم، بل تشمل كل المنافقين والانتهازيين وضعفاء الإيمان في كل دين ومذهب سماوي ووضعي. وهو حال كل من تعلق بعالم الدنيا والمادة، على حساب عالم الروح والقيم الإنسانية.
وأمام هذا الموقف المتخاذل والمتخلف الصعب من بني إسرائيل، الذي يغيب عنه المنطق والقيم والشعور بالمسؤولية، ويدل على التعالي والغطرسة أيضاً توجه موسى الكليم (عليه السلام) إلى ساحة القدس الإلهي بحرقة وحزن ورقة قلب، شاكياً إلى الله سبحانه وتعالى غربته الفكرية والروحية والقيمية بين قومه وأتباعه المجبولين على البغي والعصيان والفساد، وقد خذلوه في هذا الموطن الحرج جداً، وأصابه اليأس والقنوط من تراجعهم وإصلاحهم، فلم يبقَ من هو موافق ومطيع له منهم إلا القليل، وعلى رأسهم أخيه ووزيره هارون (عليه السلام) وابنيه والرجلين الصالحين المذكورين، وأغلب بني إسرائيل على المخالفة والعصيان والخذلان له، فقال شاكياً إلى الله (عز وجل) وطالباً للنصرة: <رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ>[10] أي: إني قد أبلغت وأعذرت وأقمت الحجة على بني إسرائيل، ولا أملك التصرف في أحد لنصرة دينك وإقامة أمرك، إلا نفسي وأخي ووزيري هارون (عليه السلام) فقد أخلصنا أنفسنا إليك طلباً لرضاك عنا، وقد قمنا بواجبنا وأدينا تكليفنا الشرعي في السعي لهداية هؤلاء القوم الفاسقين العاصين، ونصحهم ووعظهم وتحذيرهم وإرشادهم إلى الحق والصواب وما يجب عليهم القيام به طاعة لك، ولأجل خيرهم وكمالهم ومصلحتهم وسعادتهم الحقيقية ونجاتهم من الهلاك والشقاء في الدارين الدنيا والآخرة، إلا أنهم تمردوا علينا وخرجوا عن طاعتك، ولا حيلة لي ولا لأخي ووزيري هارون (عليه السلام) مع هؤلاء القوم الجبناء الفاسقين لإقناعهم بالجهاد في سبيلك، ومن أجل عزتهم وكرامتهم وحياتهم الطيبة، وحملهم بالتي هي أحسن على طاعتك والاستجابة به لأمرك ونهيك ولست عليهم بجبار، وأنا الآن آيس منهم، ووصلت معهم إلى طريق مسدود، فميزنا عن جملتهم، ولا تجعل حكمهم وحكمنا واحداً، وتلحقنا بهم في العقوبة، فلسنا منهم في الحقيقة والواقع، واحكم بيننا وبينهم بالحق، بأن تحكم لنا بما نستحق على عقيدتنا وأعمالنا، وتحكم عليهم بما يستحقون بحسب عقيدتهم وأعمالهم، لكي يلقوا جزاء نفاقهم وعصيانهم وتمردهم وأعمالهم السيئة، ويبادروا إلى إصلاح أنفسهم وعقيدتهم وأعمالهم فأنت أحكم الحاكمين وأعدلهم على الإطلاق.
وقيل: ليس في دعاء موسى (عليه السلام) طلب نزول العذاب الإلهي على قومه، فقد كان بهم رحيماً مشفقاً عليهم من نزول العذاب والسخط والغضب الإلهي في الدارين الدنيا والآخرة، ولكن أراد الوسيلة إلى إصلاحهم وإعادتهم وإلى رشدهم.
وقد أجاب الله (عز وجل) على شكوى رسوله الكريم موسى الكليم (عليه السلام) بقوله: <فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الأرض>[11] أي: أن عقوبة بني إسرائيل العصاة الجبناء الذين رفضوا الانصياع لأمر الله (عز وجل) وأمر إمامهم وقائدهم الرباني موسى الكليم (عليه السلام) بالجهاد في سبيل الله (عز وجل) وقتال العمالقة، عقوبتهم في الحياة الدنيا أن الأرض المقدسة المباركة فلسطين محرمة على الذين قالوا: <لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا>[12] تحريماً تكوينياً لمدة أربعين سنة، وذلك بسبب جبنهم وسوء طبعهم وأخلاقهم ومعصيتهم لله سبحانه وتعالى ولرسوله الكريم (عليه السلام) وامتناعهم عن الجهاد في سبيل الله (عز وجل) وقتال أعداء الله العمالقة الجبارين، فيتيهون في صحراء سيناء والنقب، يذهبون ويجيئون ضائعين متحيرين فيها لا يهتدون إلى طريق الخروج منها ولا يدرون إلى أين سيكون المصير، فلا يدخل بنو إسرائيل الأرض المقدسة فاتحين ويحررونها ويملكونها، إلا بعد أربعين سنة يقضونها في التيه في الصحراء، أي: عاقب الله (عز وجل) بني إسرائيل بعقوبتين: الحرمان من دخول الأرض المقدسة والتنعم بخيراتها المادية والمعنوية، وبالتيه والضياع في الصحراء والخوف من المجهول، وهذه عقوبة دنيوية مناسِبة لما عملوه، وليس الهدف منها الانتقام منهم، بل تقويم سلوكهم وحملهم على المبادرة لإصلاح أنفسهم وعقيدتهم وأعمالهم، ولعلّ الله تبارك وتعالى كفَر بها ذنوبهم ودفع بها عنهم عقوبة أعظم منها، مما يدل على أن العقوبة الإلهية على بعض الذنوب للمؤمنين، قد تكون في الحياة الدنيا بمرض أو زوال نعمة موجودة أو نحو ذلك. ثم يدخل بنو إسرائيل إلى الأرض المقدسة فاتحين يحررونها ويطهرونها بجيل جديد صالح منهم، قد تشبع بالتعاليم الإسلامية الصحيحة النيرة والمعارف الإلهية الحقة، وتربوا على مبادئ الحقوق والحرية والإباء والعزة والكرامة ونحوها، وصقلت نفوسهم الأبية النقية حياة الصحراء القاسية ومعاناتها، ووهبت لهم الصفاء والنقاء والقوة الجسمية والنفسية، وأعدتهم لخوض غمار الجهاد في سبيل الله (عز وجل) بإخلاص نية وصدق، بقيادة الخليفة والوصي الأمين يوشع بن نون، وذلك بعد هلاك وزوال الجيل القديم الضعيف العاجز الذي تورط في المعصية والتمرد على أوامر ولي الله الأعظم موسى الكليم (عليه السلام) بشكل تدريجي وطبيعي.
وتعتبر عقوبة الحرمان من دخول الأرض المقدسة والتيه في الصحراء عقوبة مناسِبة لذنوبهم ونتيجة وجودية لها، وقد تحرر بنو إسرائيل بفعلها من الآثار السلبية المدمرة، مثل: الإحساس باحتقار الذات والذل والهوان والضعف والنقص ونحو ذلك، التي تركها العيش في ظل الاستعباد والخضوع للنظام الفرعوني الغاشم المستبد، ولم يكونوا مستعدين أبداً بسبب أثقالها الفكرية والروحية والسلوكية، لتلك القفزة الحضارية والنهوض من الركام الذي سعى إلى تحقيقه موسى الكليم (عليه السلام) ومن شأنه أن يهيئ لهم حياة جديدة أفضل، مقرونة بالشعور العميق بالحرية والعزة والكرامة والمجد.
وتعتبر هذه العقوبة سنة إلهية ثابتة في كل قوم أو شعب يتصفون بالخوف والجبن والضعف النفسي والكسل والقعود عن الجهاد والمقاومة والعمل الصالح المثمر الدؤوب من أجل البناء والتطور والتقدم المعرفي والتربوي والحضاري، والاعتماد على الصدف والأوهام وما تقدمه لهم الأمم والشعوب الأخرى المتحضرة والمنتجة والمبدعة من علوم وتكنولوجيا وفنون ومظاهر حضارية من أجل الاستهلاك، لأنها السبيل إلى حملهم على المراجعة والسعي لإصلاح أنفسهم في ظل المعاناة وقساوة الحياة والاعتماد على النفس والعمل من أجل النهوض الشامل المادي والمعرفي والروحي، والتقدم في مسيرة التكامل الإنساني والحضاري، وإقامة حكومة الحق والعدل والحرية والعزة والكرامة والفضيلة على ضوء التعاليم الإسلامية الصحيحة النيرة والمعارف الإلهية الحقة والأحكام الشرعية السمحة، للوقوف إلى صف الأمم والشعوب المتحضرة المتقدمة، وهذه هي غاية خلق الإنسان واستمرار وجوده وخوضه غمار الصراعات ومواجهة التحديات والصعوبات الداخلية والخارجية في الحياة.
الجدير بالذكر: أن الانتصارات والإنجازات التي تتحقق صدفة وبدون جهود ومعاناة وكفاح حقيقي وتضحيات تذكر لإيجادها من أبناء الشعب أو الأمة، فإنهم لا يكونون جديرين بها وحريصين عليها ويعجزون عن استيعابها ويفشلون في إدارتها وحسن توظيفها، ويشمل ذلك الحصول على التكنولوجيا المتقدمة المدنية والعسكرية، ومظاهر الحضارة المستوردة كلها، أي: يجب أن نميز بين العقلية والروحية التي تستهلكها، وأن الفضل والارتقاء الحقيقي يقوم على إيجاد الإنجازات والإبداعات وليس في اقتنائها واستهلاكها. ويجب أن نميز بين التبادل الحضاري المتكافئ الذي يساهم في إثراء الحضارة وتوازنها وتكاملها، وبين العلاقة غير المتكافئة للإنجازات بين الكسالى الخاملين المتخلفين الذين يقتنون ويستهلكون إنجازات وإبداعات الآخرين.
وقد روي أن بني إسرائيل قد لبثوا أربعين سنةً تائهين في صحراء سيناء والنقب يجولون في كل ستة فراسخ، يسيرون في كل يوم جادين، حتى إذا أمسوا أو أصبحوا وجدوا أنفسهم في منازلهم التي كانوا فيها بالأمس، فيقول بعضهم لبعض: يا قوم لقد ضللتم وأخطأتم الطريق. وبقوا على هذا الحال التعيس، حتى أذن الله تبارك وتعالى لهم بدخول الأرض المقدسة بعد أربعين سنة، هلك خلالها جميع الذين قالوا: <لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا>[13] وقال الله (عز وجل) عنهم: <فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الأرض>[14] فلم يروا الأرض المقدسة التي حرمها الله (جل جلاله) عليهم، ودخلها جيل جديد من بني إسرائيل، تربى تربية رسالية صحيحة، على يد موسى الكليم وهارون (عليه السلام) وقادهم يوشع بن نون لفتحها وتحريرها وتطهيرها، ونجح في ذلك، وتحقق الوعد الإلهي الحتمي على أيديهم بعد أن توفرت جميع الشروط لذلك. ولعل الحكمة الإلهية في مدة الأربعين سنة، أنها المدة اللازمة لهلاك أولئك الذين قالوا تلك المقولة الشنيعة: <إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون>[15] بشكل تدريجي طبيعي، وهي مقولة صادرة عن قلوب ضعيفة الإيمان واليقين متعلقة بعالم الدنيا والمادة، ولا صبر لديها على المكاره والثبات أمام الصعوبات والتحديات، وليس لديها الهمة والإرادة التي تحملها على السمو والارتقاء في معارج الكمال المعرفي والتربوي والحضاري. وليظهر جيل جديد صالح وطموح تربى على ثقافة الحقوق وقيم الحرية والإباء والعزة والكرامة، ويطلب النصر والرفعة وقهر الأعداء، ويتطلع إلى إظهار الحق ونشر الفضيلة وإقامة العدل، ويرفض الذل والهوان والاستعباد وفرض حكم الأمر الواقع عليه، مما يدل على أن الانتصارات والحتميات الإلهية التاريخية، تحتاج في تحققها إلى شروط، منها: صدق الإيمان، وإخلاص النية، وبذل الوسع في التحصيل العلمي والصناعة والعمل والجهاد ونحو ذلك، ولا يوفق إليها أو تجري على يد كل أحد.
الجدير بالذكر: أن موسى الكليم (عليه السلام) قد خص بالذكر أخيه هارون (عليه السلام) في قوله: <إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي>[16] لأنه شريك له في النبوة والرسالة، ولكونه أبرز شخصية في بني إسرائيل وأكملهم بعده، فحكمه وحكم أخيه حكماً واحداً، أو أنه بحكم نفسه، وهذا لا يعني أبداً نفي ثبات قلة من بني إسرائيل معه غير هارون (عليه السلام) وعلى رأسهم ابنا هارون (عليه السلام) ويوشع بن نون وكالب بن يوحنا وغيرهم، وقيل: المراد بأخي يؤاخيه في الدين.
وفي سنوات التيه الأربعين توفي نبي الله الكريم هارون (عليه السلام) وبعده بثلاث سنين توفي نبي الله الكريم موسى الكليم (عليه السلام). أي: أنهما توفيا عن نفس العمر تقريباً، لأن هارون (عليه السلام) يكبر موسى الكليم (عليه السلام) في العمر بثلاث سنين، وقيل: إنهما توفيا عن عمر مائتين وأربعين سنة تقريباً، قبل أن يدخلوا الأرض المقدسة، ودفنا في صحراء سيناء، وقيل غير ذلك: بشأن دخولهما إلى الأرض المقدسة. وقد خلف موسى الكليم (عليه السلام) في بني إسرائيل وصيه يوشع بن نون، وهو ابن عمه. وقيل: ابن اخته، وقد نجح في الدخول مع الجيل الجديد من بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة فاتحين وتحريرها من أيدي العمالقة الجبارين الغاشمين وتطهيرها من الشرك.