التعريف بهارون: استضعاف بني إسرائيل لهارون (ع)
أخبر الله (عز وجل) بني إسرائيل على لسان نبيه الكريم موسى الكليم (عليه السلام): بأن الله (عز وجل) سيهلك فرعون وجنوده أجمعين، ويقضي على النظام الملكي الفرعوني الفاسد، وأنهم سيرثون الأرض والحكم والثروة والمقدرات بعد هلاك فرعون وزوال نظامه الفاسد، وأن الله تبارك وتعالى سينزل عليهم كتاباً من عنده، يمَثّل لهم دستوراً شاملاً ينظم حياتهم الخاصة والعامة، ويبين لهم ما يحتاجونه من المعارف الإلهية الحقة، والمواعظ والأحكام والسيرة، وما ينبغي أن يسيروا عليه في أمور الدين والدنيا.
فلما أهلك الله (عز وجل) فرعون وجنوده أجمعين بالغرق في نهر النيل العظيم، ليكونوا عبرة لغيرهم الذين يأتون بعدهم، فلا يفعلوا مثل فعلهم في العناد والتعصب الأعمى والكفر وتكذيب الرسل الكرام والأوصياء الهادين المهديين (عليه السلام) وقتل الصالحين والمصلحين والمطالبين بالحقوق، وظلم العباد والطغيان عليهم، ونشر الفساد في الأرض ونحو ذلك من المفاسد والمظالم والذنوب والمعاصي والجرائم والجنايات، توجه موسى الكليم (عليه السلام) إلى ساحة القدس، وسأل ربه الكريم عن الكتاب الذي وعده بأن ينزله عليه لهداية بني إسرائيل وإصلاح شأنهم.
فأمره ربه تبارك وتعالى أن يقصد جبل الطور الذي كلمها عنده من الشجرة النورانية المباركة تكليماً أول الوحي عند عودته من أرض مدين إلى موطنه مصر ليخلو به لمناجاته، وأن يمكث فيه ثلاثين يوماً من ذي القعدة صائماً متعبداً، فلما أتم موسى الكليم (عليه السلام) الثلاثين يوماً أمره ربه تبارك وتعالى أن يواصل الصيام والعبادة لعشرة أيام أخرى من ذي الحجة، وبذلك فقد أتم موسى الكليم (عليه السلام) الصيام والعبادة لمدة أربعين يوماً، وقد وافق آخر يوم فيها يوم العاشر من ذي الحجة {وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِين لَيْلَةً}[1]، وقد وردت آيات قرآنية كريمة وأحاديث شريفة في فضل عدد الأربعين بالذات، مما يجعل له شأناً خاصاً لا يتوفر لغيره من الأرقام والأعداد، منها: عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: «ما أخلص عبد الإيمان بالله أربعين يوماً أو قال ما أجمل عبد ذكر الله أربعين يوماً، إلا زهده الله في الدنيا، وبصره داءها ودواءها، وأثبت الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه»[2].
وفي فضل العشر الأوائل من شهر ذي الحجة منها الحديث النبوي الشريف: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله (عز وجل) من أيام هذه العشرة» يعني العشر الأوائل من شهر ذي الحجة. وفي حديث آخر: «ما من أيام أزكى عند الله تعالى ولا أعظم أجرًا من خير من عشر الأضحى»[3] وقيل هي الأيام المعلومات المذكورة في القرآن الكريم، قول الله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَات}[4]، وقول الله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَات}[5]، فقد اختارها الله (جل جلاله) لذكره، وجعلها محلاً لخزانة سره، وأهلاً لتشريفها بتعظيم قدره، ومنزلاً لإطلاق بره، ومنهلاً للتلذذ بكاسات شكره، ووقتاً للدخول إليه والثناء عليه، ولها أعمال خاصة مستحبة في الشريعة المقدسة مفصلة في الكتب المعتبرة.
وبعد أن أتم موسى الكليم (عليه السلام) الأربعين يوماً في الصيام والعبادة، أنزل الله تبارك وتعالى عليه الألواح (أسفار التوراة) وفيها مبيّن كل ما يحتاجه بنو إسرائيل في مسيرتهم التكاملية المعرفية والتربوية والحضارية، من المعارف الإلهية الحقة، والمواعظ والأحكام الشرعية والسيرة، وكل ما يحتاجه بنو إسرائيل في أمور دينهم ودنياهم في ذلك الزمان، وأمره الله تعالى تبارك وتعالى بأن يعمل بما فيها ويدعو إليها بجد واجتهاد وحزم وعزم ونشاط، وبنية صادقة وخالصة لوجه الله سبحانه وتعالى، وأن يحذر من أن يفوته منها شيء، وأن يأمر قومه (بني إسرائيل) بأن يتجنبوا المعاصي والسيئات فلا يقاربوها، وأن يعملوا بما تهدي إليه التوراة وتأمرهم به من الحسنات والأعمال الصالحة، وأن يحرصوا على سلامة العمل وإتقانه والإتيان به على أحسن وأكمل وجه، وأن يأخذوا بالاحتياط ويتبعوا الأرقى والأسمى والأكمل، ويعملوا بأفضل الخيارات مما أجره أكثر من غيره فيما ترك لهم الخيار فيه ما استطاعوا إلى ذلك، مثل: كظم الغيظ والعفو بدل معاقبة المعتدي، والتجاوز عن بعض الحق بدل المطالبة به كله، والصدقة المستحبة، ونحو ذلك.
وحذرهم من مخالفة تعاليم التوراة، والفرار من التكاليف والمسؤوليات والوظائف الشرعية العبادية والمالية والجهادية ونحوها، الأمر الذي تستتبعه نتائج وخيمة وعواقب سيئة مؤلمة في الدارين الدنيا والآخرة، قول الله تعالى {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلݧْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِين}[6]، وفي الآية الشريفة دليل على أن أوامر الله (عز وجل) في كل شريعة سماوية، أوامر كاملة شاملة وعادلة وحسنة وليس فيها سيء أبداً، وأنها أنزلت على علم وهدىً ورحمة للعالمين.
كما أخبر الله (عز وجل) نبيه الكريم موسى الكليم (عليه السلام) بأن السامري – نسبة إلى قبيلة تعرف بالسامرة – قد أضل بني إسرائيل أثناء غيبته عنهم وذهابه إلى ميقات ربه، واستبطائهم رجوعه في العشر المزيدة في الميقات على الثلاثين يوماً، حيث سوّلت للسامري نفسه الأمّارة بالسوء، وكان مطاعاً في بني إسرائيل فأخذ من نسائهم ما كان معهم من الحلي التي كن يتحلين بها من الذهب والفضة وقد جلبنها معهن من مصر، فألقاها في النار فأذابها، وصنع منها تمثالاً لصورة عجل، وجعله جسداً لا روح له ولا حياة فيه، وقد صنعه بطريقة هندسية متقنة الصنع، بحيث تدخل الرياح في جوفه، فيخرج من فمه صوت كصوت الثور، وأمرهم بعبادته، – وكانت عبادة البقر موجودة في مصر آنذاك -، فأطاعوه واتخذوا جسد العجل المصنوع إلهاً وسجدوا له، رغم أنهم صنعوه بأيديهم ويرون منه الجمود وعدم الحركة، وأنه لا يرد عليهم جواباًولا يكلمهم ولا يهديهم طريق حق أو باطل مادي أو معنوي، ولا ينفعهم ولا يضرهم بشيء، وليس فيه شيء من الصفات ما يوجب أن يكون لهم إلهاً، وقد عهدوا من موسى الكليم (عليه السلام) أن الله سبحانه وتعالى يكلمه ويهديه ويدافع عنه، مما يدل على حمقهم وضعف عقولهم ومنطقهم وسفاهة أحلامهم، فهم في الحقيقة والواقع ظالمون لأنفسهم؛ لأنهم خالفوا العقل والمنطق والحق المبين، بأن أشركوا بالله سبحانه وتعالى بدون حجة ولا برهان، ووضعوا العبادة في غير موضعها، واتخذوا إلهاً لا يتكلم ولا يضر ولا ينفع، وهو من أبطل الباطل وأسمج السفه، قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِين}[7]، وعبارة <لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِين> تدل على أن الإله الحقيقي المستحق للعبادة والطاعة يجب أن يكون كاملاً من جميع الجهات، وأن تكون عبادته وطاعته نافعة للإنسان نفسه، كما تدل على أن يكون كل من يتولى وظيفة عامة مؤهلاً لها، وأن يكون وجوده فيها نافعاً للناس أكثر من غيره.
وظاهر الأخبار أن الله (عز وجل)، قد واعد موسى الكليم (عليه السلام) ثلاثين يوماً لمناجاته في جبل طور سيناء، ثم زاده عشرة أيام اختباراً لبني إسرائيل، ليعلم الله (عز وجل) إخلاصهم وحقيقة إيمانهم بعد كل ما رأوه من المعجزات والأدلة والبراهين الساطعة القاطعة، وما منّ الله تبارك وتعالى به عليهم من النجاة والخلاص من القوم الظالمين، والنعم العظيمة التي أنعم الله تبارك وتعالى عليهم.
وقد ظهر وتبين ضعف إيمانهم ومنطقهم وقلة يقينهم، واستعدادهم للكفر والجحود، رغم كل ما رأوه من المعجزات والبينات وعقلوه من الأدلة والبراهين، فأطاعوا أولياء الشيطان وعبدوا العجل وعصوا الرحيم الرحمن، ولم ينظروا بعقولهم ولم يسمعوا بنصائح الوصي الهادي المهدي هارون (عليه السلام) الذي أمرهم الله (جل جلاله) وأوصاهم موسى الكليم (عليه السلام) بطاعته واتباع أمره ونهيه فيهم، لكنهم عصوه واستضعفوه وأصروا على البقاء على عبادة العجل حتى يرجع إليهم موسى الكليم (عليه السلام) وينظروا رأيه، وكأنهم توقعوا لضعف وسفاهة تفكيرهم، بأن يتركهم موسى الكليم (عليه السلام) على الشرك والبقاء على عبادة العجل، قول الله تعالى: {وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُون}[8]، وفي الحديث الشريف عن الإمام الباقر (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «والذي نفسي بيده، لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، حتى لا تخطؤون طريقهم ولا تخطأكم سُنّة بني إسرائيل»[9].
تعليق واحد