مواضيع

التعريف بهارون: تأنيب موسى الكليم (ع) لبني إسرائيل وتوبيخهم بشأن عبادة العجل

أخبر الله (عز وجل) نبيه الكريم موسى بن عمران الكليم (عليه السلام) حين كان غائباً عن بني إسرائيل في ميقات ربه لمناجاته على جبل طور سيناء، بأن السامري قد أضل بني إسرائيل بعبادة العجل الذهبي، قول الله تعالى: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ}[1] أي: امتحنا قومك الإسرائيليين واختبرناهم وابتليناهم وأوقعناهم في فتنة عظيمة بعد خروجك عنهم لميعادنا على جبل طور سيناء، ليظهروا على حقيقتهم ويتبين صدق إيمانهم أو كذبهم، ونميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، ونميز قوي الإيمان من ضعيف الإيمان، والواعي البصير من الغث الجاهل، ولتكون لنا الحجة البالغة عليهم، ونجازي كلاً بحسب عمله وبما هو عليه من حقيقة العقيدة والدين بعد إقامة الحجة، وذلك بأن سبك لهم السامري العجل مما كان في أيديهم من الحلي المصنوعة من الذهب والفضة، ودعاهم إلى عبادته والسجود له فأطاعوه؛ لأنه يوافق هوى أنفسهم، حيث طلبوا منك من قبلُ بعدَ عبور النيل، أن تجعل لهم صنماً يعبدونه وقد وبختهم على ذلك ونهيتهم عنه بشدة، وبينت لهم حقيقته، قول الله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ 138 إِنَّ هَٰؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُون}[2] إلا أنهم اغتنموا فرصة غيابك عنهم، فصنع السامري العجل، ودعاهم إلى عبادته والسجود له فأطاعوا السامري في دعوته الضالة التي توافق هوى أنفسهم، ووقعوا في فتنته، مما يدل على ضعف منطقهم وإيمانهم وتخلف تفكيرهم وتأصل الاستعداد للجحود والضلال في أنفسهم، فما كان لهذا الضلال البين أن يحدث بهذا العمق والسعة بدون أن توجد له أرضية مناسبة في أنفسهم وتفكيرهم، فلا تكن واثقاً منه بالبقاء على الدين والإيمان الذي خلفتهم عليه.

وفتنة بني إسرائيل بالعجل السامري، تدل على أهمية الابتلاء في غربلة الأمة وتأهيلها فكرياً وروحياً وسلوكياً، والارتقاء بها في سلم التكامل المعرفي والتربوي والحضاري، والوصول بها إلى درجة الخلافة الإلهية للإنسان وإقامة الحضارة الإنسانية الإلهية المتكاملة المتوازنة.

وبعد أن استوفى موسى الكليم (عليه السلام) الأربعين يوماً في الميعاد على جبل طور سيناء، ونزلت عليه التوراة وفيها كل ما يحتاجه الإسرائيليون من مسائل العقيدة والأحكام الشرعية والمواعظ والسيرة وغيرها، وأخبره ربه (عز وجل) عن فتنة السامري وضلال بني إسرائيل، رجع إلى قومه الإسرائيليين وهو في أشد حالات الغضب والأسف والحزن حيث وجد نفسه أمام أسوأ المشاهد والتوقعات في قومه، ألا وهو الانحراف عن عقيدة التوحيد والدين الحق والصراط المستقيم، إلى عبادة العجل والسجود له وهو ضلال بيّن، بعد كل ما رأوه من المعجزات النيرات الباهرات والبينات الواضحات، وقد أرهق نفسه وتحمل المصائب والمصاعب وواجه الأخطار وحمل روحه على كفه وبذل عمره طوال السنين العديدة التي قضاها فيهم في سبيل هدايتهم ووضع أقدامهم على طريق الدين الحق وتثبيتهم على الصراط المستقيم، وها هو يرى جهوده التي بذلها طوال عمره قد ذهبت أدراج الرياح مع وقوعهم في فتنة السامري المشؤومة وضلالهم وعبادتهم للعجل الذهبي وسجودهم له، ويرى ببصيرته الثاقبة آثار تلك الفتنة والضلال وأبعادهما وأخطارهما وعواقبهما السيئة المذمومة على بني إسرائيل في الدارين الدنيا والآخرة، فألقى الألواح (التوراة) من يده، لما عراه من الدهشة، ولفرط الحزن والأسف والغضب على قومه، وحمية على الدين الحنيف، وأخذ برأس أخيه هارون يجره إليه، وقيل: فعل ذلك بأخيه كما يفعل المرء بنفسه عند شدة الغضب، فهارون (عليه السلام) بمقام النفس عند موسى الكليم (عليه السلام) حيث فوجئ بالردة عن الدين الحق والتوحيد، إلى الشرك بالله سبحانه وتعالى وعبادة العجل من قومه الإسرائيليين، قول الله تعالى {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ}[3] وقد أراد بتلك الحركة المثيرة للعجب والدهشة أن يشد انتباه بني إسرائيل، ويعرفهم خطورة الانحراف والضلال الذي وقعوا فيه، وشدة الجرم الذي ارتكبوه، وعظمة الذنب القبيح جداً الذي ارتكبوه، فهو على مستوى عالٍ جداً من الخطورة إلى الدرجة التي حملته على إلقاء الألواح والأخذ برأس أخيه وجره إليه من شدة الغضب، وليوقظ عقولهم ويحرك ضمائرهم لمواجهة ذلك الانحراف والضلال الخطير جداً على حاضرهم ومستقبلهم في الدارين الدنيا والآخرة، وليردهم إلى طريق الدين الحق والصواب والفضيلة، وعليه يكون هذا العمل: «إلقاء الألواح والأخذ أخيه»، عملاً طبيعياً وسلوكاً سوياً ومناسباً في موضوعه وواقعه، بل هو سلوك أخلاقي نبيل وسامي، وواجبٌ شرعيٌ يليق بالنبوة والرسالة، وليس عملاً طائشاً أو انفعالياً مزعوماً، وكان هارون (عليه السلام) متفهماً لهذا التصرف الرسالي المسؤول من ولي الله الأعظم وأخيه وقائده وإمامه موسى الكليم (عليه السلام) وراضياً به كل الرضا الرسالي السامي، من أجل مرضاة الله  (جل جلاله)، ومصلحة بني إسرائيل العليا. وقد نجح موسى الكليم (عليه السلام) بحركته الرسالية النبيلة والمسؤولة تلك أن يشد انتباه بني إسرائيل، ويعرفهم خطورة الانحراف والضلال الذي وقعوا فيه، وأن يترك في نفوسهم الأثر التربوي البالغ، ويعيدهم إلى رشدهم وإلى طريق الدين الحق الحنيف، ويثبتهم من جديد على الصراط المستقيم والنهج القويم، فقد عرفوا قبح عملهم وبشاعة جرمهم وعظيم ذنبهم، فتابوا إلى الله سبحانه وتعالى، واستغفروه وطلبوا منه العفو والرحمة، فقبل توبتهم وغفر لهم وعفا عنهم ورحمهم. ثم توجه إلى بني إسرائيل يلومهم ويؤنبهم ويوبخهم على ما فعلوه من الضلال البين المخالف لمنطق العقل والفطرة والطبع السليم وقواعد الدين الحنيف التي علمهم إياها وبثها بينهم، فقال: {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي}[4] أي: بئس العمل ما عملتموه وبئس الصنع ما صنعتموه من بعد غيبتي عنكم لميعاد ربي على جبل طور سيناء، باتخاذكم العجل إلها وعبادتكم وسجودكم له، وهو ضلال مبين، مخالف لمنطق العقل والفطرة والطبع السليم وما علمتكم إياه ونشرته بينكم من قواعد الدين الحنيف {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا}[5] ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً بالجنة والنعيم العظيم فيها إذا قمتم على طاعته، وأن ينجيكم من عدوكم ويهلكه ويستخلفكم في الأرض ويمكنكم من الحكم والثروة ومقدرات الدولة بدلاً عنه، ويعطيكم الأرض المقدسة (فلسطين) لتسكنوها وتحكموها مطمئنين آمنين، وأن ينزل عليكم التوراة لهدايتكم، وفيها كل ما تحتاجونه من مسائل العقيدة والأحكام الشرعية والمواعظ والسيرة، وجعل في العمل بما فيها سعادتكم الحقيقية في الدارين الدنيا والآخرة، ونحو ذلك. {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ}[6] و{أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ}[7] أي: هل طال عليكم زمان غيابي عنكم في الميقات لمناجاة ربي، وعجلتم عودتي إليكم، أو أعجلتم في الحكم في أمر ربكم بأن بنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره بنهاية الثلاثين يوماً ولم تجعلوا احتمالاً لتمديده، فاعتبرتم عدم رجوعي إليكم في المدة المعلومة لديكم دليلاً على موتي أو شيئاً من هذا القبيل، أو تعجلتم أمر ربكم وطلبتموه قبل أوانه ففعلتم ما فعلتم من الشرك بالله سبحانه وتعالى والضلال عن دينه الحق، وغيرتم في الدين الحق كما غيرت الأمم قبلكم في الدين الحق بعد أنبيائها، وعبدتم العجل وسجدتم له على خلاف العقل والمنطق والفطرة والطبع السليم وما علمتم من الدين الحنيف، فكنتم بذلك من الظالمين لأنفسكم وللأجيال القادمة بعدكم. وكان الجدير بكم أن ترجعوا إلى الوصي والخليفة فيكم هارون (عليه السلام) وأن تتريثوا وتنتظروا ريثما تتضح الحقيقة وتتبين كما جرت عليه سيرة العقلاء في المسائل المهمة والقضايا الكبيرة والمصيرية، لا أن تتعجلوا وتتجاهلوا أمر ربكم الذي هو أبصر بما فيه خيركم وصلاحكم، ويجري الأمور كلها على ما تقتضيه حكمته البالغة والرحمة بالعباد وما فيه صلاح أمر دينهم ودنياهم وآخرتهم {أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ}[8] أي: أردتم بما عملتموه من الضلال وعبادة العجل والسجود له، أن يلزمكم وينزل عليكم سخط ربكم وعقوبته الشديدة المؤلمة في الدارين الدنيا والآخرة {فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي}[9] أي: أخلفتم موعدي بحسن الخلافة أثناء غيبتي عنكم، وقد وعدوه بالثبات على دين الله الحق وما تركهم عليه من الإيمان، وأن يقيموا على طاعة الله ذي الجلال والإكرام وطاعة الوصي والخليفة والإمام فيهم بعده هارون (عليه السلام) واتباعه والاقتداء به، وأن لا يغيروا ولا يبدلوا في التدين والسيرة الحسنة ونحو ذلك، إلى أن يرجع إليهم من الميقات، فيجدهم على أحسن ما تركهم عليه.


المصادر والمراجع

  • [1]. طه: 85
  • [2]. طه: 138-139
  • [3]. الأعراف: 150
  • [4]. نفس المصدر
  • [5]. طه: 86
  • [6]. نفس المصدر
  • [7]. الأعراف: 150
  • [8]. طه: 86
  • [9]. نفس المصدر
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك - الجزء الأول | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟